معجزة صغيرة تداعب أحلام الأطفال المشردين في مراكش

تصف المراسلة الصحفية أستريد كامينسكي لموقع قنطرة في ريبورتاجها التالي النشاطات الخيرية التي يقوم بها صاحب مطعم في مدينة مراكش المغربية ونجاح كفاحه الاجتماعي ضد الفقر المدقع الذي يقاسيه أطفال الشوارع في مدينته.

الكاتبة ، الكاتب: Astrid Kaminski

اشترى صاحب المطعم ماجد سهول من سوق البضائع المستعملة في مراكش خوذة فضية اللون مخصصة لحماية الأطفال أثناء ركوب الدراجات النارية. وأخيرًا سيتمكَّن الطفل عبد الرحمن الذي يبلغ عمره خمسة أعوام من مرافقته في جولة سريعة وقصيرة. يصرخ عبد الرحمن صراخًا شديدًا؛ لا إن هذا ليس مجرد صراخ بل هو أشبه بصهيل الخيل. ولكن لماذا؟ إنه يعبر من خلال الصراخ عن حبه المشاركة في هذه الجولة! وأخبرنا بالإضافة إلى ذلك أنَّه يأكل حاليا الكثير من الخضراوات على أمل أن تنبت له أجنحة من كتفيه.

 هذا الخيال الذي يذكِّر بالحصان المجنَّح بيغاسوس صادر عن الصبي الصغير عبد الرحمن في مدينة مراكش التي تقع في جنوب المغرب. وعبد الرحمن الذي يرتدي سترة بيضاء ملطَّخة بالبقع ويبدو جفن عينه اليسرى مائلاً هو واحد من أطفال الشوارع الذين يتوقفون كلَّ يوم في مطعم سيسام غاردن القريب من ساحة جامع الفنا التي تحظى بشهرة عالمية. أولئك الأطفال الذين عندما يريدون التسوّل أو بيع مناديل الجيب كثيرًا ما يقوم السيَّاح الأجانب الكثيرون الذين يزورون هذه المدينة بإبعادهم مصدرين تلك الإيماءات التي يحاول المرء من خلالها إخافة الذباب.

 تقول الطفلة مريم التي يبلغ عمرها تسعة أعوام: "الأهالي هنا هم الذين يعطوننا المال وليس السيَّاح الذين لا يفهمون وضعنا". تعيش هذه الطفلة الرقيقة المنظر مع والدتها وأشقائها الأربعة مثل العديد من زملائها الصغار في بيت صغير يقع في فناء خلفي داخل منطقة المدينة القديمة في مراكش التي تعدّ في الواقع منطقة ساحرة  الجمال. يبلغ إيجار البيت الذي يسكنون فيه ستين درهمًا في اليوم أي نحو ستة يوروهات. ومَنْ لا يدفع الإيجار طيلة خمسة أيَّام يمكن أن ينتهي به المطاف في الشارع. لهذا وكذلك من أجل شراء الملابس والمواد الغذائية يشعر الأطفال بتحمّل المسؤولية.

 في كل يوم وحتى في حر الصيف حين تصل درجة الحرارة في الظل إلى أكثر من 45 درجة مئوية أو حتى في ليالي الشتاء الباردة والعاصفة يخرجون إلى هذه الساحة الساحرة ليبيعوا المناديل والبالونات والزهور حتى ساعة متأخرة من الليل أمام النوادي الليلية والكازينوهات التي تقع خارج المدينة القديمة.

 معلمة تسخر من "متشردي جامع الفنا"

 وكثيرًا ما تكون أهمية التعليم ثانوية. ولكن مع ذلك وعلى الرغم من محاولة الطفلة الخجولة مريم الذهاب إلى المدرسة مثلما تروي لنا بصوتها الهادئ فكثيرًا ما كانت تقوم المعلمة بفضحها أمام التلاميذ ووصفها على أنَّها من "متشردي جامع الفنا". والآن صارت تذهب بقدر المستطاع إلى مدرسة للأطفال المظلومين اجتماعيًا يستمر فيها الدوام نصف المدة اليومية الاعتيادية. وتقول الطفلة مريم بحماس إنَّ معلمتها الجديدة مختلفة تمامًا.

 يحضر لها ماجد سهول كوبًا من الحليب من مطبخ مطعمه ويهز رأسه في قبول ورضى. فهو مرتاح أيضًا لسعي المعلمة إلى التواصل بصورة جيدة مع الأطفال. ويقول إنها قامت أيضًا بزيارة إلى الشرفة في مطعمه. ومن ناحية ثانية لقد قام هو شخصيًا بتسجيل بعض الأطفال في المدرسة.

شرفة مطعم سيسام غاردن بالمدينة العتيقة في مراكش. Foto: Astrid Kaminski
ملاذ وواحة لإيواء أطفال الشوارع في المغرب - مطعم سيسام غاردن في المدينة العتيقة في مراكش.

