الدين والدولة

تظل العلاقة بين الدين والدولة هي القضية الإشكالية الكبرى في الفكر العربي الحديث والمعاصر، الباحث السياسي المصري عمرو حمزاوي يكشف عن فضاءات المسكوت عنه في هذه القضية من خلال هذا العرض التحليلي

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

​​تظل العلاقة بين الدين والدولة هي القضية الإشكالية الكبرى في الفكر العربي الحديث والمعاصر، ويبقى الخلاف بين التيار العلماني والتيار الإسلامي قائما كل على ضفته دون أي مساحة حقيقية للحوار، الباحث السياسي المصري عمرو حمزاوي يكشف عن فضاءات المسكوت عنه في هذه القضية من خلال هذا العرض التحليلي

مساحة التوافق المجتمعي وفضاءات المسكوت عنه

في مؤلفه "القدرة على قراءة العالم" يتحدث فيلسوف النصف الأول من القرن العشرين الألماني هانز بلومنبرغ (Hans Blumenberg) في معرض تحليله للمقولات الرئيسية للفكر الرومانسي في القرن التاسع عشر عن "مساحات المسكوت عنه" في هذا الفكر ويشدد على محوريتها في فهم النظرة الرومانسية للعالم.

على سبيل المثال ارتبط الحديث عن اللغة والثقافة باعتبارهما حاملتا القومية الألمانية بمعنى عضوي (organic nationalism) بتجاهل مناقشة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدنية في المجتمع والتي لم تكن لتمكن من نشوء قومية حديثة على غرار الحالة الفرنسية أو البريطانية.

وتواكب التأكيد الرومانسي على قيم إنسانية عامة مثل الحرية و المساواة من جهة أخرى (المنظومة الفكرية للفيلسوف يوهان غوتفريد هيردر على سبيل المثال) مع محاولة منظمة لتناسي غياب إطار واضح للتوافق المجتمعي في ظل الانقسام الديني السائد بين البروتستانتية والكاثوليكية.

وبصرف النظر عن القيمة الذاتية لتحليل بلومنبرغ فإن ما يعنيني هنا هو استعارة رمزية "المسكوت عنه" وعلاقته الوظيفية "بالمسموح به" سعياً للوصول لفهم موضوعي لترابطات الدولة والدين والسياسة والمواطنة في اللحظة الراهنة.

وواقع الأمر أن أي معالجة نقدية لهذا الموضوع إنما تتعلق بالأساس بالتدبر في ثلاث قضايا مركزية: موقع الدين في الخريطة المجتمعية وذلك في سياق ثنائية العام-الخاص، طبيعة دور منظومات القيم والرؤى الدينية في المجال السياسي ووزنها النسبي مقارنة بغيرها (إن وجدت)، وأخيراً كيفية تعامل القوى السياسية - الدولانية وغير الدولانية – والاجتماعية مع الدين.

تفاعل الديني مع السياسي

وحتى لا نبدأ جدالاً حول العلمنة في غير موقعه دعونا نحسم الأمور سريعاً ونقرر أن التدبر في القضايا سالفة الذكر لا تقتصر أهميته بأي حال من الأحوال على المجتمعات التقليدية أو الدينية أو غير العلمانية (لاستخدام مفهوم يتسع حقله الدلالي لاستيعاب تجارب متنوعة) وإنما يمتد ليشمل كل صياغات العلاقة بين الدين والمجتمع والسياسة.

فالدين كظاهرة اجتماعية وكمكون للثقافة ومصدر للأخلاق يتداخل ويتقاطع دوماً مع مسارات تطور الجماعة البشرية المعنية حتى وإن استبعد في بعض إرهاصاته من المجال العام ككل أو المجال السياسي فقط.

ويبدو النقاش الدائر حالياً في عدد من البلدان الأوروبية التي أنجزت في مراحل تاريخية سابقة فصلاً وظيفياً بين المؤسسات الدينية والسياسية حول وضعية الرموز الدينية في الفضاء الرسمي وما أرتبط به من صراع بين منطق التحريم أو الاستبعاد الكامل (الحالة الفرنسية) أو محاولة البحث عن حلول وسط (الحالة الألمانية) مؤشر جلي الوضوح على استمرارية الانشغال بالظاهرة الدينية.

بل يمكن الحديث في بعض الحالات وعلى الرغم من الطابع المدني للمجال السياسي بصورة عامة عن مساحة من التداخل بين الديني والسياسي تظهر بوضوح إما في تشكيلات حزبية ذات طابع مسيحي (الأحزاب المسيحية الديموقراطية أو الاجتماعية الفعالة في معظم أرجاء القارة) أو في تعاظم الدور العام والوزن النسبي للمؤسسة الدينية وخطابها المجتمعي كما في السياق الإيطالي والألماني على سبيل المثال.

وربما تعلق الفارق الرئيسي بين فرنسا وألمانيا وغيرها من المجتمعات الغربية من جهة والبلدان العربية-الإسلامية من جهة ثانية - ومع الأخذ في الاعتبار تنوع الخبرات التاريخية في داخل كلا الكتلتين، فهولندا في الأولى ولبنان في الثانية لديهما تجربة على درجة عالية من الخصوصية من الصعوبة مقارنتها بالحالات الأخرى – بتوفر أو غياب آليات مؤسسية وتفاوضية مقبولة مجتمعياً، تساعد في تطوير صياغات توافقية جديدة للعلاقة بين الدين والمجتمع والسياسة تستجيب لتحولات العصر وتشرك في هذا السياق الفاعلين الرئيسين بصورة تأخذ في الاعتبار علاقات القوة بينها والأهمية المجتمعية لرؤاها الفكرية وخطاباتها المتجهة للجماعة البشرية.

