الدار البيضاء: مرآة التأثير الأوربي والأميركي في المغرب

كل مرة يشعر المرء وكأنه يكتشف الدار البيضاء الضبابية من جديد، فهي تارة شريط هوليودي شهير وتارة نتاج تخطيط مهندسين معماريين فرنسيين كمدينة عصرية ذات نكهة شرقية. كريستيان هاوك يأخذنا في جولة أدبية ومعمارية وتاريخية.

غلاف كتاب جون لويس كوهن ومونيك إيليب عن الدار البيضاء
الطابع المديني للدار البيضاء نتاج هندسة معمارية فرنسية وتاريخ مغربي

​​

الدار البيضاء تسبح وسط البحر والصحراء كما جاء في الفيلم الأسطوري لمايكل كورتيس، وهذا مجرد هراء، لأن السهل الساحلي خصب، وكانت المدينة منذ زمن مرفأ لتصدير الحبوب. إلى الحاضر يقودنا الكاتب المشهور ادريس الشرايبي الى منزل بطل روايته البوليسية المحقق علي:من بعيد تسللت عبقات من الياسمين والرياحين عبر نافذة غرفة النوم والمحيط القريب البعيد في نفس الوقت يتأرجح كعجوز هائم كلا نهائية الحياة.

ونتوقف في نقطة معينة من كواليس أستوديو شريط الفيلم الأمريكي: ينمحي الضباب في هذه المدينة كساكنيها العالميين والبحر، ويجني المركز الاقتصادي والطرقي والصناعي للمملكة تقريبا نصف الناتج الوطني الخام. كازا كما يسميها السكان المحليون ورثت في القرن العشرين المركز التقليدي التجاري لمدينة فاس، العاصمة العلمية والدينية للبلد: يسألك المرء في مدينة فاس عن أصلك وعائلتك، بينما في الدار البيضاء أنت بكل بساطة هو أنت.

وتعتبر الدار البيضاء بعد القاهرة والاسكندرية أكبر مدينة في شمال افريقيا بمحيطها الذي يضم ستة ملايين من السكان وأصبحت بسرعة أكبر ميناء للبلد، وحاول مخططو المدينة منذ عهد الانتداب الفرنسي أن يضفوا على العاصمة النامية طابع المدينة العصرية مع الفسيفساء التقليدية على حد سواء. وضم تصميم المهندس ليون هنري بروست شوارع عريضة بشكل نجمة باتجاه المركز وحط رحال المناطق الصناعية في شرق المدينة.

ولكي يفصل بشكل واضح الحي الأوربي عن الحي المغربي ولتوفير بنىً تقليدية للمهاجرين، نشأت سنة 1923 المدينة الجديدة الواقعة في حي الحبوس، وهي مدينة جديدة بنموذج تقليدي كالأبواب والجوامع والدروب والمنابع.

ويعتبر مايكل ايكوشار الذي شارك في تصاميم دمشق وبيروت الخليفة لمصمم المدينة بروست في نهاية حقبة الحماية.وقام بإنجاز ما بين سنتي 1946 و 1952 تصميما شاملا للعاصمة المزدهرة "الدار البيضاء الكبرى".وصدرت تجاربه المعاشة وتأملاته سنة 1955 بباريس في رواية بعنوان "الدار البيضاء رواية مدينة.

مدينة الأديان المتآخية

وتلاقحت في المدن الساحلية المغربية منذ القدم ثقافات مختلفة، ولا تزال لحد الآن في الدار البيضاء بجانب 3000 مسجد وأماكن الصلاة غير المحدودة بعض الكنائس: ستة كاثوليكية وواحدة انجيلية وواحدة انجليكانية وثلاث معابد يهودية ناشطة. وكانت الجالية اليهودية هنا ممثلة دوما بشكل كبير ويعيش 3000 من اليهود المغاربة في العاصمة من مجموع 5000 بالمغرب.

