موازين القوى في الشرق الأوسط...خريطة متغيرة باستمرار

أدى اندلاع الانتفاضات العربية إلى تغيير مستمر لموازين القوى في دول الشرق الأوسط وباتت معظم مَواطن القوة والضعف للجهات السياسية الفاعلة مشروطة وغير يقينية ومتوقفة على عوامل أخرى، كما يرى الخبير الألماني فولكر بيرتيس.

الكاتبة ، الكاتب: Volker Perthes

كان اندلاع ثورات الربيع العربي في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011 سبباً في وضع علاقات القوة بين دول الشرق الأوسط في حالة من التقلب والتغير المستمرين، وظهر على الساحة فائزون وخاسرون. ولكن لأن مواطن القوة ونقاط الضعف لدى أغلب الكيانات الفاعلة مشروطة أو متوقفة على عوامل أخرى إلى حد كبير، فإن موازين القوى الإقليمية لا تزال مائعة للغاية.

الوضع المصري يؤثر على المناخ العربي

بالنظر إلى الوضع الذي أصبح عليه هذا التوازن الآن، فإن مصر تظل تضطلع بدورها كأحد الكيانات الفاعلة الأعظم تأثيراً في المنطقة، فنجاحها أو فشلها يؤثر في إدارة عملية الانتقال السياسي والاقتصادي بشكل مباشر على الكيفية التي تتطور بها الأمور في دول عربية أخرى. ولكن مصر مثقلة بهموم داخلية، بما في ذلك الاقتصاد المتراجع والوضع الأمني الذي استدعى استخدام المؤسسة العسكرية في أداء مهام الشرطة.

وسوف يتوقف توسع قوة مصر الناعمة على قدرة أول حكومة منتخبة ديمقراطياً هناك، بقيادة الرئيس محمد مرسي، على اتخاذ قرارات صعبة وصياغة الإجماع الداخلي وتشكيله. والنجاح في إقامة حكم فعّال كفيل بتأسيس نموذج قد تسعى العديد من الدول المجاورة لمصر إلى محاكاته، ولو جزئياً على الأقل.

تركيا تستند إلى قوة اقتصادها

وفي هذا السياق، تشكل تركيا مثالاً جيدا. ذلك أن قوة تركيا تستند في الأساس إلى اقتصادها النشط النابض بالحياة. فاستخدام قوتها العسكرية المثيرة للإعجاب كأداة من أدوات القوة محدود للغاية، كما تبين الآن أن نفوذها السياسي كان مبالغاً في تقديره، وخاصة في سوريا. ومن المؤكد أن تقاربها مع إسرائيل، والأهم من ذلك إقرار السلام الدائم مع سكانها الأكراد، من شأنه أن يعزز من نفوذ تركيا الإقليمي.

وتظل إسرائيل أيضاً فائزة في الإجمال، على الرغم من البيئة الاستراتيجية المتغيرة وافتقارها فعلياً للقوة الناعمة في المنطقة. والواقع أن السقوط الوشيك لعدو إسرائيل الأكثر جدارة بثقتها، الرئيس السوري بشّار الأسد، يثير مخاوف إسرائيل بقدر ما أثارت مخاوفها خسارة حليفها الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

الرئيس السوري بشار الأسد. د ب أ
"السقوط الوشيك لعدو إسرائيل الأكثر جدارة بثقتها، الرئيس السوري بشّار الأسد، يثير مخاوف إسرائيل بقدر ما أثارت مخاوفها خسارة حليفها الرئيس المصري السابق حسني مبارك"، كما يرى الخبير الألماني فولكر بيرتيس.

​​إسرائيل في أمان وقطر تدعم الثورات

ولكن الآن وبحكم أن إمكانات إسرائيل الاقتصادية وقدرتها على الردع أصبحت أقوى من أي وقت مضى، فإن أياً من اللاعبين الإقليميين لا يستطيع أن يشكل تهديداً أمنياً حقيقياً لها في الأمد القريب.

ومن ناحية أخرى، أثمرت الآن الجهود الحثيثة التي بذلتها دولة قطر لتوسيع نفوذها على مدى العقدين الماضيين، في ظل قوة الجذب الكبيرة المتنامية التي اكتسبتها البلاد. فمنذ عام 2011، كانت قطر حريصة على تصعيد اضطلاعها بشؤون جيرانها، فدعمت الثورة الليبية، والحكومة المصرية، والمعارضة السورية.

ولكن ربما يبالغ القطريون في تقدير إمكانات أنفسهم. صحيح أن قطر لديها المال، ولكنها لا تملك أياً من عناصر القوة الصارمة الأخرى، كما كانت محل انتقاد بسبب تدخلها في سوريا ودعمها للإخوان المسلمين. وإذا فشلت قطر في استخدام مواردها بحكمة، فربما تفقد الشرعية التي تحتاج إليها لتعزيز دورها كدولة راعية.

سوريا تفقد نفوذها

ومن ناحية أخرى، تسلط الحرب في سوريا الضوء على ضياع ما كان لها من نفوذ كبير في المنطقة ذات يوم. بل إن سوريا أصبحت اليوم هدفاً لصراع جيوسياسي بين جهات فاعلة إقليمية أخرى. بيد أن الجهود التي تبذلها دول الخليج لتسليح المعارضة السورية لا تكفي لوضع الصراع على مسار نهائي، وخاصة في ظل الأسلحة الثقيلة الموجودة تحت تصرف نظام الأسد. كما عجزت المعارضة عن الاستيلاء لنفسها على ما خسره الأسد من سمعة ونفوذ.

