ماذا تعني قراءة قصيدة غونتر غراس في قطاع غزة؟

أثارت قصيدة الشاعر والروائي غونتر غراس الناقدة لإسرائيل جدلاً كبيراً في ألمانيا. غير أن المؤرخ الألماني المعروف رينيه فيلدانغل يرى أن قراءة قصيدة غراس في غزة تبرز أن "ما يجب أن يقال" لم يتم قوله مجدداً، فالمثقفون والساسة والرأي العام الألماني يتنازعون حول قصيدة سيئة، لكن أحوال سكان قطاع غزة، الذين يتم تجاهلهم أثناء الحديث عن الحرب أو السلام، فلا تهمهم.

الكاتبة ، الكاتب: René Wildangel

تسببت قصيدة للشاعر والكاتب الألماني غونتر غراس بعنوان "ما يجب أن يقال" بطوفان من التعليقات والآراء لم يكن له مثيل خارج ألمانيا. لكن إذا ما نظر المرء إلى طبيعة الجدل في ألمانيا من الخارج، سيجد أن النقاش مبالغ به بشكل كبير جدا، خاصة إذا كان الناظر مقيماً في الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن الروائي الألماني غراس كتب قصيدته حول إسرائيل وإيران، إلا أن المقالات التي تناقش هذه القصيدة تركز على مواضيع فرعية، كماضي غراس والحد الفاصل بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية، وهي مسألة محاطة في حد ذاتها بالجدل وبجملة من الإشكاليات.

قراءة قصيدة غراس في غزة تظهر الجدل الدائر حولها بمنظور أكثر غرابة، فبعد رحلتي المضنية إلى قطاع غزة، عبر حاجز إيرز الحدودي، قرأت القصيدة مرة أخرى والمقالات العديدة التي ناقشتها. القصيدة لا تبدو أفضل بعد تغيير المكان، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن لهذه القصيدة أن تثير الكثير من المشاعر، بينما لا تحرك أوضاع مليون ونصف مليون شخص - أوضاع أعايشها الآن عن قرب - أي عواطف؟ ولماذا غابت المواضيع التي أراد غراس مناقشتها في قصيدته عن النقاش الدائر حالياً؟

الخطب العدائية التقليدية

د ب ا
"قراءة قصيدة غراس في غزة لا تجعل القصيدة أفضل، فهي ستبقى سيئة شكلاً ومضموناً"

​​منذ أيام يدور الجدل حول اعتبار غراس معاد للسامية أم لا. هذا النقاش اتخذ أشكالاً عجيبة، ففي ألمانيا وبعد الخطب المسهبة والعدائية للناشر الألماني هنريك برودر وأمثاله، بدأ القابعون في سراديب الثقافة والسياسة باستنزاف هذا النقاش على صفحات الموقع الإلكتروني لمجلة "شبيغل". كما قام وزير الداخلية الإسرائيلي اليميني، إيلي إيشاي، المعروف برفضه استقبال اللاجئين الأفارقة لكونهم "خطراً على الصحة العامة في إسرائيل"، بإعلان أن غراس شخص غير مرغوب فيه وأصدر أمراً بحظر سفره إلى إسرائيل، رغم أن غراس لم يكن ينوي زيارة إسرائيل. أما في إيران وبعض الدول الأخرى لاقت القصيدة دعماً من أشخاص غير مرغوب بهم ومن كارهين لإسرائيل.

قراءة قصيدة غراس في غزة لا تجعل القصيدة أفضل، فهي ستبقى سيئة شكلاً ومضموناً. وقلق غراس من "الضربة الأولى" لإسرائيل، التي "قد تبيد الشعب الإيراني" لغو سخيف، مثله في ذلك مثل وصفه الرئيس الإيراني بـ"نمر ورقي"، رغم أنه ليس كذلك على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بتحمل مسؤولية استخدام العنف المفرط خلال قمعه للمعارضة السياسية والمجتمع المدني في إيران.