وبدأ التغلغل الأوربي في الهيكل المديني منذ القرن التاسع عشر، حيث كان يصدر التجار الفرنسيون منذ منتصف القرن التاسع عشر الصوف الغالي القيمة والحبوب من الدار البيضاء الى أوربا وكان يعيش في الماضي 1000 فرنسي في المدينة وبعد عامين تضاعف عددهم خمس مرات.

وبعد تحول فرنسا الى قوة انتداب سنة 1912 أصبح عددهم 20000. وانعكس التواجد الفرنسي مابين 1910 و 1914 على حركة العمران وتم بناء العديد من الأبنية وتيرة بالطراز الكولونيالي الفريد من نوعه وارتفعت أثمان العقار بسرعة تلهث الأنفاس.

وفي المدينة العتيقة نجد 1912 قنصلية انكلترا واسبانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا، وافتتحت اسبانيا سنة 1891 كنيسة بوينافينتورا في المدينة العتيقة أقدم بناء مكان عبادة مسيحي في المدينة وفي نفس السنة افتتحت أيضا كنيسة انجليكانية.

وترتفع منذ العام 1992 بناية في الجهة الجنوبية لسور المدينة القديمة تقوم على أنقاض برج الساعة، كتجسيد للمفهوم العصري للوقت! ومنذ سنة 1930 يرتفع في ساحة فرنسا الشهيرة التي أعجب بها أنطوان دو سانت اوكسبوري برج مشابه، وتسمى الساحة اليوم ساحة محمد الخامس وهي المركز الاداري للمدينة ببناية البريد المركزية والعمالة والبنك المركزي.

المدينة وأوروبا

ولم تستقبل الأوربَة دائما بالترحاب. وأتى تقنيون منذ سنة 1907 الى الدار البيضاء ليجلبوا الأحجار الطبيعية لبناء السكة الحديدية لمينائها. ولكن السكان المحليون هاجموا منشأة السكة بالقنابل وشهد ألمان من شركة مانسمان هذه الأحداث.

وحط سنة 1907 ستة وستون جنديا فرنسيا الرحال في شواطئ المدينة وتسللوا عبر باب البحرية في المدينة العتيقة وتخفوا في القنصلية الفرنسية القريبة. ووسع الفرنسيون شبكة النقل ليستغلوا بشكل كبيرمنطقة الانتداب لما كان يسمى ب"المغرب النافع".

ونما أيضا مرفأ المدينة وقام المنهدس الفرنسي بيري بتوسيع الأحواض، في الوقت الذي بدأ فيه معمل الاسمنت لافارج انتاجه في منطقة الصخور السوداء. ونشأ في نفس الوقت في الجوار حي البؤس والعمال كاريير سنترال، وكل منشأة صناعية تجر وراءها أحياءها الصفيحية، أو ما يسمى بمدن الصفيح.

ويرجع أصل الاسلاميين الذين تسببوا في أحدات 11 مايو/أيار الارهابية بالقرب من السكة الحديدية المؤدية الى الرباط وبالضبط حي سيدي مومن. وولد الشاعر المغربي عبد الله زريقة سنة 1953 في أكبر تجمع صفيحي بالمغرب و قضى هناك حوالي 30 سنة، وهدم هذا الحي من طرف بلدية المدينة وأعطيت مساكن جديدة بعشر الأثمان المتواجدة في السوق.

حضور الولايات المتحدة

وبدأت الحملة الثانية من التأثيرات الغربية على الدار البيضاء بنزول القوات الأمريكية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1942، وحكمت منطقة السيادة المغربية غير المحتلة من فرنسا من طرف المارشال الموالي للنازية بيتان من فيشي، ووصل الأمر الى حد المواجهة.

ووجد الجنود الفرنسيون والأمريكيون أنفسهم وجها لوجه، وبعد اتفاق سري للأمم المتحدة مع الأميرال فرانسوا دارلان الذي رجع من معتقل لأسرى الحرب وحدد بيتان وقفا لاطلاق النار بالمغرب ورحل الجنود الأمريكيون في10 و 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1942 عن المدينة. وأصبح دارلان بتعيين من ايزنهاور القائد الأعلى معترف به واقعيا للدولة الفرنسية في شمال افريقيا. ولم يخبرالجنرال ديغول قائد المقاومة بالاجتياح الأجنبي واحتج بشدة لدى تشيرشيل بسبب استبعاده.

