رواية ''الصحن'' - البحث عن السعادة على شفة الهاوية

تبدو رواية "الصحن" للكاتبة الأردنية سميحة خريس وكأنها مثل للبحث عن السعادة ومحاولة التغلب على محدودية الحياة وعلى القيود العائلية التقليدية. الناقد الأدبي الألماني فولكر كامينسكي قرأ لموقع قنطرة ترجمة الرواية التي صدرت مؤخراً بالألمانية وكتب عنها هذا النقد.



لا تخاف إلهام من أي شيء أكثر من أن تنغمر حياتها في رتابة الحياة اليومية. فأمها كانت قد وقعت في نفس هذا الفخ من العادات المتصلبة والضجر المنزلي، ما دفع إلهام بأن تقتنع بأن موت أمها المبكر كان نتاجاً لهذه "الاكتفاء الباهت" بالحياة إلى جانب زوجها "الفظيع". ولا تريد إلهام أن تلقى نفس القدر الذي لقته أمها. عمرها 29 عاماً ولا زالت تعيش عند أهلها، واستطاعت أن تقاوم الضغط الذي مارسته عائلتها عليها لكي تبدأ في البحث عن زوج لها.


وبينما تخشى إلهام أن تضحي "عانساً"، إلا أنها تحلم كثيراً بالحب وبتحقيق السعادة، ولكنها لا تحلم "أبداً بالزواج"، وتخاف دوماً من أن يلاقيها نفس المصير الذي لحق بأمها، التي "تفككت" في آخر حياتها "كمسبحة صلاة" قصيرة. وفي يوم من الأيام تظهر المغامرة العاطفية التي طالما انتظرتها إلهام وكأنها ستصبح حقيقة غير بعيدة عن شقتها، وبالتحديد في الطابق السفلي، حيث تقع غرفة عمل النحات منير. هذا الشاب تعرفه إلهام بالشكل منذ وقت طويل، ويسميه سكان العمارة "ابن معلم التاريخ الغريب الأطوار".

الهروب من العزلة

غلاف الرواية بالألمانية
لغة سميحة خريس في هذه الرواية لغة شاعرية طموحة، غنية بالصور، تتخللها هنا وهناك نبرة لغة الشعر

​​ورغم أن إلهام تبدأ بزيارة منير وتتطور بينهما علاقة حب، لا تنجح هذه العلاقة الغرامية بين الجارين فعلاً في كسر روتين الأيام الباهتة. ومع أن إلهام كانت تتمتع بممارسة الجنس مع منير، ومع أنها كانت معجبة بمملكته المليئة بتماثيل الرخام، إلا أنها سرعان ما أدركت أن منير لا يحس بوجودها عندما تكون معه، بكونه فناناً منطوياً على نفسه ونرجسي الشخصية ومنشغل فقط في فنه. ومن هذا تبدأ إلهام بالشعور بالضجر معه، وهو شعور تكرهه إلهام شد الكره ولا طالما حاولت أن تهرب منه.

الكاتبة الأردنية سميحة خريس لم تنشر عدداً كبيراً من الروايات في بلدها الأردن وحسب، بل تعمل أيضاً منذ زمن طويل كصحفية في كبرى الجرائد الأردنية. وهذا ما يبعث على الدهشة هنا، لأن الرواية لا تتطرق إلى الواقع الاجتماعي قط، فالكاتبة تستغني عن أي إيماءات نصية تدل على المضمون الجغرافي السياسي لأحداث الرواية، والقارئ لا يكاد يميز في أي بلد تجري هذه الأحداث (الأردن) وعلى أي حاضر تلقي الرواية أضواءها. ومن المحتمل أن يكون السبب في هذا هو نشر الرواية في عام 2003، أي قبل وقت طويل من بدء التغيرات والتقلبات السياسية في المنطقة العربية.

في فصول قصيرة مكثفة تجعل سميحة خريس بطلة روايتها إلهام تحاول مراراً وتكراراً الهروب من العزلة التي تخشاها، ولكن سرعان ما تبوء كل هذه المحاولات تقريباً بالفشل. فوحدة إلهام، وعدم رضاها عن عائلتها، وأمنياتها غير المتحققة – كل الأشياء في هذه الرواية مصبوغة بنكهة حزينة، تزداد حدتها في مجرى الرواية. وبعد منتصف الرواية كآخر حد يبدأ القارئ بالقلق على إلهام، التي تبدو وكأنها بدأت تفقد استقرارها الداخلي تدريجياً وتحترق في نيران شوقها إلى الحب والمشاعر القوية.

