موضوع حافل بالألغام الإيديولوجية

المؤتمر الذي نُظم في اسطنبول أخيرا عن إبادة الأرمن أثار جدلا حادا في الرأي العام التركي ويشير إلى صعوبة تعاطي هذا الموضوع في تركيا المعاصرة. كتاب جديد حول هذه المأساة يسلط الضوء على الخلفيات التاريخية وعلى الدور الذي لعبته ألمانيا.

شاهدة حملة الإبادة ضد الأرمن تتحدث إلى وكالة الأنباء أب، الصورة: أ ب
يجمع الكتاب الكثير من الشهادات والمصادر الأولية.

​​المؤتمر الذي نُظم في اسطنبول أخيرا عن إبادة الأرمن في بداية القرن العشرين أثار جدلا حادا في الرأي العام التركي ويشير إلى صعوبة تعاطي هذا الموضوع في تركيا المعاصرة. كتاب جديد حول هذه المأساة يسلط الضوء على الخلفيات التاريخية وعلى الدور الذي لعبته ألمانيا ويجمع عددا كبيرا من المصادر والشهادات. تقرير أمين فرزانيفار.

مؤلف الكتاب بعنوان "عملية نيميزيس (تيمنا بإلهة الانتقام عند الإغريق)، تركيا وألمانيا وإبادة الأرمن" رولف هوسفيلد تناول بالتفصيل خلفيات المأساة. المؤلف ألماني، مخرج سينمائي وصحفي ورئيس تحرير وله من خلال هذا الكتاب الفضل على نحو خاص في سرد الخلفية التاريخية بكاملها وتبيان السياق المتداخل بعمق في القرن التاسع عشر بالإضافة لكونه قد عرض التفاصيل الهمجية لما سمي "عمليات التطهير" (من 800000 إلى 1،4 مليون ضحية).

شعارات الجهاد والتنوير

في العهد العثماني كان فقدان مركز الدولة العظمى وفصل المناطق الأوروبية التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية عنها وما رافق ذلك من المخاوف بهيمنة قوى خارجية قد تسبب في عام 1895 نفسه أي أثناء حكم السلطان عبد الحميد في ارتكاب مجازر وقع 100000 شخص ضحية لها.

وكانت أغلبية الأرمن المسيحيين قد عقدت بعد إقصاء عبد الحميد من الحكم الأمل في أن تؤدي الإصلاحات الموعودة إلى المساواة ضمن دولة تركية حديثة، ذات هياكل فيدرالية. كما التمس الأرمن دعما دوليا مما جعلهم محلا لشكوك قادة تركيا الفتية.

ووظّفت القيادة الثلاثية التي لقبت ب "الطليعة" التركية (انور باشا وطلعت بك وكمال باشا)، وكان ذلك قد تزامن مع اندلاع صراع على السلطة مع بقايا السلطنة المخلوعة، ببراعة شعارات الجهاد كما زيّفت شعار التنوير دعائيا في مخاطبتها للسكان الأتراك الذين لم يتسموا حينذاك إلا بمقدار ضئيل من التطرف، كما أنها نجحت على نحو مفرط في صياغة ومن بعد في فرض أحلامها القومية بشأن تأسيس إمبراطورية عالمية تضم جميع الشعوب التركية.

وبعد فقدان مناطق جديدة في البلقان قام قادة الدولة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى مباشرة بوصم الأرمن المقيمين في منطقة نفوذ الإمبراطورية العثمانية منذ عدة ألفيات والذين اتسموا بدرجة من التعليم والرخاء زادت عن المعدل المتوسط، على أنهم يشكلون قاطبة "خطرا داخليا" وعمدوا بالتالي إلى تهميش مركزهم والطعن فيهم وأخيرا إلى إفنائهم.

استخدام لغة عصرية

يعطي كتاب هوسفيلد لمحة دقيقة حول الأحاسيس السائدة وتوزيع القوى في ذلك الحين محددا مواقع الأحداث والأشخاص المعنيين بمختلف أهدافهم واستراتيجياتهم ويبين من خلال وصفه المفصل للأحداث معالم التشابه مع الحاضر.

لهذا فقد وجهت إلى هوسفيلد تهمة استخدام لغة عصرية غير مناسبة لظروف وأحداث تاريخية وقعت في الماضي مما تسبب في تشويه الرؤى.

