رواية ''طائر القبو''...طيور مهاجرة في قفص بحثاً عن الحرية

هل يمكن لرواية ما أن يكون لها بُعد سياسي رغم أنها لا تتحدث عن السياسة مطلقاً ولا توجه نظر القارئ إلى المجتمع الذي تجري فيه أحداثها؟ بعد الانتهاء من مطالعة رواية "قبو الطيور" للكاتبة الإيرانية فاريبا فافي لا بد للقارئ أن يجيب على هذا السؤال بنعم، كما يستنتج فولكر كامينسكي الذي يقدم لنا قراءته للرواية.

ظاهرياً لا تتحدث الكاتبة إلا عن المشاكل التي تعانيها البطلة في حياتها اليومية، والمتاعب غير المتغيرة التي تلاقيها أم تربي طفلين، وكذلك الشجار الزوجي. ولكن منذ البداية هناك نص آخر باطني يظهر بين سطور السرد الذي يبدو ساذجاً، هذا النص الباطني يتسلل من بين معالم العالم الصغير الذي تصفه الكاتبة، فيجعله يومض ويتلألأ.

امرأة إيرانية شابة (بدون اسم في النص) تحكي عن الحي الجديد الذي تعيش فيه (في مدينة إيرانية كبيرة هي الأخرى بلا اسم) حيث انتقلت مع زوجها وأطفالها لتعيش هناك.

كل شيء جديد وغريب بالنسبة لها: "هذه هي جمهورية الصين الشعبية"، تقول الجملة الأولى في الرواية. ولكن في الحقيقة فإن المرأة لم تكن أبداً في الصين. إنها الصين كما تتخيلها: ضجيج وفوضى وازدحام بالبشر".

​​حنين إلى الحرية

ولكن المقارنة مع الصين (وبعد صفحتين تأتي المقارنة مع الهند) لم تكن صدفة على الإطلاق. فهذان البلدان غريبان وبعيدان، وهكذا هي أيضاً تشعر بالغربة وبأن أقداراً غريبة تتحكم في مصيرها وفي دورها الجديد كأم وزوجة. إنها تشعر بحنين هائل لا يهدأ، بل إن هذا الحنين يتسبب في فشل زيجتها. هذا الحنين هو الحنين إلى الحرية.

بالسرد الهادئ الخافت النبرة تبدو الصراعات في هذه العائلة في البداية وكأن القارئ يراها من خلال عدسة مُصغِّرة. أحداث مثل موت الوالد، والوحدة التي تعاني منها الأم لا يتم الحديث عنها إلا عَرَضاً، أما الزيارات المنتظمة للشقيقات والجلوس معاً فإنها تثير انطباعاً بأن العالم على ما يرام.

لكن المظاهر خداعة، فالعالم الذي تأتي منه الراوية هو في الحقيقة عالم مليء بالعنف والوحشية، فهي نشأت "مع آلاف المخاوف"، مع خوفها الدائم من أن يضربها عمها، ثم العقوبات الكثيرة التي كانت تجبرها على الجلوس وحدها في قبو مظلم وهي طفلة.

كما أن وفاة الأب حدثت في ظروف سببت لها صدمة عصبية: كان الرجل العجوز الذي عانى من الخرف قد نُقل مع سريره إلى القبو حيث كانت الابنة تسمعه وهو يشكو ويبكي ساعات وساعات دون أن يذهب إليه أحد.

تريد الشابة أن تشعر بأنها كيان فردي مستقل. لم تعد تريد أن تعاني من المخاوف والضغوطات، كما لم تعد تريد أن تتشبث، بسبب قلة حيلتها، بعائلتها وزوجها.

طائر في قفص

ولكن هذا الهدف يبدو بعيد المنال، إذ أنها تفشل في التوافق مع زوجها أمير على صيغة المستقبل المشترك. تسيطر على أمير فكرة الهجرة إلى كندا، فهو لا يستطيع تخيل مستقبل له في إيران."إذا بقينا هنا فلن يتغير شيء"، هكذا كان حكم أمير القاطع.

ويقول لزوجته: "إذا بقيتِ هنا فسيتدهور بك الحال. لا مستقبل لكم هنا، لا لك ولا للأطفال". تقديرات أمير للأمور تبدو واضحة، غير أنه لا يكاد يفعل شيئاً لتنفيذ خططه.