بروتوكول تراوما شخصية

لكن الطموح الروائي للكاتبة يقودها في هذه الرواية إلى ما هو أبعد مما قد يظنه القارئ عن قصة إلهام في بادئ الأمر. ففي خيط سردي ثان تحكي الرواية قصة والد منير، معلم التاريخ "غريب الأطوار". في هذه الخيط السردي يبدو واضحاً كيف أن المؤلفة تريد أن تُظهر الدهاليز النفسية الداكنة ومدى اليأس عند شخصيات هذه الرواية. ويتضح ذلك في معلم التاريخ، الذي هو أيضاً وحيد، لكن قصته التي تسرد الرواية جزءً منها من منظوره الشخصي، هي بروتوكول مروع لشخصية تعاني من تراوما. معلم التاريخ رجل يائس غير قادر على بناء علاقة شخصية مع زوجته وابنه، ويكره أباه قمة الكره. ومع أنه لا يكاد يعرفها، يقع معلم التاريخ في حب إلهام بالذات. إلهام هي بالنسبة له مساحة انعكاسات يُسقط عليها أشواقه، ويُقنع نفسه في لحظات انقطاع الأمل أن إلهام هي المرأة التي كتبها القدر له.

هذه الرواية القصيرة لسميحة خريس يمكن قراءتها كمثال على البحث عن السعادة ومحاولة الهروب من محدودية الحياة ومن القيود العائلية المترسخة والمعروفة. فالكاتبة تركز في سردها على أوجاع الشخصيات التراجيدية البائسة وتصف الصراعات التي تندلع كلما اصطدمت الرغبات الجارفة التي لا تعرف حداً مع بلادة الحياة.

جنون وانفصام في الشخصية

الروائية سميحة خريس، الصورة خاص
تبدو رواية "الصحن" للكاتبة الأردنية سميحة خريس وكأنها مثل للبحث عن السعادة ومحاولة التغلب على محدودية الحياة وعلى القيود العائلية التقليدية.

​​لغة سميحة خريس في هذه الرواية لغة شاعرية طموحة، غنية بالصور، تتخللها هنا وهناك نبرة لغة الشعر. ولكن هذه النبرة "السامية" – ومع أنها تبدو مقصودة – تصعّب على القارئ في بعض الأحيان التعرف على العالم الذي تعالجه الرواية والتعاطف مع شخصياتها. أما من ناحية أسلوب السرد فهناك تيار من الأفكار يتدفق دون انقطاع ويهيمن على فصول الرواية، التي تتذبذب بين السرد من منظور الشخصية المنفردة والسرد من منظور ضمير الغائب.

هذه الطريقة في السرد تعطي فصول الرواية كثافة قصصية مشوقة وتقودها أحيانا ً إلى لحظات درامية مذهلة. وفي آخر الرواية ينتقل النص إلى شكل من الجنون الواضح والانفصام الشخصي، حيث يدمر معلم التاريخ غرفة عمل ابنه النحات، مما يدفع بالأخير إلى إدخال أبيه إلى مستشفى الأمراض النفسية.

ولا بد هنا من إبداء التقدير لجهود دار نشر "علاوي" التي نشرت هذه القصة المعقدة والمنغلقة من الناحية اللغوية باللغة الألمانية، مع العلم بأن المشاكل التي تعالجها الرواية، أي السعي إلى السعادة والبحث عن شريك الحياة المناسب - وهو بحث غالباً ما يفشل - هي مشاكل غير مرتبطة بزمن معين، حيث أن المؤلفة لا تخشى من إلقاء نظرة روائية في أعماق هاوية الفشل الإنساني. هذا ما يجعل هذا العمل الروائي مستقلا ً عن الموضات وآخر الصيحات المعاصرة.

لكن وللأسف فإن الترجمة إلى اللغة الألمانية لم تحظ بقسط كافٍ من التدقيق، لذلك ظهرت في النص الألماني المترجم بعض الأخطاء النحوية. ومع ذلك فإن ذلك لا يقلل قط من قيمة النص لدى القارئ، بسبب الصور الروائية الكثيفة والمنهج الأدبي الجاد التي تتخذه المؤلفة وتبْرع في إظهار المحن النفسية التي تعاني منها شخصيات الرواية.



فولكر كامنسكي
ترجمة: نادر الصراص
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012