 قبل فترة من الزمن غيَّر ثلاثة صبيان كانوا عطشانين حياة صاحب المطعم هذا تغييرًا جذريًا. فقد طلبوا كوب ماء ولأنَّه لم يرفض طلبهم عادوا مرة أخرى. وهكذا نشأت أحاديث وألعاب صغيرة مع الأطفال الذين صار عددهم يتزايد. وتساءل ماجد سهول: "كيف يستطيع التوفيق بين المطعم وهذه الكائنات الصغيرة التي لم تتناول وجبة طعام ساخنة؟". وبالتالي بدأ بتقديم الكسكس للأطفال مجانًا في كلِّ يوم جمعة.

 وصار من الممكن كلَّ مساء تناول وجبة مشتركة في المطعم. وكذلك تبقى شرفة المطعم مفتوحة أثناء النهار أيضًا لهؤلاء الصغار الصامدين. وهنا يوجد لديهم صندوق لألعابهم يحتوي على كرات وأقلام ولديهم أيضًا سجادة للعب الجمباز بالإضافة إلى الكتب المدرسية وكتب الألغاز. وأحيانا يأتي المتطوِّعون لمساعدة ماجد سهول الذي يعتبر راعيًا لأطفال يصل عددهم إلى نحو مئة ​​طفل في برنامج يعرضه في فترة الظهيرة.

 مطعم بمثابة معجزة صغيرة

 يمتلك ماجد سهول سُلطة طبيعية كبيرة بين الأطفال ولكنه ليس مرشدًا تربويًا ولا أخصائيًا اجتماعيًا. وبالنسبة له فإنَّ مشكلات الأطفال تشكِّل تحديًا كبيرًا. وأحيانًا يقاوم دموعه عندما يتحدَّث عنهم وحتى حول أخطائه الخاصة. كما أنَّه لا يجد أحيانًا حلاً آخر سوى فرض حظر مؤقت عليهم ومنعهم من زيارة المطعم. والأطفال يحترمون ذلك على الرغم من عدم وجود مكان أفضل بالنسبة لهم من مطعم سيسام غاردن.

 تحصي الطفلة مريم على أصابعها الرقيقة عدد المرات العشر التي قضتها أثناء النهار في الحجز لدى الشرطة. وعلى الرغم من عدم اقتراف الأطفال أي ذنب، إلاَّ أنَّه كثيرًا ما يتم حجزهم لدى الشرطة طيلة النهار حتى لا يشوِّهون صورة المدينة أمام السيَّاح. كان يوم وصول مريم إلى ماجد سهول أفضل يوم في حياتها.

 وعلى ما يبدو فإنَّ مطعم سيسام غاردن يمثِّل لهؤلاء الأطفال معجزة صغيرة. ولكنهم لا يعرفون أنَّ هذا المطعم وعلى الرغم من شرفته الرائعة والموسيقى الحية التي يتم عزفها فيه في المساء لا يدر أرباحًا كبيرة. إذ إنَّ الإيجارات في وسط مدينة مراكش تعادل الإيجارات في أغلى المدن الكبرى في العالم.

 أمَّا الاجتماعات التي جرت في مجلس المدينة من أجل مناقشة إمكانية تقديم الدعم للجمعية التي تم تأسيسها لصالح الأطفال فقد سارت حتى الآن من دون تحقيق أي نجاح. كما أنَّ المساعدة الاجتماعية في المغرب تعتبر مثلما الحال في الدول الإسلامية الأخرى جزءاً من الفرائض الدينية. وحيثما يتعذَّر تقديم المعونة تتحمَّل جمعيات الإغاثة غير المنظمة جزئيًا، وهي أصلا تعاني من نقص في التمويل، تقديم المعونة غير الكفاية. زد على ذلك أنَّ التأمين الصحي هنا يعتبر من الخدمات الكمالية. ولذلك يتحمَّل أحيانًا صاحب هذا المطعم تكاليف ذهاب الأطفال إلى الطبيب أيضًا. لكنه مع ذلك قام هو شخصيًا، مثلما تروي لنا الطفلة إكرام ضاحكةً (عمرها أحد عشر عامًا)، بفك الجص عن ذراعها بسبب التكاليف.

معجزة صغيرة تداعب أحلام الأطفال المشردين في مراكش، الصورة استريد كامينسكي
موسيقى وألعاب ورقصات جنونية صاخبة – يذهب ماجد سهول مع الأطفال يوم الأحد في نزهة إلى حدائق المنارة الواسعة والمزيَّنة بأشجار الزيتون التي تقع وسط مراكش.

