أوروبا...من منارة للتنوير والحداثة إلى قارّة محافِظة وانعزالية

يرى الأديب التركي أوروهان باموك الحائز على جائزة نوبل أن الهوية والمرجعية الدينية حين يرسمان حدود أوروبا فإن هذا يشكّل تراجعاً بائساً لتاريخ أوروبا التنويري، ويرى أن على أوروبا في زمن الأزمة المالية عدم السماح بأن تتملكها المخاوف ممن يختلف عنها في الهوية .

الكاتبة ، الكاتب: Orhan Pamuk

عشتُ حياتي كلها على حدود القارة الأوروبية في اسطنبول. من نافذة بيتي أو من نافذة مكتبي كنت أنظر إلى مضيق البوسفور، وأرى حدود قارة آسيا على الجانب الآخر؛ وحين كنت أفكر في أوروبا وفي الحداثة كنتُ أشعر بنفسي على الدوام شخصاً ريفياً بعض الشيء، مثل ساكني بقية مناطق العالم.

كالملايين الكثيرة التي تعيش خارج العالم الغربي كان عليّ أن أتمعن في هويتي الذاتية وأنا أراقب أوروبا عن بُعد. وهكذا تساءلتُ كثيراً خلال بحثي عن هويتي ماذا يمكن أن تعني أوروبا لنا جميعاً.

هذه التجربة أتقاسمها مع السواد الأعظم من شعوب العالم، ولكن لأن اسطنبول، مدينتي، تقع حيثما تبدأ أوروبا – أو ربما حيثما تنتهي أوروبا – فقد كانت أفكاري وكان استيائي دائماً أكثر إلحاحاً وأكثر استمرارية.

نشأت في عائلة من العائلات الاسطنبولية الكثيرة التي تنتمي للشريحة العليا في الطبقة المتوسطة، تلك الشريحة التي استوعبت وساندت كل المساندة الإصلاحات الساعية إلى الغربنة والعلمانية التي طبقها في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك.

بالنسبة إلينا، نحن الذين عشنا حياة الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة في اسطنبول منتصف القرن العشرين، كانت أوروبا أكثر من مجرد مكان يمكن للمرء أن يجد فيه عملاً أو يمارس معه التجارة، أكثر من مجرد مكان نحاول اجتذاب مستثمريه؛ لقد كانت أوروبا في المقام الأول منارة للحضارة.

أورهان باموك. د ب أ
أورهان باموك أوَّل تركي يحصل على جائزة نوبل على الإطلاق. وقد كُرِّمَ بجائزة نوبيل للآداب عام 2006.

​​إطلاق الأحلام لتطير بحرية أكبر

في هذا الموضع عليّ أن أبرز حقيقة هامة: لم تكن تركيا أبداً في أي فترة من تاريخها مستعمرة لأي قوة غربية، كما لم يقمعها في يوم من الأيام الاستعمار الأوروبي.

وهذا ما سمح لنا لاحقاً بأن نطلق أحلامنا الخاصة بالغربنة على النمط الأوروبي لتطير بحرية أكبر، بدون أن ننكأ جراحات تجارب أليمة سابقة أو أن نثير مشاعر الذنب.

قبل ثماني سنوات حاولت أن أقنع المصغين إلى كلماتي بأن كل شيء سيكون رائعاً إذا انضمت تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

كانت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي وصلت في أكتوبر/ تشرين الأول 2004 إلى ذروتها. وكان يبدو أن الرأي العام وجزءاً كبيراً من الصحافة في تركيا يشعران بالسعادة لأن المفاوضات الرسمية ستبدأ بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.

الاعتراضات تتعالى يوماً بعد يوم

بعض الصحف التركية تكهنت تكهنات متفائلة وقالت إن الأمور ربما تتطور بسرعة شديدة، وإن تركيا قد تصل إلى مكانة عضو كامل العضوية في غضون عشر سنوات، أي مع حلول عام 2014.

صحف أخرى نسَجَت حكايات خيالية عن الامتيازات التي سيتمتع بها المواطنون الأتراك بمجرد تأمين العضوية الكاملة لهم، لا سيما الاستثمارات التي ستتم، والثروات التي ستنهمر عليهم من كافة صناديق الاستثمار الأوروبية والتي ستجد طريقها إلى تركيا.

وهكذا فإننا – مثل اليونانيين – سنصعد كلنا على السلم الاجتماعي خطوة إلى أعلى وسنعيش عيشة هانئة مثل بقية الأوروبيين.

