الشعارات النجادية تهمش قضايا العرب المركزية

يحذر الكاتب والباحث الإعلامي المعروف خالد الحروب من تداعيات طبيعة خطاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد كونه يؤدي إلى إضعاف القوى المعتدلة في الشرق الأوسط ويزيد من تهميش القضايا العربية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

صورة رمزية،
"وجود نجاد على رأس الحكم في طهران لمدة أربع سنوات أخرى لن يجلب للعرب وقضياهم المحورية إلا مزيداً من التهميش الإقليمي والدولي"

​​ ليس هناك دواع فلسطينية أو عربية للغبطة الساذجة بسبب إعادة انتخاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. هناك دواع موضوعية للشعور بعكس ذلك تماماً، إذ إن وجود نجاد على رأس الحكم في طهران لمدة أربع سنوات أخرى لن يجلب للعرب وقضياهم المحورية إلا مزيداً من التهميش الإقليمي والدولي. فالإنجاز الأهم لإيران النجادية على الصعيد العربي الإقليمي خلال السنوات الماضية يتمثل في إزاحة الملف الفلسطيني عن "مركزيته" الإقليمية واستبداله بـ "الخطر الإيراني النووي على إسرائيل". عوض أن تظل فلسطين هي القضية الأهم، وعوض أن يبقى الاحتلال الإسرائيلي هو بؤرة الاهتمام وجوهر أي سياسة سلمية في المنطقة، أصبحت إيران هي القضية.

فتح نجاد ملفات لفظية لها عواقب كارثية على صعيد الصراع مع إسرائيل ولا قيمة لها عملياً إلا بكونها ذات أثر عكسي مدمر، أهمها شعارات عقيمة على غرار محو إسرائيل من الخارطة وإنكار حقيقية الهولوكست التاريخية، لا الأول هدف تريد تحقيقه إيران فعلاً، ولا الثاني قضية الفلسطينيين أو محط اهتمامهم.

الخطاب النجادي في خدمة المصالح القومية الإيرانية

ثمة قراءة في الخطاب النجادي تريد أن ترى فيه عمقاً وإستراتيجية بعيدة المدى، وهو أمر مشكوك في وجوده مسبقاً، وعلى أكثر تقدير يكون قد ألحق تالياً بعد أن تكرس ذلك الخطاب لفظياً. تقول هذه القراءة إن رفع سقف المواجهة مع إسرائيل ولو لفظياً يعني موقفا تفاوضيا لإيران أقوى عندما تأتي اللحظة الحقيقية، وهي، للمفارقة، لحظة تفاوضية مع الغرب ومعه إسرائيل، وليست لحظة حربية! في قلب التفاوض الغربي ــ الإيراني تكمن مجموعة من المصالح القومية الإيرانية التي لها علاقة بنفوذ إيران الإقليمي، وموقعها، وعدم التحرش الغربي بنظامها.

من حق إيران بطبيعة الحال أن تحاول، كأي دولة أخرى، أن تعزز موقعها إقليما ودوليا وتدافع عن مصالحها. وأن تستخدم في ذلك ما تريد أن تستخدمه من مسوغات وشعارات. لكن هذا ليس مسوغاً لأي انجراف عربي وراء تسييس إقليمي تقوده إيران يستهدف تحقيق مصالح إيرانية قومية.

"في قلب التفاوض الغربي ــ الإيراني تكمن مجموعة من المصالح القومية الإيرانية التي لها علاقة بنفوذ إيران الإقليمي"

​​ بيد أن سياسة رفع السقف الشعاراتي والبلاغي النجادية قادت إلى كوارث سياسية، وربما ستقود إلى كوارث حربية أيضاً. أول هذه الكوارث أن إسرائيل التقطت الخطاب النجادي وبروزته كخطر وجودي عليها يريد تنفيذ هولوكست آخر ضد اليهود وهذه المرة في المنطقة. الاستخدام الإسرائيلي لفظاعة الخطر الإيراني مُبالغ فيه بشكل جارف، والقصد الإستراتيجي والأهم من استخدامه هو تحويل الاهتمام عن واقع الاحتلال الإسرائيلي، وتهميش القضية الفلسطينية كلياً.