 

نساء محرومات من حقوقهن

 لم تعد الكثيرات من أمَّهات الأطفال ببساطة قادرات على تحمّل مسؤوليتهن عن رعاية أطفالهن. علاوة على أنَّ الكثيرات منهن يحتجن إلى تناول الأدوية وحتى لو كانت هذه الأدوية مجرَّد مهدئات. ومن بين هؤلاء الأطفال ثمة طفلة وافقت بعد عدة طلبات على المشاركة في البحث عن والدتها، بيد أنَّها عندما وجدتها وقفت في آخر المطاف أمام امرأة ممدَّدة على الأرض لا تحرّك ساكنًا.

 تؤكِّد المدافعة عن حقوق المرأة، حليمة أولامي التي قامت بافتتاح أوَّل مأوى للنساء في مراكش من دون أي دعم حكومي أنَّ النساء اللواتي يعشن وحيدات من دون رجال، إمَّا بسبب تعرّضن للاغتصاب أو لأنَّ رجالهن هجروهن أو بسبب وفاة أزواجهن، لا تتوفَّر لهن في المجتمعات الذكورية المعادية للمرأة أية فرصة تقريبًا.

 وحتى إذا عثرت المرأة على عمل في مجال التنظيف أو أي عمل آخر مشابه يتم التعامل معها وكأنها لا تتمتَّع بأية حقوق تقريبًا. وهنا يعتبر الاغتصاب أو عدم تقاضي الأجور من الأمور التي تحدث يوميًا. وفي زيارة أخرى للمطعم تم سؤال إحدى الأمهات عن الأجر الذي تكسبه، الأمر الذي أثار موجة من الضحك بصوت عال وبمرارة لدى الحضور.

وبهذه العبارة ردت على سؤالي واحدة من النساء تعاني من مشاكل في القلب: "يا سيدتي  أمازلت بكامل قواك العقلية؟! هل سألتِ عن 'الأجر الذي أكسبه'؟" 

كان الوقت متأخرًا في المساء وكان بعض الأطفال الكبار والصغار يستمعون إلى المناقشات الساخنة ويلتصقون بالزوَّار قدر ما يستطيعون بود وحنان. ففي مطعم سيسام غاردن يهتم ماجد سهول كثيرًا بمعاملة الأطفال بحنو واللعب معهم، إذ صار لا يمكنه التحرّك تقريبًا من دون أن يتعلق طفل على ذراعه. وفي إحدى نزهات يوم الأحد التي يقوم بها مع "أطفاله" ذهب إلى حدائق المنارة وهي بستان زيتون واسع يقع وسط مراكش. وشارك في هذه النزهة ثلاثة بالغين كانوا يرافقون الأطفال الذين كانوا بدورهم يمسكون بكلِّ يدّ وبكلِّ طرف من ملابس مرافقيهم حتى يكونوا متراصين ويظهروا متكاتفين.

 محمد السادس "ملك الفقراء"

 وبعد النزهة أدى الأطفال الكثير من الحركات البهلوانية والشقلبات ورقصوا رقصات جنونية صاخبة في طريق العودة مرورًا بفندق المامونية في المدينة العتيقة الذي يعدّ الفندق الملكي في مراكش وهكذا بدأ الأطفال يردِّدون بشكل عفوي أغنية يمدحون فيها الملك محمد السادس الذي نصَّب نفسه "ملكا للفقراء". كان ذلك مثل مظاهرة، ولكن لا يفهم هذه السخرية سوى ماجد سهول والبوابين الذين يقفون بملابس رسمية ويحاولون في ذات الوقت شحن أمتعة زبائنهم الأثرياء جدًا إلى سيارات الليموزين.

 وفي ساحة جامع الفنا يرتفع البخار الذي يتصاعد كلَّ مساء من أكشاك الوجبات المطبوخة ويبدأ قرع الطبول في إيقاعات صاخبة تنصهر في أجواء الليل: هذا هو المشرق تمامًا كما يحبه السيَّاح الأجانب. يبدو ماجد سهول مرهقًا ولكن لا تزال تنتظره ليلة طويلة من العمل في المطعم. فكيف يستطيع إنجاز جميع هذه الواجبات بالإضافة إلى إدارة المطعم؟ وجوابه على هذا السؤال: "عندما تتعرف على الأطفال سوف تحبهم أيضًا".

 ثم يقوم سهول بتوزيع علب مناديل الجيب على الأطفال؛ وتستمر الحياة اليومية بالنسبة للأطفال أيضًا. إذ سوف تذهب الطفلة مريم وكذلك الطفلة سناء ذات الخمسة أعوام التي لا تستطيع السماع والكلام بالإضافة إلى عبد الرحمن والصغيرة المغنية الرائعة إكرام وجميع الآخرين إلى العمل حتى وقت متأخر من الليل. وإذا سارت الأمور بشكل جيد فعندها سوف يكسب كلّ منهم ما بين عشرين إلى ثلاثين درهمًا، أي ما يعادل 2 حتى 3 يورو وهذا يساوي نصف إيجار السكن في اليوم الواحد.

 

 

أستريد كامينسكي

ترجمة: رائد الباش

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2013