الاحتجاجات الحاشدة...قوة سياسية قاصمة في الديمقراطيات العربية الوليدة

لعبت "سياسة الحشد" والاحتجاجات الشعبية دوراً لا يُستهان به في انتفاضات الربيع العربي وما تلاها من حراك سياسي، وأضحت التجمعات والمليونيات وما يسبقها من "حشد إلكتروني" أكثر سرعةً وحسماً من الأحزاب التقليدية في بلوغ الأهداف وتحقيق المطالب، كما يرى الأكاديمي سامي محروم.

الكاتبة ، الكاتب: Sami Mahroum

في عام 1896، حَذَّر عالم النفس الاجتماعي جوستاف لوبون معاصريه من مخاطر الحشود، فكتب: "من الأهمية بمكان أن نتوصل إلى حل للمشاكل التي تفرضها سيكولوجية الحشود، وإلا فلنسلّم لهم أنفسنا في صمت".

وبينما تفرض الاحتجاجات العفوية سطوتها على الحركات السياسية المنظمة في مختلف أنحاء العالم العربي، فيتعين على زعماء الديمقراطيات الوليدة في تونس ومصر وليبيا أن يلتفتوا إلى تحذير لوبون.

فمنذ نزلت الحشود إلى شوارع تونس والقاهرة وبنغازي، وغيرها من المدن العربية، فأسقطت أنظمة ظلت قائمة لعقود من الزمان، تساءل المراقبون والمحللون إلى أين يتجه العالم العربي. ولكنهم ركزوا بشكل شبه كامل على البعد السياسي للأحداث: من هم الزعماء، وما هي مطالبهم؟

ديناميكية الحشود تحدد المسار السياسي

والواقع أن ما نشهده من استمرار وشدة وتواتر الاحتجاجات ــ والذي تجسد في شهر سبتمبر/ أيلول 2012، عندما قتل أفراد ميليشيا محلية في بنغازي سفير الولايات المتحدة إلى ليبيا كريستوفر ستيفنز ــ يُظهِر بوضوح الدور الذي تلعبه ثقافة وسيكولوجية الحشود في تحديد مسار العالم العربي.

​​فبعد عقود من الحكم الاستبدادي، بدأ المواطنون المحبطون إزاء المؤسسات المعطلة والأحزاب السياسية المشلولة في توظيف وسائل الإعلام الاجتماعية لتنظيم المقاومة المدنية.

ونتيجة لهذا فإن البلدان التي تأثرت بالربيع العربي تواجه الآن مجالات سياسية تعمل على تشكيلها ديناميكيات الحشود، وليس الحركات السياسية أو الإيديولوجية. والواقع أن الكثير مما يحدث في العالم العربي اليوم يمكن فهمه بشكل أفضل من خلال دراسة سيكولوجية الحشود.

إن الحشود تُعَد الوجه المعاكس للمنظمات؛ فبدلاً من هيمنة نوع من التراتُب الهرمي عليها، يقودها غالباً أفراد لا يحملون رتباً رسمية.

وخلافاً للحركات السياسية، فإن الحشود تميل إلى التشكل السريع وبطريقة عضوية، كمثل السحب الداكنة تتجمع لتشكل العاصفة، وأهدافها فورية: تطويق قسم الشرطة هذا، أو الاستيلاء على تلك الوزارة، إلى آخر ذلك.

وفي "سياسة الحشود"، تكون الغَلَبة في كثير من الأحيان للعواطف على الأهداف. ولعل لبنان كانت أول دولة عربية تجرب سياسة الحشود. فبعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005، ملأت الحشود التي قادتها أحزاب سياسية مختلفة ساحة الشهداء في وسط بيروت.

الحشود الشعبية كرأسمال سياسي

ولكن الحشود غير المنظمة حجبت في نهاية المطاف المجموعات المنظمة، فتحولت إلى قوة مهيمنة على السياسة اللبنانية. والواقع أن التحالفين السياسيين المتنافسين في لبنان، تحالف الثامن من آذار، وتحالف الرابع عشر من آذار، يستمدان اسميهما من حشود هائلة تجمعت في هذين التاريخين من عام 2005.

متظاهرون في ساحة الشهداء في بيروت يحتفلون بسقوط الحكومة اللبنانية في عام 2005. إ ب أ
اكتشاف سياسة الحشد: "في (سياسة الحشود)، تكون الغَلَبة في كثير من الأحيان للعواطف على الأهداف، ولعل لبنان كانت أول دولة عربية تجرّب سياسة الحشود. فبعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005، ملأت الحشود التي قادتها أحزاب سياسية مختلفة ساحة الشهداء في وسط بيروت".

​​

وتكشف تجربة لبنان عن التنافر بين سيكولوجية الحشود وأهداف النخبة السياسية التي تقف خلف هذه الحشود ــ وهو الصراع الذي نستطيع أن نراه أيضاً في ميدان التحرير في مصر، وسيدي بوزيد في تونس، وطرابلس في ليبيا، حيث اقتحمت الحشود مبنى البرلمان عدة مرات في الأشهر القليلة الماضية.