ورغم اتساع الإدراك العام بأهداف إسرائيل الحقيقية من وراء تضخيم الخطر الإيراني، إلا أن تواصل التهديدات النجادية، والتصريحات الجوفاء، بمناسبة أو بدونها حول محو إسرائيل وإنكار المحرقة كان يشبع نهم السياسة الإسرائيلية الباحثة دوماً عن تهديدات أمنية وجودية لتتذرع بها لمواصلة سياستها المرفوضة دولياً. وبعد عدة سنوات عجاف من النجادية الإقليمية فإن الخلاصة التي نراها الآن هي نجاح إسرائيلي في فرض "قضية إيران" على رأس الأجندة الإقليمية والدولية، عوضاً عن القضية الفلسطينية، التي لا زالت تمثل القضية المحورية في الشرق الأوسط.

هل تقبل طهران ما يقبل به الفلسطينيون؟

مقابل الشعار المرتفع الذي يريد تحقيق مصالح إستراتيجية تفاوضية فإن جوهر الموقف الإيراني إزاء الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني لا يتعدى ما أعلنه أكثر من مسئول إيراني من أن طهران "تقبل ما يقبل به الفلسطينيون". بمعنى آخر، براغماتي وصريح، فإن السياسة القومية الإيرانية التي بوصلتها مصلحة إيران، ليس في مصلحتها على الإطلاق خوض صراع حقيقي أو عسكري مع إسرائيل. ولن تغلي طهران غضباً إذا ما تم التوصل إلى تسوية إسرائيلية ــ فلسطينية أخفض من سقف "محو إسرائيل عن الخارطة"، بل ستقبل ما يقبل به الفلسطينيون.

فإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذاً مواصلة دفع الشعار إلى الحافة، وإغواء جانب كبير من الفلسطينيين للحاق به، جرياً على عادة اللحاق بخطابات شعاراتية سابقة من دول وزعماء استخدموا قضية فلسطين لغايات تعزيز دكتاتورياتهم وقمع شعوبهم أكثر من أي شيء آخر.

والأثر الذي تركه ويتركه الخطاب النجادي على الفلسطينيين هو ثاني كوارث هذا الخطاب. فعلى خلفية الإحباطات المتفاقمة، والفشل الممتد عدة عقود، وعلى رأسه فشل مشروع التسوية الأوسلوي، يتعلق الفلسطينيون المستضعفون بأي بصيص أمل والتشبث به.

التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، الصورة: ا.ب
"خطاب نجاد وفّر لإسرائيل المظلة السياسية الذهبية كي تستمر في إستراتيجيات الضم والاحتلال على أرض الواقع"

​​

والمشكلة هنا أن التعلق بسقف الشعار الإيراني ينتقل بمناصريه والمعجبين به إلى ذرى تحليقية عالية لا علاقة لها بالواقع الذي يسير حثيثاً في اتجاه آخر مدمر. بلغة أخرى، يتواصل الخطاب الإيراني النجادي في إنتاج من يشبع الرغبات والأحلام ويحشد خلفه الحشود، وفي نفس الوقت تترسخ حقائق على الأرض من خلال سياسة الاستيطان سنة إثر سنة. ومرة أخرى، يوفر ذلك الخطاب لإسرائيل المظلة السياسية الذهبية كي تستمر في إستراتيجيات الضم والاحتلال على أرض الواقع، بينما تستعطف العالم دبلوماسياً ودولياً لمساندتها خشية "الخطر الإيراني الماحق" على وجودها.