لوحة في كنيسة أرمنية في حلب تذكر بضحايا حملة الإبادة ضد الأرمن، الصورة: منى نجار
آلاف اللاجئين الأرمن حطوا رحالهم في مدينة حلب السورية، بعد طردهم من ديارهم التركية.

​​فجاء الاعتراض من جانب على استخدامه لمصطلحات نابعة من لغة الوقت الراهن كعبارة "أمراء الحرب" مجازا لزعماء القبائل الأكراد الذين ساهموا مساهمة كبيرة في الهجمات والمذابح التي تعرض لها الأرمن أو على وجه خاص عبارات أخرى نابعة من تجربة المحرقة الكبرى مثل "تشخيص الإرهاب" وكتيبة رؤوس الموتى ومعسكرات الاعتقال (النازية) و"الحل النهائي" (بمفهوم الإفناء الجماعي لدى النازيين).

في حقيقة الأمر تبدو محتويات العديد من فصول كتاب هوسفيلد ومن كتب لمؤلفين آخرين قبل ذلك حول المأساة التاريخية معروفة إلى حد كبير لا يمكن إنكاره. هذا يشمل عدم وقف حملة الطعن الدعائية و"أساطير اتهام الأرمن بالخيانة والخداع" واتهامهم بالتحالف مع عدو خارجي مما يصمهم بخونة داخليين.

وما يذكّر أخيرا بالنقاشات الدائرة اليوم (مثلا كتاب غوتس ألي : "دولة هتلر الشعبية") المنفعة الاقتصادية أيضا التي جناها قادة تركيا الفتية وأتباعهم من خلال نهب أو تملك أو "شراء" أراضي الأرمن ومتاجرهم ومنازلهم بأبخس الأسعار. فكل من كان ناشطا في الحركة استفاد من ذلك ماليا.

عملية إبادة منظمة

من هنا اتضح وجود معالم تشابه متعدد مع الرايخ الثالث لا فقط بسبب المقولة المختلقة "من يفكر اليوم بعد بإفناء الأرمن؟" التي أراد هتلر من خلالها تثبيت دعائم خططه، بل أيضا بحكم ما تم في الحالتين من تخطيط وتنفيذ الإبعاد والإفناء على نحو منظم كما لو جاء صادرا عن هيئة أركان الجيش .

الأمر الذي ركز عليه هوسفيلد على وجه خاص واتضح في عنوان كتابه "تركيا وألمانيا وإبادة الأرمن" هو القسط الألماني في تلك المأساة التي استغرقت شهورا عديدة. ولعل التحفظ الذي أبدته الحكومة الألمانية مؤخرا حيال استخدام تسمية الإبادة الجماعية يمكن تفسيره ولو جزئيا بحكم التحالف العسكري الألماني العثماني الذي نشأ عند اندلاع الحرب العالمية.

هوسفيلد يستشهد بخبراء عسكريين ورجال حكومة ألمان طالبوا على نحو مؤثر من قيادة الرايخ في برلين بالتدخل لحماية الأرمن. كما أنه يشير إلى الشعار الذي طرحه مستشار الرايخ بيتمان هولفيغ والذي جاء فيه بأنه لا يمكن على ضوء حالة الحرب خذل الحليف التركي وبالتالي فإنه لا يمكن مراعاة مصير الأرمن.

بناء على تقارير مختلفة فقد ساهم بعض الضباط الألمان مساهمة فعالة في إنشاء "التشكيلات الخاصة" المؤلفة من معتقلين أفرج عنهم، وهذه التشكيلات لم تكن سوى كتائب استهدفت قتل الأرمن. وتعود أوائل خطط الإبعاد إلى نائب رئيس أركان الجيش البارون كولمار فون ديرغوتس.

نصب تذكاري في العاصمة الأرمنية يريفان، الصوورة: أ ب
كتاب رولف هوسفيلد من شأنه أن يزيل نهائيا كل الشكوك المبدئية القائمة حول صحة الأحداث التاريخية المتعلقة بالأرمن.

​​من ناحية أخرى التزم عدد كبير من الألمان على نحو دؤوب وإن غلب عليهم اليأس بالإفصاح عن الفظائع الدائرة والعمل على إنهائها وبذلوا قصارى جهدهم من بعد للقيام على الأقل بتوثيق تلك الأحداث، ومن أمثلة ذلك المبشر يوهانس ليبسيوس والكاتب ارمين ت. فيغينير.