الواقع أن سوريا، بصرف النظر عن توازن القوى بين النظام ومعارضيه، ربما تعجز عن إعادة تأسيس حكومة مركزية قوية قبل مرور عقود من الزمان، إذا كان ذلك وارداً على الإطلاق. وفي أفضل الأحوال، فإن سوريا سوف تخرج من الصراع الحالي بدولة غير مركزية أو فيدرالية؛ أو ربما ما هو أسوأ من ذلك، أن تسلك الدولة الطريق الذي سلكته الصومال. وفي كل الأحوال فإن سوريا حالياً تظل في المعسكر الخاسر بقوة.

طائفية المالكي وصعود الأكراد

وكان بوسع العراق أن يصبح فائزا، لو تمكن من ترجمة تعافي صناعة النفط لديه وانسحاب القوات الأميركية إلى استقرار سياسي ونفوذ إقليمي. ولكن في ظل حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي التي تعتبر على نطاق واسع مجرد نظام طائفي استبدادي آخر فإن العراق لن يتمكن من اكتساب أي قدر من القوة الناعمة.

وعلاوة على ذلك فإن احتمالات تمكن كردستان العراق من إقامة دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع أو بحكم القانون أصبحت الآن أعظم من أي وقت مضى. بل وقد يتمكن أكراد العراق من تمديد نفوذهم إلى المناطق المأهولة بسكان أكراد في شمال سوريا، وهو ما من شأنه أن يحولهم إلى قوة إقليمية أكثر تأثيراً حتى من الحكومة العراقية في بغداد.

إيران مع السعودية في سفينة النجاة؟

أما إيران المجاورة فتبدو وكأنها الناجي الأساسي الأكثر أهمية. فقد نجحت في التكيف مع العقوبات الخانقة المتزايدة الشدة التي يفرضها عليها المجتمع الدولي، في حين حافظت على برنامجها النووي ولا تزال تشارك في العملية الدبلوماسية مع مجموعة (الخمسة زائد واحد)، وهي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا. كما نجحت إيران في تعزيز نفوذها في العراق، وساعدت في الإبقاء على نظام الأسد، حليفها الأساسي، في السلطة لفترة أطول كثيراً مما كان متوقعا.

المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي.  د ب أ
"أصبح من الصعب للغاية بالنسبة لإيران، ذات الأغلبية الشيعية المهيمنة، أن تكتسب النفوذ في الدول ذات الأغلبية السُنّية. كما يعمل دعم إيران لنظام الأسد الوحشي في سوريا على إلحاق المزيد من الضرر بقوتها الناعمة التي كانت كبيرة ذات يوم في دول عربية أخرى"، كما يرى الخبير الألماني فولكر بيرتيس.

​​لكن ارتفاع حدة الاستقطاب السياسي في المنطقة من شأنه أن يقوض موقف إيران. فمع تعريف الصراعات الإقليمية على نحو متزايد على طول خطوط سُنّية شيعية، أصبح من الصعب للغاية بالنسبة لإيران، ذات الأغلبية الشيعية المهيمنة، أن تكتسب النفوذ في الدول ذات الأغلبية السُنّية. كما يعمل دعم إيران لنظام الأسد الوحشي في سوريا على إلحاق المزيد من الضرر بقوتها الناعمة التي كانت كبيرة ذات يوم في دول عربية أخرى.

وبوسعنا أن نحتسب المملكة العربية السعودية أيضاً بين الناجين، في ظل المحاولات التي تبذلها للتغلب على انعدام الأمن الاستراتيجي العميق النابع من الجهود الإيرانية الرامية إلى تقويض موقفها، والاضطرابات الاجتماعية في جارتها وحليفتها البحرين، وصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر. كما أصبحت المملكة العربية السعودية متشككة على نحو متزايد من حلفائها الأميركيين، الذين تعتمد عليهم البلاد في ضمان أمنها.

وفي الوقت نفسه، تواجه القيادة السعودية تحديات داخلية كبيرة، بما في ذلك التفاوت الاقتصادي الهائل بين الناس، وقصور الخدمات، والإحباط المتنامي إزاء الافتقار إلى الحرية السياسية، وعملية توريث الحكم الصعبة بين أفراد الأسرة المالكة. ولكن برغم تضاؤل القوة الناعمة التي تمتلكها المملكة العربية السعودية، فإن ثروتها الهائلة من النفط من المرجح أن تضمن لها البقاء كقوة إقليمية من الوزن الثقيل.

أقليات تصعد وأخرى تخاف

وأيضا، تلعب كيانات فاعلة غير تابعة لدولة بعينها دوراً حاسماً في ميزان القوى في الشرق الأوسط. فقد أصبحت الأقليات الدينية أقل شعوراً بالأمان، في حين يكتسب الأكراد الذين كانوا مقهورين ذات يوم المزيد من الأرض الآن. ومن بين الجماعات السياسية الانتقالية الرئيسية، كانت جماعة الإخوان المسلمين الفائز الأشد وضوحاً حتى الآن.

ولكن النجاح يجلب معه التحديات. ويتعين على الحكومات التي يقودها إسلاميون أن تفي بوعودها وتعهداتها على الجبهة الاجتماعية الاقتصادية، مع العمل على بناء المؤسسات الديمقراطية. ومن عجيب المفارقات هنا أن الإسلاميين لن يتسنى لهم أن ينسبوا لأنفسهم النجاح في بناء دولة أفضل إلا عندما يتقبلون أول هزيمة انتخابية لهم. والواقع أن التحدي الذي يواجه جميع الفائزين في المنطقة حالياً يتلخص في ترجمة مكاسب اليوم إلى قوة جديرة بالمصداقية في الأمد الأبعد.

 

 

فولكر بيرتيس
ترجمة: إبراهيم محمد علي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: بروجيكت سينديكيت 2013