في سنوات النجادية العجاف تواصل الاستيطان الإسرائيلي بوتائر مخيفة، وتضاعف تهويد القدس ومحاولات القضاء على هويتها العربية والإسلامية، وترسخ وامتد جدار الفصل، وتدهورت أوضاع الفلسطينيين داخلياً وحدث انشقاق رأسي في السياسة والجغرافيا لم يحدث في أي مرحلة سابقة في تاريخ الفلسطينيين، وتفاقمت مستويات الفقر والبطالة والاقتصاد. هذه بعض الجوانب العملية التي حدثت ولا تزال تحدث على الأرض في نفس الوقت الذي تعلو فيه نبرة النجادية تهدد وتتوعد. ماذا فعلت النجادية عملياً وعلى أرض الواقع لتوقف تدهور أوضاع الفلسطينيين، أو على الأقل تقلل من وتيرته؟

"لن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين"

خالد الحروب أكاديمي وإعلامي عربي معروف يعمل محاضرا في جامعة كامبريدج
"التعلق بسقف الشعار الإيراني ينتقل بمناصريه والمعجبين به إلى ذرى تحليقية عالية لا علاقة لها بالواقع"

​​ لإيران القومية أن تقول إنها لن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، أو أن تقبل مسؤولية أكثر من المسؤولية المنخفضة المستوى التي تقبل بها أي دولة عربية أو مسلمة أخرى تجاه فلسطين والفلسطينيين. ولهذا فليس من المشروع والمنطقي مطالبتها بسياسات عملية توقف ترسخ الاحتلال الإسرائيلي وتدهور الوضع الفلسطيني. لكن إيران هي التي تتصدى، شعاراتياً، لما هو أعلى بكثير من هذه المطالب العملية، فتصبح إيران النجادية، لفظياً ورطانة، أكثر فلسطينية من الفلسطينيين. ولا ينعكس هذا الإدعاء إلا بالضرر وليس بالفائدة لهم.

سيقول قائل هنا لكن فوز نجاد سيكون في صالح "قوى الممانعة والمقاومة" وأنه من حق "حماس" وحزب الله أن يرحبا بفوزه بكونه هكذا. بيد أننا نعلم أن إيران خاتمي كانت داعمة أيضا لـ"حماس" وحزب الله، وأن إيران موسوي كانت ستكون داعمة لهما أيضاً. ما هو مهم في ذلك كله كان وما زال التخلي عن الخطابات الجوفاء التي توفر عتاداً جاهزاً للقوى المتطرفة في الشرق الأوسط. بقاء هذا العتاد بفوز نجاد استقبلته أصوات إسرائيلية بغبطة وفرك الأيادي، كما نقلت الصحافة الإسرائيلية.

خالد الحروب
حقوق الطبع: قنطرة 2009

خالد الحروب أكاديمي وإعلامي عربي معروف يعمل محاضرا في جامعة كامبريدج.

قنطرة

قراءة في سياسة أحمدي نجاد:
معارك خارجية تحكمها إخفاقات داخلية
يبحث الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عن موضوعات استفزازية تتعلَّق بالسياسة الخارجية من أجل صرف الأنظار عن إخفاقات سياسته الداخلية ومن أجل المحافظة على الضغط الدولي على إيران - على سبيل المثال من خلال تحريضه المعادي لإسرائيل. كاتايون أميربور في قراءة تحليلية للسياسات "النجادية".

الفقيه الإيراني حسن يوسفي اشكواري:
"الرئيس أحمدي نجاد حصيلة انقلاب انتخابي"
يرى الفقيه الشيعي وحامل لقب "حجة الإسلام"، حسن يوسفي اشكواري، في هذه المقالة أنه تم تزوير نتائج الانتخابات الإيرانية لصالح أحمدي نجاد. كما أكد أن هذه التجاوزات واضحة للعيان والحكم فيها لا بد أن يكون على أساس الدستور وسلطة الرأي العام.

العالم العربي: العولمة وجدل الهوية
من الخصوصية إلى الإعاقة التاريخية؟
يرى الإعلامي والباحث في العلوم السياسية خالد الحروب أن تشدد الخطاب العربي والإسلامي الراهن في مسألة الخصوصية الثقافية يبتعد عن واقع مجتمعاته وعن التجربة التاريخية. كما يرى أن هذه الهواجس الوهمية تحول الخصوصية الثقافية إلى صيغة تبرير لإخفاقات المجتمعات العربية وتضر بفرص تطورها ولحاقها بركب الحضارة.