فيلم ''براءة المسلمين'' - دروس في الغباء والتطرف الجماعي

يرى الكاتب البارز خالد الحروب في تعليقه على ردة الفعل على فيلم "براءة المسلمين" اكتساح مصيبة التطرف المجتمعات العربية والإسلامية والانقراض المتسارع لكل القيم النبيلة والسلوك الحضاري، مشددا على أن هذا يمثل انحطاطا عريضا في العقلية الجمعية التي هي نتاج ثقافة التعصب الديني.

الكاتبة ، الكاتب: Khaled Hroub



أين هي أمة "ولا تزر وازرة وزر اخرى" ومن أين جاءت كل هذه الغرائزية والتطرف والديماغوجية في الرد على الفيلم التافه "براءة المسلمين" والتي سوف لا تثمر شيئا في الدفاع عن أي حق، بل تحوله إلى خسارة ولا تعمل سوى على تدمير مجتمعاتنا والانحطاط بها نحو البدائية والتخلف. ما هي علاقة ومسؤولية اللبنانيين مُلاك مطاعم كنتاكي وماكدونالد في طرابس عن ذلك الفيلم وما هو ذنبهم حتى تثور عليهم "الجماهير" وتدمر ممتلكاتهم؟

وما هي مسؤولية الكولومبيين أفراد القوة الدولية المرابطة في صحراء سيناء منذ عقود عن نفس الفيلم حتى يتعرضوا لهجوم جماعي واعتداءات من قبل سكان الصحراء؟ وما علاقة سفارات المانيا وايطاليا في الخرطوم بالفيلم ذاته حتى تستهدفها نفس تلك "الجماهير" الغاضبة؟ وما هو ذنب اصحاب السيارات الواقفة على قارعة الشوارع المؤدية للسفارة الامريكية في تونس حتى يهجم عليها الناس تحطيما وتكسيرا؟ من هو المسؤول عن دم الذين قتلوا وجرحوا في المظاهرات والغارات الهمجية على السفارات وعلى كل ما هو غربي؟

الإهمال

د ب ا
الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي

​​هذا قبل أن نصل للسؤال عن ذنب ومسؤولية السفير الامريكي ومرافقيه الذين قتلوا في بنغازي وهم لم يسمعوا عن الفيلم ولا علاقة لهم به, وكانوا قد وقفوا مع الشعب الليبي وساندوه ضد الطاغية الذي تحكم في البلاد واهلها اربعة عقود واكثر. لا يكمن الجانب الأخطر في ما نراه هذه الأيام في الفيلم السخيف ذاته والإساءات التي تضمنها. فالفيلم وكما تعرض بعض المقتطفات منه على شبكة الانترنت يتصف بسخافة بالغة لا يستحق معها ان يُضم الى صنف الإيذاءات الثقافية المتبادلة بين المجموعات الاثنية والدينية المختلفة.

ورداءة الفيلم من ناحية المضمون والدراما والفن اضطرت دار السينما الوحيدة التي عرضته خلال الصيف الى سحبه بعد عرضه مره او مرتين. نحن هنا لسنا أمام اطروحة ثقافية مركبة تقدم الإساءة بشكل ذكي ومعقد وتستدعي الرد وتحفز العقل والذهن على التفكير. نحن أمام شتيمة ساقطة الرد عليها لا يكمن سوى في الاهمال واستلهام ما تؤشر عليه ثقافة "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" بكل ما يعكسه هذا الرد من ثقة بالنفس وترفع عن الجهالات.


فاجعة التطرف

أ ف ب
اقتحام السفارة الألمانية في الخرطوم من قبل متظاهرين

​​الجانب الأهم والاكثر رعبا في ما نراه الآن في شوارع المدن العربية والإسلامية هو اكتساح جائحة التطرف مجتمعاتنا وثقافتنا وسلوكنا والانقراض المتسارع لكل القيم النبيلة والسلوك الحضاري. إنه عمليا انحطاط عريض في العقلية الجمعية لتيارات عريضة هي نتاج ثقافة التعصب الديني التي اشتغلت على البنية التحتية للناس والأفراد خلال اكثر من نصف قرن فأنتجت ما نراه. السمة الغالبة لما نراه الآن هو غياب العقلانية والتفكير والثقة بالنفس مقابل سيادة الغرائزية والغباء وانعدام الثقة بالنفس, وقلب الاولويات. لنبدأ بغياب العقلانية وانعدام الثقة في النفس وموضعة الأمور في نصابها.

إذا كان النص القرآني يقول بوضوح "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" فإن معنى ذلك أن غالبية البشر ليسوا مؤمنين فضلا عن ان يكونوا مسلمين, وبالتالي فإن نظرتهم للدين لكل الأديان ولكل الأنبياء لن تنطلق من أية قدسية او احترام. وعليه لا يمكن أن نفترض فيهم أو أن نفرض عليهم ذلك الاحترام بالقوة. الوسيلة الوحيدة الفعالة كانت ولا تزال الحوار والاقناع والجدل باللتي هي احسن, وهي شمائل الثقة بالنفس.