ويهدد هذا التنافر بعرقلة العملية الديمقراطية الناشئة في هذه البلدان، نظراً للمنافسة المتزايدة بين ما أسماه لوبون "سيادة الحشود" وسيادة النخب السياسية.

وفي ظل هذه الظروف، فإن التحدي الحقيقي الذي يواجه دول الربيع العربي، على الأقل في الأمد القريب، ليس إيديولوجياً بل مؤسسيا. ويتعين على الحكومات أن تجد وسيلة لمنع أي مجموعات صغيرة من استخدام تأثير الحشود كرأسمال سياسي، وبالتالي تصبح أحجام الحشود أكثر حسماً من عملية التصويت.

ولكن المؤسسات الديمقراطية التقليدية، مثل الأحزاب السياسية، والبرلمانات، واللجان الاستشارية، لا تملك الخبرة اللازمة للتعامل مع مثل هذه التحديات.

وتمثل وسائل الإعلام الاجتماعية جزءاً من المشكلة بقدر ما تشكل جزءاً من الحل. فعلى النقيض من أوروبا الشرقية في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، تشكلت حشود الربيع العربي على شبكة الإنترنت قبل أن تنزل إلى الشوارع ــ وهي أول حركة من نوعها.

عصر الحشود الإلكترونية

إن الربيع العربي الذي حذا حذو الحركة الخضراء في إيران والتي نشأت في عام 2009، كان بمثابة البشير ببزوغ عصر "الحشود الإلكترونية" ــ التي يتم اجتذابها، وتعبئتها، وتنظيمها عبر وسائل الإعلام الاجتماعية.

بيد أن وسائل الإعلام الاجتماعية من الممكن أن تستخدم بفعالية أيضاً في تسريح الحشود، من خلال تضييق الهوة بين سيكولوجية وقوة الزعامات السياسية وبين سيكولوجية وقوة الجماهير.

ويتعين على الطبقة السياسية الناشئة أن تعمل على تحسين فهمها لسياسة الحشود الإلكترونية، وتعلم كيفية تسخير قوة أدوات مثل فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، والمدونات، والتطبيقات الإلكترونية، والرسائل النصية.

في الولايات المتحدة، أدرك القائمون على تنظيم حملة الرئيس باراك أوباما الانتخابية أهمية هذه الفرصة، فاستخدموا وسائل الإعلام الاجتماعية بشكل مكثف في نقل الرسائل السياسية إلى الناخبين، وتنشيط وتعبئة المؤيدين.

أحد السوريين يستخدم شبكة المعلومات العالمية في أحد مقاهي الإنترنت في  دمشق. أ ب
عصر الثورات الرقمية: حجَبت الحكومة السورية عام 2011 موقِعَيْ فيسبوك ويوتيوب على الإنترنت لمنع استحدامها من قِبَل الناشطين المعارضين، والشيء ذاته حدث في مصر وتونس حين بدأت انتفاضات الربيع العربي في هذين البلدين.

​​

كما أطلق أوباما تطبيق البيت الأبيض، المصمم لمنح المواطنين وسيلة جديدة للتواصل مع زعمائهم في واشنطن، بما في ذلك تحديث المعلومات حول آخر الأحداث، والتعرف على مبادرات الإدارة، والوصول إلى صور عالية الجودة ومقاطع فيديو حية لما يجري من أحداث في البيت الأبيض.

وتستفيد مؤسسات القطاع الخاص أيضاً من فهم سياسة الحشود الإلكترونية. ففي بحث لهما، أظهر كوي هوي وأندرو شيبيلوف من المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال أن كبار رجال الأعمال الذين يستخدمون وسائل الإعلام الاجتماعية يتمكنون من بناء ما نستطيع أن نطلق عليه "رأسمال عاطفي" بين العاملين لديهم.

وهذا من شأنه أن يساعد الزعماء في بناء روابط إنسانية مع مجموعة كبيرة من الناس والحفاظ على هذه الروابط على الرغم من فجوة السلطة، في حين يُيَسّر ذلك للموظفين عملية التعرف على المنظمة التي ينتمون إليها.

والدرس واضح بالنسبة للنخب السياسية الجديدة في العالم العربي: فمن غير الممكن تجاهل ديناميكيات الحشود. وعندما نلاحظ وسائل الإعلام الاجتماعية بعناية، فسوف يتبين لنا أننا نستطيع تفسيرها وكأنها السُّحُب التي تُنذِر بالعواصف.

وباستكشاف هذه النُذُر في وقت مبكر، يصبح في الإمكان إيجاد الحلول لنزع فتيل الحشود الصاخبة قبل أن تغمر المؤسسات الجديدة الهشة.



سامي محروم
ترجمة: هند علي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: بروجيكت سينديكيت 2012