في الوقت ذاته شَرَعَ صوت جوقة الاحتجاجات المحافظة القوموية يزداد علواً، لا سيما في ألمانيا وفرنسا. وهكذا وجدت نفسي في وسط هذا النقاش من جديد وبدأت أسأل نفسي (وآخرين أيضاً) عما تعني أوروبا بالفعل.

عندما يرسم الدين الحدود الفاصلة في أوروبا، هكذا فكرتُ، تكون أوروبا حضارة مسيحية – في هذه الحالة ربما تنتمي تركيا – التي يدين سكانها بنسبة تصل إلى 99 في المئة بدين الإسلام - من الناحية الجعرافية إلى أوروبا، ولكن لن يكون لها مكان في الاتحاد الأوروبي.

رئيس الوزراء التركي إردوغان والمستشارة الألمانية ميركل. د أ ب د
مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي جامدة حالياً : رئيس الوزراء التركي إردوغان يعزو الجمود الحالي في مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي إلى عدة أسباب ليس أقلها الأزمة المالية الأوروبية.

​​ولكن هل سيرضى الأوروبيون بتعريف ضيق كهذا لقارتهم؟ لم تكن المسيحية في خاتمة المطاف هي التي جعلت أوروبا نموذجاً بالنسبة للناس في العالم غير الغربي، بل سلسلة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك الأفكار التي نمت من تلك التحولات وتطورت عبر السنين.

هذه القوة، التي لا يمكن تحديدها والتي جعلت من أوروبا خلال القرنين الماضيين نقطة جذب بالنسبة للذين يعيشون في باقي أنحاء العالم، هي – إذا اخترنا التبسيط – الحداثة.

وكما تعلمنا من كتب التاريخ الموثوق بها فإن الحداثة نتاج تطور أوروبي حتى النخاع، مثل النهضة والتنوير والثورة الفرنسية والثورة الصناعية. الأمر الحاسم في ذلك التطور يكمن في أن القوى التي وقفت خلف هذا التحول في المفاهيم لم تكن قوى دينية، بل "علمانية".

في كل مرة كان يُطرَح فيها قبل سنوات موضوع الاتحاد الأوروبي للنقاش، كنت أقول إن تركيا يجب أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي طالما أنها تحترم مبادئ مثل الحرية والمساواة والإخاء.

"ولكن هل تحترم تركيا هذه المبادئ؟"، كان الناس عندئذ يسألونني هذا عن حق – وهكذا كان النقاش يبدأ من جديد.

عندما أتذكر اليوم تلك الفترة فلا أستطيع إلا أن أشعر بالحنين، إذ أننا – سواء في تركيا أو في أوروبا – كنا نتناقش بحماس حول القيم التي يجب أن تمثلها القارة.

أوروبا تشيح بوجهها عن العالم

اليوم، ولأن أوروبا تكافح من أجل التغلب على أزمة اليورو، ولأن توسع الاتحاد الأوروبي يتم ببطء، فإن قلائل منا هم الذين يتجشمون مشقة التفكير في هذه الموضوعات والحديث عنها.

ومن سوء الطالع أن الاهتمام الإيجابي بشأن العضوية المستقبلية المحتملة لتركيا قد اضمحل كذلك. ويرجع هذا جزئياً إلى أن حرية الفكر في تركيا كانت وما زالت في وضع متدنٍ يدعو للرثاء.

ولكن السبب الأهم في ذلك بلا شك هو التيار القوي من المهاجرين المسلمين من شمال أفريقيا وآسيا الذي زحف على أوروبا؛ هذا التيار يُلقي – في رأي كثير من الأوروبيين - بظلال كثيفة من اليأس والمخاوف على تصور إمكانية انضمام دولة غالبية سكانها من المسلمين إلى الاتحاد الأوروبي.

من الواضح أن هذه المخاوف هي ما تحمل أوروبا على تشييد الأسوار حول حدودها وأن تشيح بوجهها شيئاً فشيئاً عن العالم. وبينما يطوي النسيان تدريجياً شعار "الحرية والمساواة والإخاء" فإن أوروبا تغدو يوماً بعد يوم – للأسف – مكاناً محافظاً تسوده الهويات الدينية والعرقية.

 

أورهان باموك
ترجمة: صفية مسعود
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: زُودويتشه تسايتونغ/ قنطرة 2012

وُلِدَ أورهان باموك عام 1952 في اسطنبول، وهو حائز على جائزة نوبل للآداب. النص المطبوع هنا هو مقتطف من كلمة الشكر التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة زونينغ للثقافة الأوروبية في كوبنهاغن.