اما ان تثور غرائز مليونية لمجرد شتيمة تافهة فإن ذلك يدلل على هشاشة في النفس وعدم ثقة حتى في القيم التي يتم الدفاع عنها وكأنها ركيكة وضعيفة وسوف تسقط من مجرد شتيمة لأرعن هنا أو ناقد هناك. سوف يقول قائل هنا أن الغرب منافق ويسمح بشتيمة المسلمين ولا يسمح بشتيمة اليهود او اسرائيل وهذا صحيح ولكنه ليس موضوع الحديث هنا وليس ثمة أي دفاع عن الغرب وسياساته في هذه السطور ولكنها تركز علينا نحن على الذات وما يحصل في داخلها من كوارث تأكل الأخضر واليابس في مجتمعاتنا.


الغرائزية

رويتر
احتجاجات في أفغانستان وباكستان على الفيديو المعادي للإسلام

​​التطرف والغرائزية التي نراها اليوم فاقدة لأي إحساس بالأولويات. كيف مثلا تخرج كل هذه العشرات من الألوف للتظاهر ويتلاعب بها مخرج سافل لفيلم رديء ولا تخرج مئات من هؤلاء لنصرة اخوانهم الذين يموتون في سوريا بالمئات كل يوم؟ وكيف لا يخرج عشرهم لنصرة القدس التي تتهود كل يوم ولا لغزة التي تخنق تحت الحصار؟ الغرائزية الجماعية والانجرار نحو ثقافة القطيع الهائجة تنحي العقل جانبا وتسلم القيادة للغباء وتسير وراءه بثبات! الفيلم المذكور كان يمكن ان يمر وان لا يسمع به احد وينتهي إلى سلال المهملات الخاصة بالافلام الردئية, وبالتالي تُحبط الاهداف التي انتج من اجلها وهي تحقيق اكبر قدر ممكن من الإساءة والتعريض بالاسلام والمسلمين.

بيد أن "عبقرية" الرد الغرائزي انقذت الفيلم من ذلك المصير المحتوم ومنحته شريان الحياة إلى الأبد ودفعت مئات الملايين الى ان يروه او يحاولوا كل جهدهم لمشاهدة اي جزء منه. تُرى كيف انتصرت الغرائزية بردودها الطفلية للرسول الذي تريد ان تنتصر له عندما دفعت تلك الملايين كي ترى تلك الشتيمة؟ والمشكلة هنا هي أن درس الغباء في الرد يتكرر كل سنة ومن دون أن يتم الاستفادة منه. تثوير الغرائزية وإطلاقها الى ابعد مدى بدأ مع فتوى الخميني ضد سلمان رشدي مؤلف كتاب "آيات شيطانية" في الثمانينات من القرن الماضي. الخميني الذي كان مهجوسا بإمامة المسلمين في كل الأرض والنطق بإسمهم اطلق غول الغرائزية كي يقول إنه المدافع عن الإسلام  ونقل كاتبا وكتابا من الدرجة الرابعة إلى مصاف الكتاب الأكثر شهرة والكتب الأكثر مبيعا في العالم.

التطرف المتسارع

د ب ا
الغرائزية والتطرف يحكمان المجتمع العربي في ردود الفعل على فيلم "براءة المسلمين"، كما يرى الحروب

​​الكتاب الذي كان ربما سيقرأه عدة مئات من الناس قرأه مئات الملايين. ذات الدرس يتكرر تباعا ولا تزال "الحرب العالمية الغرائزية" التي اطلقناها على رسام الكاريكاتير الدنماركي قبل عدة سنوات طازجة في اذهاننا. رسام واحد وبعدة رسومات عنصرية وتافهة استطاع ان يحرك ملايين المسلمين ويستفزهم ويتسبب في مقتل الكثيرين وتدمير ممتلكات لا تعد ولا تحصى في مدن العالم الإسلامي. تلك الغرائزية حولت الرسام المغمور الى بطل كوني, وانتشرت رسوماته العنصرية في طول وعرض العالم.


تطول الأمثلة والنماذج وكلها محزنة ومثيرة الغثيان لكنها كلها تؤشر الى شيء مقلق وخطير يضرب في بنية مجتمعاتنا وهو التطرف المتسارع. مجتمعاتنا تسير في منحنى متصاعد من التطرف الديني تسرع فيه نتائج انتخابات ما بعد الربيع العربي. عقلاء هذه الاوطان وقادة الرأي فيها يجب أن يضعوا "التطرف" نصب اعينهم كأهم عدو يحيق بهذه المجتمعات ومستقبلها – اخطر من كل الاعداء الخارجيين. الجماعات التي تنطلق في الشوراع تدمر وتدك ما تلاقيه في وجهها مستعدة لأن تدمر أي شيء وربما تقتل أي أحد. البنية الفكرية المتعصبة لهذه الجماعات قائمة على اقصاء الآخر وعدم الاعتراف به واستسهال التخلص منه وهذا كله وسط مجتمعات متنوعة دينيا واثنيا وسلوكيا. الكارثة في التطرف والغرائزية إنهما يحطمان الذات خلال السير نحو الآخر لتحطيمه وهو بالطبع يبقى سليما معافى لأن الحطام الناتج عن تدمير الذات لا يترك أساسا اي مجال للسير نحو أي اتجاه.

 

 

خالد الحروب

تحرير: هشام العدم

حقوق النشر: قنطرة 2012