بعد مرور 25 سنة على الثورة الإيرانية

هل من الممكن أن تكون تجربة الجمهورية الإسلامية نموذجا للدول العربية الجوار؟ انطباعات الباحث المصري عمرو حمزاوي، الذي شارك في إصفهان في مؤتمر حوار جمع مثقفين من الغرب والشرق

هل من الممكن أن تكون تجربة الجمهورية الإسلامية نموذجا للدول العربية الجوار؟ انطباعات الباحث المصري عمرو حمزاوي، الذي شارك في مؤتمر حوار جمع مثفين من الغرب والشرق

كثيرة هي محاولات الحوار العابر للثقافات في اللحظة الآنية ومتعددة هي الموضوعات التي تعالج في سياقاتها. فمنذ أن نشر صمويل هنتينغتون في بدايات التسعينيات مقاله الشهير ثم كتابه المعنون "صراع الحضارات"، ولم تهدأ عجلة النقاشات العالمية واللقاءات الأكاديمية الناظرة في أنماط علاقات أقاليم الأرض المختلفة ببعضها البعض.

وعلى الرغم من أن الطابع الناقد لمقولات هنتينغتون قد غلب على مجملها وذلك في إطار التأكيد على خبرة تداخل ثقافات وديانات البشرية، فإن النتاج الفعلي لهيمنة ما يمكن نعته بالخطاب الرافض لصراع الحضارات تمثل في تأسيس مركزية ثلاثية الحضارة-الثقافة-الدين لفهم أمور السياسة والمجتمع وتقلبات العلاقات بين الشعوب والدول.

وصبت حصيلة منتديات الحوار العديدة بين العالم العربي-الإسلامي والغرب الأوروبي-الأمريكي على سبيل المثال في هذا الاتجاه مشجعة على صياغة فهم اعتذاري يستند إلى خصوصية الدين الإسلامي والثقافة العربية لتفسير ظواهر متنوعة في عالمنا ابتداءاً من غياب الرأسمالية والديموقراطية والتعددية وانتهاءاً بشخصنة السلطة وذيوع نظريات المؤامرة ورؤى نهاية التاريخ.

وانسحب نفس الأمر على النظرة النمطية للغرب التي رأت في عقلانيته أساس تقدمه وفي مادية مفترضة لثقافته مصدر لاأخلاقية مجتمعاته المعاصرة. واكب ذلك تأكيدات رومانسية متواصلة على الود والحب التاريخي بين العالمين الذي لم تفسده حروب صليبية أو توسعات تركية أو حقب طويلة من الاستعمار والإمبريالية ولن تقضي عليه خلافات دينية أو قيمية. تردد فقط بين الحين والأخر صدى خافت لدعوات للخروج عن هذا الإجماع الثقافوي التبريري والعودة إلى مناقشة دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في تحديد مسارات تطور المجتمعات بقي في الأغلب الأعم - خاصة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 - غير مؤثر.

الصورة: من الأرشيف الخاص
عمرو حمزاوي

​​وظننت في البداية عندما وصلتني دعوة من مؤسسة ألمانية مرموقة هي مؤسسة "كوربر" (مقرها مدينة هامبورغ الواقعة على بحر الشمال) للمشاركة في مؤتمر للحوار حول جدلية الثقافة والسياسة والمجتمع يعقد في خريف 2003 في إيران ويحضره مثقفون من الشرق والغرب (كانت هذه هي الصياغة المستخدمة في خطاب الدعوة) أن الأمر لن يخرج عن الإطار المعتاد المذكور أعلاه. وشعرت سريعاً بمرارة الجلوس يومين متتالين في الجمهورية الإسلامية للحديث عن الخصوصيات الحضارية والهويات المتمايزة "لهم" و"لنا" حتى وإن كان ذلك في مدينة عريقة ذات اسم جميل مثل أصفهان وفي لحظة زمنية هامة تعبر بها حركة المجتمع الإيراني عن حيوية وجوهرية الصراع بين تياري المحافظين والإصلاحيين ورؤاهم للمستقبل.

وضاعف من تحفظاتي رؤيتي لدوري في المؤتمر كمدرس علوم سياسية مصري أنجز رسالة الدكتوراه في جامعة برلين بألمانيا وعمل بها عدة سنوات قبل العودة لجامعة القاهرة يتوقع منه وفقاً لسيرته الذاتية أن يلعب وظيفة شارح خصوصيات الطرفين بخطاب مفهوم لهما معاً، وهو ما ينطوي على مساحة كبيرة من النفاق إن لم يكن المؤدي على قناعة فعلية بوجود أو بالأحرى مصداقية ادعاءات التمايز الحضاري.