وشهد فندق أنفا مؤتمر الدار البيضاء في يناير 1943 الذي حدد فيه تشيرشل وروزفلت الاستسلام اللامشروط لألمانيا وجرى 1943 على ألسن الطبقة الشعبية مايختصر "بسنة الامريكيين". وانتهت بشهر ديسيمبر/كانون الأول موازاة مع عيد الأضحى، ومنح الجنرال الأمريكي باتون سيارته المثيرة للإعجاب والعصرية للجنرال الفرنسي نوجيس ليشارك في الاحتفالات، وأصبحت أمريكا تحدد في الوافع مصير المغرب.

مدينة عشاق السينما

وتردد بعض المغاربة بعد الحرب على متاجر البضائع والسينميات والمقاهي والحانات، وقدروا قيمة المدينة العالمية. وحكى شاهد عن العصر جون أوريو عن مالك سينما الذي اشترى سينما سنة 1942 بالدار البيضاء ب 2،5 مليون فرنك، كيف يمكنه تغطية المصاريف مع سكانها الجائعين، ولكن السكان المعجبين بالسينما جلبوا له 250000 فرنك شهريا مما أثار غبطته.

وولج السينما نجوم من طراز جوزفين بيكر، واعترف ادريس الشرايبي الذي نشأ وترعرع في درب السلطان بأنه كان في ربيعه 14 سنة 1940 مغرما بجنجير روجرز. الى الآن توجد في الدار البيضاء 40 صالة سينما 13 صالة لتقديم العروض المسرحية، كمسرح الطفل للدرامي الكبير الطيب الصديقي.

ويعرض الكتاب المصور بعنوان": الدار البيضاء أساطير كولونيالية ومغامرات هندسية" لجون كلود كوهن ومونيك إليب الطراز المعماري أرت ديكو، هندسة الكلاسيكية المعاصرة والطراز العالمي ولن أيضا أماكن سكن العمال وحدائق مثيرة للدهشة.

ونجد في الكتاب مجموعة كبيرة من الوثائق: خرائط، صور، مخططات ورسومات هندسية ومراجع نادرة وغير متوفرة، مع تنقيحها واعادة صياغتها. ويضع الكتاب التطور المعماري للدار البيضاء التي يمكننا اعتبارها إحدى أكثر التطورات المعمارية إثارة في القرن العشرين موضع مناقشة.

المنظمة التي أحدثتها المهندسة جاكلين ألوشون "كازا ميموار" تنظم منذ أعوام جولات كل يوم أحد عبر وسط الدار البيضاء.

وتساعد الذكريات أيضا على ايجاد حلول للمشاكل المعاصرة. بعد 20 سنة من المناقشات حول مشروع بناء مترو أنفاق، سيتم الآن بناء مترو فوق الأرض. مع العلم أنه في ستينيات القرن الماضي كانت تتواجد بالمدينة حافلات نقل كهربائية.

مسجد الحسن الثاني

وشرع سنة 1986 في بناء مسجد الحسن الثاني على مساحة كبيرة تبلغ هكتارين، تحت اشراف المهندس الفرنسي ميشل بينسو، وكانت هذه المعلمة الأخيرة الكبيرة آخر تدخل في السياق المعماري والمديني، ما زالت آثاره ملموسة حتى الآن.

وتناقلت الصحافة سنة 2002 خبرا مفاده أنه اكتشف خلل خطير في البناء وفي أساسات المسجد بعد عشر سنوات من الافتتاح. ولم تستطع الخرسانة الخاصة من أن تصمد أمام هجمات أمواج الأطلسي والرياح العاتية، وتحتاج الإصلاحات حسب شركة البناء بيمارو بيجيز 6 ملايين يورو من الاستثمارات.

بقلم كريستيان هاوك
حقوق الطبع قنطرة 2005
ترجمة علمي تهامي