​​

وهكذا تظل رغبته في الهجرة، إنها محض أحلام لا تغيب عن باله؛ يبدو أمير مثل "طائر مهاجر يتحتم عليه أن يحيا في القفص". وبين الحين والآخر يقوم برحلة بشنطته الصغيرة على الظهر، تاركاً زوجته وأطفاله وحدهم. لكنه لا يلبث أن يعود بعد فترة، دون أن يكون قد وصل إلى أبعد من مدينة باكو.

بوسائل بسيطة وباستعارات مؤثرة وجديدة تعكس الرواية واقعاً حياتياً يعايشه المرء يومياً في إيران الحالية. في مقال جاء على شكل تعقيب يصف الكاتب الألماني الإيراني سعيد الرغبة في الهجرة بأنها "سراب" منتشر انتشاراً كبيراً في إيران اليوم.

ويضيف سعيد أن "خمسة ملايين من الإيرانيين غادروا البلاد منذ قيام الثورة الإسلامية – سواء عن طريق مشروع أو غير مشروع ... يدفعهم الظمأ إلى بلد أفضل، إلى حياة أفضل".

الروائية الإيرانية فاريبا فافي.  www.bcwt.org
الروائية الإيرانية فاريبا فافي تعيش في طهران، وألّفت العديد من الروايات التي تُرجِمَ بعضها إلى اللغات: التركية والفرنسية والألمانية.

​​صراع من أجل الحرية

غير أن عديدين يجدون أنفسهم مجبرين على البقاء والتأقلم مع الأوضاع – كالكاتبة نفسها التي تعيش حتى اليوم مع عائلتها في طهران. رواية "قبو الطيور" صدرت عام 2002 في إيران، وهي أولى روايات الكاتبة التي حصلت عنها على عدة جوائز دولية.

وتصور الكاتبة من خلال شخصية بطلة الرواية الصراع من أجل الحرية الذي يتحتم على إمرأة شابة أن تخوضه في حياتها الخاصة، وأيضاً بالنيابة عن عديدين من الناس.

في كل يوم تجد البطلة نفسها مجبرة على التعامل مع واقع لا يسمح لها بالهجرة، واقع يواجهها بمجتمع يفرض قواعده الرجال. أما "طائر القبو" الوارد في العنوان فهو كالنجمة المضيئة التي تهديها إلى الطريق الصحيح خلال حياتها، ومنها تستمد الحرية في الخروج من قوقعتها واكتساب خبرات حياتية، وهو ما تفعله البطلة بالفعل في آخر فصول الرواية.

إنها تهجر الرجل المصدوم الذي لم تعد تحبه منذ فترة طويلة، وتلوّح للأطفال الذين يقفون بجوار النافذة متابعينها بنظراتهم. "هل جُننتُ؟"، تسأل البطلة نفسها. "وهل من الممكن ألا يكون كل منا مجنوناً؟".

حب للقبو أحياناً

تسود الرواية نبرة ساخرة يبدو من خلالها كل شي ممكناً، ولكن لا شيء يتولد مصادفةً. الصور المنتقاة تمتلك بلاغة عالية، أما ملامح حياة الشابة التي تبدو في البداية وكأنها تجلس في فخ فهي ملامح واضحة ودقيقة: حياة بين المطبخ والقبو، بين الأطفال والزوج، ودائماً هناك هذا الشعور بأنها تتحمل فوق طاقتها.

لكن المرأة تعرف كيف تنتزع حرياتها الصغيرة شيئاً فشيئاً، بل حتى الأماكن التي كانت حتى ذلك الوقت تصيبها بالفزع تفقد الرعب الكامن فيها. "أحب القبو"، تقول البطلة في خاتمة الرواية، "وأعود إليه في بعض الأحيان ... لقد اتضح لي منذ فترة أنني أحمل، حيثما ذهبتُ، قبواً في داخلي".

بهذه البساطة والدقة تعبر الرواية عما يعتمل في نفس شخصية تتغير وتتبدل، شخصية لا تتخلى عن صراعها من أجل التحرر، حتى وإنْ ظهر الصراع بلا أمل في البداية.

 

فولكر كامينسكي
ترجمة: صفية مسعود
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013

رواية "طائر القبو" للروائية الإيرانية فاريبا فافي، مع تعقيب للكاتب الإيراني سعيد. تُرجمت الرواية إلى الألمانية تحت عنوان Kellervogel من قِبَل باروين أباكي. ونَشَرت الرواية دار روت بوخ (Rotbuch) في سبتمبر/ أيلول 2012، وعدد صفحاتها 160 صفحة.