الخروج من لغة الأضداد

وقناعتي أن الخروج من لغة الأضداد أو الثنائيات المدعية الفصل الحدي بين الديني والعلماني، بين الديني والمدني لن يتأتى إلا بإعمال حقائق التاريخ في فهم الظواهر الاجتماعية وإمعان النظر في مساحات الاستمرارية والتغير بالأخيرة على نحو يباعد بيننا وبين الفهم التطوري الساذج لسيرة المجتمعات الذي يروم بالأساس البحث عن لحظات الانقطاع (rupture) والنقلات النوعية الكبرى.

فعلمنة المجتمعات الأوروبية تمت في إطار عمليات تحول شاملة طويلة الأمد وعنت – أخذاً في الاعتبار التراتبية التاريخية - تجريد المؤسسة الدينية من ممتلكاتها وتغير وضعيتها في الخريطة المجتمعية ثم صياغة منظومة قيمية مستندة إلى حرية الاعتقاد ومبدأ المواطنة والحريات المدنية أضحت حاكمة لحركة المجال العام بفضاءاته السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية.

ولم يحدث كل ذلك (باستثناء ومضات زمنية قصيرة مثل الحقبة الأولى للثورة الفرنسية) على أرضية رفض شامل أو تهميش للدين كظاهرة، بل على العكس ظل المكون الديني جزءاً أصيلاً في خطاب مشروع الحداثة التنويري والفكر الأوروبي الإنساني على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين وتنافس على قلوب وعقول الأفراد مع العديد من المذاهب والأيديولوجيات الوضعية.

وتفاعلت المؤسسة الدينية مع التحولات المجتمعية وتغيرت هياكلها ورؤاها ووظائفها جزئياً (يعالج هذا البعد في أدبيات علم اجتماع الدين تحت مسمى "العلمنة الداخلية" والمقصود بها علمنة الظاهرة الدينية ذاتها) مستجيبة لمقتضيات عصر جديد.

لم ترتب مركزية حرية الاعتقاد ومفاهيم المواطنة والحريات المدنية استبعاداً للدين بل جردت في الخبرة الغربية المؤسسة الدينية من إمكانية ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة مجتمعياً (وهو ما يعبر عنه بمصطلح نزع القداسة) وخصخصت خطابها (privatization of religion) بمعنى استحالته لمصدر من بين آخرين لمنظومات قيم ورؤى متنازع عليها في المجال العام.

نحن إذن أمام خبرة تاريخية لا يمكن تأويلها إلا في ظل التشديد على استمرارية الظاهرة الدينية ودينامية إرهاصاتها ووظائفها في المجتمع المعني.

الدين في الفكر العربي المعاصر

أما الفكر العربي الحديث والمعاصر فقد نقلا – وهذا أمر يطول شرحه ويخرج في تفاصيله عن سياق هذه المقالة – بدلا من مفهوم العلمنة فكرة العلمانية وتعامل معها مفكري القرن العشرين بصورة أيديولوجية تجاهلت التساؤل حول القضايا سالفة الذكر.

واختزلت البحث في تشابكات الدين والمجتمع والسياسة في مقولتي "الدين خارج المجتمع" و"الدين فوق المجتمع" فاتحة الباب على مصراعيه لجدل لا طائل منه إلا حجب حقائق التاريخ والمجتمع معاً التي لا تعرف إلا "الدين في المجتمع". وصنفت المفاهيم "الجديدة" في الفكر العربي مثل المواطنة والحريات المدنية والعقلانية في خانة مضامين المقولة الأولى على نحو جعل من التفكير في توافق بينها وبين استمرارية الظاهرة الدينية أمراً محالاً.

ويبدو مثل هذا الإدراك الحدي، والذي يشكل المساحة الرئيسة "للمسكوت عنه" في تشابكات الدين والسياسة والمجتمع, وكأنه مازال مهيمناً على خطابات معظم القوى السياسية والفكرية في عالمنا العربي حتى اللحظة الراهنة.

وربما تمثل مستوى التطور الوحيد في هذا الإطار في الخطاب الإصلاحي المرتبط بعدد صغير من معتدلي التيارات الدينية والذي يعبر، وإن كان ذلك في سياق اجتماعي وثقافي محدود، عن بدء تيار للنقد الذاتي في الأوساط الدينية يطول جوانب الممارسة السياسية للإسلاميين في العقود الماضية وبنفس الدرجة رؤى المجتمع والدولة المرتبطة بها.

والاتجاهات الواضحة هنا هي نبذ العنف وإعادة اكتشاف "المجتمعي" و"الأخلاقي" في مقابل "السياسي" في فكر وحركة القوى الدينية. ويتواكب مع ذلك حديث متواتر عن صياغة "فقه واقع" جديد يقبل التعددية الليبرالية ومفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان بمضامينها العالمية ويقبل مركزيتها في المجال العام بجانب المكون الديني ويسعى لإحداث توافق مجتمعي يشمل العلمانيين.

وربما تمكن هذا التيار إن قويت شوكته وتمكن من حل معضلة الإدراك الحدي لعلاقة الدين والمجتمع والسياسة بصياغة مستويات متعددة للفصل والترابط الوظيفي بينهما تأخذ في الاعتبار دينامية الظاهرة الدينية، وبحكم عمقه التاريخي والاجتماعي، من تقليل مساحات المسكوت عنه في رؤيتنا لدور الدين في مجتمعاتنا المعاصرة.

كاتب هذا المقال مدرس بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة (hamzawy@gmx.de).

قنطرة 2004©