مما لاشك فيه أن الألمان ارتكبوا أعمالا مشينة في هذا السياق لاسيما لكونهم كانوا على علم بمجريات الأحداث، إلا أنهم بحكم تعاطيهم مع وقائع تاريخهم واستخلاص العبر منه قد قطعوا شوطا أكبر بكثير جدا من الأتراك، الأمر الذي دلت عليه التهديدات الموجهة في الآونة الأخيرة للكاتب التركي أورهان باموك.

قام هوسفيلد على نحو جدير بالتقدير بعرض صورة تلك الحقبة المتأزمة. ويمكن من خلال ذلك أن يتبين لنا مدى بقاء بعض المعطيات القائمة حينذاك حتى يومنا هذا (إفراط في القومية، مركب نقص وإحساس وهمي بالعظمة، مخاوف حيال هيمنة الغرباء، تطلع مفتعل نحو الحداثة) مما يجعل بوسعنا أن نحسن فهم بعض الحساسيات القائمة في تركيا الحديثة اليوم.

وقد قام هوسفيلد بدراسة دقيقة واسعة للمراجع واستفاد في الأرشيفات الدولية المعروفة مما احتوت عليه من هوامش ومصادر أولية، وجمع الحقائق والوقائع بناء على معلومات كل من الضحايا الذين ما زالوا على قيد الحياة والمتورطين حينذاك وشهود العيان.

موضوع حافل بالأخطار

يعرض الكاتب ما جمعه من مراجع لا تحصى بأسلوب يسحر القارئ من البداية حتى النهاية دون أن ينزلق إلى متاهات أدب الإثارة. فهو لا يعمد إلى وضع الأتراك بكاملهم في قفص الاتهام ولا يهمل التطرق إلى الإرهابيين الأرمن الذين يجري توظيفهم اليوم من قبل القوميين الأتراك لتبرير استراتيجية إنكار وقوع القتل الجماعي.

ومن كان مهتما بكيفية تحريف وتمويه كافة الحجج والوقائع على نحو ماهر وكيفية تبرير الإدعاء القائل بكون الأرمن أنفسهم مسؤولين عن كل ما وقع، أمكنه الدخول في منابر الإنترنت المعروفة أو قراءة الكتاب الشهير للمؤلف إريش فيغيل "أسطورة الإرهاب".

في واقع الأمر فإن هذا الموضوع حافل بالأخطار بل حتى بالألغام من الناحية الإيديولوجية. كما توجد حول بعض التفاصيل بسبب البعد التاريخي وحده روايات مختلفة.

والكتب الصادرة بهذا الشأن مثل "عملية نيميزيس" من شأنها أن تزيل نهائيا كل الشكوك المبدئية القائمة حول صحة تلك الأحداث التاريخية وأن تمهد بالتالي الطريق للتعاطي السليم مع الماضي.

بقلم أمين فرزانيفار
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطيع قنطرة 2005

رولف هوسفيلد، الصورة: دار نشر ميتس
رولف هوسفيلد

​​المؤلف رولف هوسفيلد ولد عام 1948 ودرس الأدب الألماني وعلم السياسة والفلسفة في جامعتي فرانكفورت/ماين وبرلين وأعد أطروحة الدكتوراه حول هاينريش هاينه. وهو يعمل اليوم مخرجا سينمائيا وصحفيا ورئيسا لتحرير مسلسل كتب ثقافية.

أمين فرزانيفار صحفي ألماني-إيراني مقيم في كولونيا.

قنطرة

بداية لتعامل جدي مع التاريخ
قبل خمسين عاما اخترقت شارع الاستقلال في اسطنبول حشود هائجة مسلحة مدمرة وناهبة لمحلات كافة اليونانيين. لأول مرة يتم تنظيم معرض في هذا الشارع بالذات يلقي الضوء على الأحداث آنذاك ويعرض صورا لضحايا الماضي.

الأرمن والإبادة الجماعية
احتى بعد انقضاء 90 عاما على المذابح، ما زال لمسألة العلاقة بين جمهورية تركيا الفتية والأرمن وقع تلاطم الأمواج الهائجة. إلا أن هناك اهتماما متزايدا بأبحاث المؤرخين الساعين إلى دراسة هذه القضية في سياقها التاريخي الحقيقي.