عواقب وخيمة على المنطقة برمتها

إيلي يشاي،  ا ب
وزير الداخلية الإسرائيلي اليميني إيلي إيشاي رد على قصيدة غراس في الثامن من أبريل بإعلانه شخصاً غير مرغوب به وأصدر أمراً بمنعه من السفر إلى إسرائيل، رغم أن غراس لم ينوي زيارة إسرائيل.

​​وإضافة إلى ذلك، فإن الرسالة المهمة تضيع في خضم النص المرتبك، ألا وهي التحذير من ضربة عسكرية إسرائيلية محتملة ضد المنشآت النووية الإيرانية، دون امتلاك أي دليل على سعي إيران لامتلاك القنبلة الذرية. هذا العمل العسكري لم يعد مستبعداً، والتحذير من تبعاته، خاصة إشعال حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، أمر مهم للغاية، سواء في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وبالطبع في ألمانيا.

وفضلا عن ذلك هناك نقطة أخرى في قصيدة غراس كانت تستحق نقاشاً موضوعياً، ألا وهي السماح للحكومة الألمانية بتزويد إسرائيل بغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية، إذ تعتبر هذه الصفقة انتهاكاً صارخاً لسياسة ألمانيا في تصدير الأسلحة، وقد تؤدي إلى صب الزيت على النار في المنطقة بدلاً من تهدئتها.

إن اتهام منتقدي هذه الصادرات بأنهم يشككون في ضمان حق دولة إسرائيل في الوجود أمر سخيف، فالمساهمة الحقيقية في ضمان وجود دولة إسرائيل ليست من خلال تزويدها بالأسلحة، بل عبر الدعوة إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق حل الدولتين. قراءة قصيدة غراس في غزة، حيث تمنع قوارب الصيادين الفلسطينيين من مغادرة شريط ساحلي ضيق يبلغ عرضه ثلاثة أميال، وحيث يعيش الناس في خوف دائم من أن يأتيهم القصف من الجو أو البحر، يعطي بعداً آخر لقضية الغواصات الألمانية.

من يتحدث عن حق الفلسطينيين في الوجود؟ كان بإمكان غراس كتابة مقال موجز يناقش فيه كل القضايا التي يدور حولها النقاش، كالبرنامج النووي الإسرائيلي وصفقة الغواصات الألمانية والاحتلال الإسرائيلي وسياسة الاستيطان بشكل نقدي ويثري هذا الجدل بشكل بناء.

أسلوب سيء وأفكار مضللة...واستخفاف بالعقول

قراءة قصيدة غراس في غزة تبرز غياب التعاطف في كتاباته مع من يعيشون في المنطقة، فهو يوضح - بنبرة لا تخلو من التعجرف - أنه يريد مساعدة "الإسرائيليين والفلسطينيين، بل وجميع من يعيشون مكدسين جنباً إلى جنب، في هذه المنطقة التي احتلها جنون العداء". لكن الضفة الغربية وغزة لا يحتلهما جنون العداء، بل إسرائيل. لقد حال الأسلوب السيئ والأفكار المضللة في قصيدة غراس وحدهما دون الحديث بشكل مفصل عن هذه المواضيع.

د ب ا
في قصيدته اتهم الكاتب الألماني غراس الحكومة الإسرائيلية بتهديد السلام العالمي الهشّ أساساً، وانتقد في ذات الوقت تزويد ألمانيا إسرائيل بغواصات تستطيع حمل رؤؤس نووية.

​​قراءة قصيدة غراس في غزة تظهر النقاش حول إمكانية انتقاد إسرائيل في ألمانيا بشكل أسخف، إذ كيف يمكن للمرء ألا ينتقد إسرائيل، أو بالأحرى سياسة الحكومة الإسرائيلية، التي تتحمل مسؤولية الاحتلال المستمر للضفة الغربية والحصار المفروض على قطاع غزة، عندما ينظر إلى أوضاع سكان قطاع غزة؟ ليس فقط من منظور ألماني أو غير ألماني، بل من منظور قانوني وعالمي وإنساني. الحصار المستمر المفروض على غزة محض جنون، لأنه لا يسبب عواقب وخيمة على الشباب في قطاع غزة وحسب، بل يتعارض تماماً مع مصالح دولة إسرائيل الأمنية. أما التحجج بالإرهاب الذي تمارسه حركة حماس فهو استخفاف بالعقول، بالنظر إلى القبضة الحديدية التي تحكم بها حكومة حماس سكان غزة، بينما تحاول بكل يأس وقف إطلاق الصواريخ وإعادة العلاقات التجارية مع الغرب.

القول بأن انتقاد إسرائيل في ألمانيا غير ممكن أمر سخيف. لكن تعامل كثير من الألمان مع هذا الموضوع يتسم بعدم الوضوح والعجز، وهو أمر غير مستغرب على الأقل في حالة غراس بسبب ماضيه. فهم يظنون أنهم يكسرون تابوهات غير موجودة أساساً، بدلاً من تبني وجهة نظر مبنية على القانون الدولي الإنساني والقيم العالمية. بل أن غراس يتحدث عن منع نفسه "من تسمية الدولة الأخرى باسمها". ما هذا السخف؟

مسؤولية ألمانيا التاريخية تجاه الفلسطينيين

قراءة قصيدة غراس في غزة توضح أن ألمانيا تتحمل مسؤولية ماضيها ومذبحة اليهود (الهولوكوست). جزء من هذه المسؤولية يتمثل في محاربة معاداة السامية والعنصرية بكل حزم وفي جميع أنحاء العالم. إلا أن هذه المسؤولية لا تتضمن التعاطف مع حكومة إسرائيلية يمينية تقوم بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع بانتهاك حقوق الفلسطينيين ومصادرة حقوقهم، وهي لا تتضمن توريد أسلحة بالمليارات بشكل منتظم ودون انتقاد، أو حتى انتهاج الصمت في النقاش الدائر حول البرنامج النووي الإسرائيلي أو خطط الهجوم على البرنامج النووي الإيراني.

قراء قصيدة غراس في غزة تبرز أن "ما يجب أن يقال" لم يتم قوله مجدداً، إذ يجب أن يقال الكثير حول قطاع غزة، على سبيل المثال، إلا أن الصمت هو سيد الموقف. يجب أن يقال أن 80 بالمائة من سكان القطاع أصبحوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وأن البطالة وانعدام الفرص يصيبان الشباب بالإحباط، وأن اقتصاد الأنفاق يقوم بخلق مؤسسات موازية تحابي العشائر الشبيهة بعصابات المافيا، وأن الحصار الشامل وعزل القطاع جنون محض ويتسبب في إبعاد جيل بأكمله من الشباب الفلسطيني عن إسرائيل وعن العالم، ويسلبهم أبسط حقوقهم الإنسانية وكرامتهم وحرية حركتهم وإمكانيات نموهم، وأن الاحتلال الإسرائيلي يدمر مجتمعين: الفلسطيني والإسرائيلي.

قراءة قصيدة غراس في غزة تبرز الفراغ بكل وضوح، فالمثقفون والساسة والرأي العام الألماني يتنازعون حول قصيدة سيئة. لكن أحوال سكان قطاع غزة، الذين يتم تجاهلهم أثناء الحديث عن الحرب أو السلام، فلا تهمهم. هذه هي بالفعل العاقبة الوخيمة لهذا النقاش في ألمانيا.

 

رينيه فيلدأنغل
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: موقع قنطرة 2012

رينيه فيلدانغل مؤرخ ألماني معروف مختص في شؤون الشرق الأوسط أصدر دراسة تاريخية بعنوان "فلسطين والحقبة النازية" وهو يعمل حاليا مديرا لمكتب مؤسسة هاينرش بول الألمانية المقربة من حزب الخضر في رام الله.