ولكن الإمعان في أسماء المشاركين المقترحين من جهة، وكان من بينهم على القائمة الغربية الفيلسوف الألماني الأشهر يورغن هابرماس والرئيس الألماني الأسبق ريشارد فون فايتسكر الذي عرف عنه ثقافته الواسعة وتأثره بأفكار ايمانويل كانت التنويرية، فضلاً عن اثنين من أعضاء البرلمان الألماني المرموقين وأستاذ الدراسات الإسلامية الفرنسي جيل كيبل وفي الجانب الأخر عدد من المثقفين الإيرانيين القريبين إما من التيارات الإصلاحية أو النخبة الدينية المحافظة بالإضافة إلى نفر قليل من علماء السياسة العرب، ومن جهة أخرى معرفة أن الرئيس خاتمي سيلتقي الحضور ساعدا نفس كاتب هذه السطور الضعيفة أمام رغبة التواجد في المحافل الدولية على حسم أمرها بالمشاركة.

ولدواعي الأمانة العلمية ولإقناع القراء بصراحة الكاتب الشديدة تجدر الإشارة إلى أن أحد العوامل الإضافية التي ساهمت في ذهابه كان توقعه بقدرته على التميز من بين الحضور بحكم إجادته للغة الألمانية بجانب الإنكليزية والعربية، الأمر الذي جعله يرى في المؤتمر فرصة ذهبية لتسويق الذات على مستويي الغرب والشرق معاً.

وواقع الأمر أن سقف توقعاتي بشأن المؤتمر قد بدأ تدريجياً في التصاعد مع توارد معلومات تفصيلية عن صيغته وقضاياه الرئيسية. فاسترعت انتباهي حقيقة أن جلسات العمل ستأخذ شكل حلقات نقاش حوارية بدون محاضرات أو عروض مستفيضة وقتياً واعتبرت ذلك فاتحة خير للتخلص من حديث المجاملات المعروف والولوج مباشرة إلى جوهر الموضوع.

ثم ازداد إعجابي عندما علمت أن كامل اليوم الأول سيخصص لشحذ ذهني حول الوزن التحليلي النسبي للمتغيرات الثقافية فيما يتعلق بتقلبات السياسة والمجتمع في عالمنا المعاصر وهو ما عني وجود إمكانية للتساؤل المنظم حول افتراض مركزية الثقافة كإطار تفسيري بالأساس.

الصورة: أ ب
إصلاحيون في البرلمان الإيراني

​​وكان أن عقد في الصيف الماضي اجتماع تحضيري للمشاركين الألمان دعيت إليه وتبينت منه تنوع ايجابي في أهدافهم ورؤاهم. فرغبت المؤسسة المنظمة ومعها البرلمانيون الألمان في دفع عجلة الحوار النقدي-البناء بين دول الاتحاد الأوروبي وإيران القائم منذ التسعينيات والمعالج لقضايا حقوق الإنسان والإصلاح الدستوري والتحول الديموقراطي وحرية التجارة ونقل التكنولوجيات الحديثة من الغرب إلى الجمهورية الإسلامية.

والحقيقة أن اتساع الهوة بين المواقف الغربية، خاصة الأمريكية، والإيرانية حول العديد من قضايا السياسة الدولية خاصة الشرق أوسطية في الفترة التي سبقت الحرب على العراق من جهة وتصاعد حدة الصراع الداخلي بين المحافظين والإصلاحيين في طهران من جهة أخرى، قد رتبا فشل محاولات سابقة لإنجاز تقارب إيراني-غربي في السياق الحكومي على نحو أعطى مصداقية لنزوع مؤسسة غير حكومية وسياسيين خارج الهيئة التنفيذية للحديث مع نظراء لهم إيرانيين، على الأقل لمعرفة أفكارهم.

أما نظرة هابرماس وفون فايتسكر ومستشارين سياسيين للحكومة الألمانية فرامت تفعيل نقاش حول تعريفات متضادة للثقافة في الشرق والغرب وهيراركية مكوناتها من دين وتقاليد ورؤى للذات والعالم فضلاً عن مساحات الاستمرارية والتغير بها ثم الانتقال إلى حوار حول علاقتها بالمتغيرات المادية من اقتصاد وسياسة وعمران. وتمثلت رؤية أخيرة في أهمية عدم فرض أجندة متكاملة على اللقاء والتعامل البراغماتي مع رغبات الطرف الإيراني والتحولات المتوقعة لوجهة موضوعات النقاش أثناء انعقاد المؤتمر نفسه.

وانتهى الاجتماع التحضيري بتوزيع عدد من المقالات عن المجتمع الإيراني تتناول ذاتيته الحضارية وأوضاعه السياسية الراهنة، وبقيت الأهداف ووجهات النظر المختلفة بشأن الحوار وخريطته على الطاولة. وثمنت مثل هذا القبول العملي للتنوع في الرؤى كدليل على حيوية الفريق الألماني وتمنيت نفس الأمر على الطرف الإيراني.

الصورة: أ ب
جامع لطف الله في إصفهان

​​وفي نهاية شهر أكتوبر 2003 عقد المؤتمر في أصفهان لمدة يومين، وسبق ذلك يوم في طهران وتلاه يوم للتنزه في مدينة شيراز. ويسمح لي القارئ الكريم قبل تحليل اتجاهات ونتائج النقاش حول جدلية الثقافة والسياسة والمجتمع بمحاولة صياغة عدد من الملاحظات على هامش المؤتمر ترتبط بانطباعاتي عن المدن الثلاث التي زرتها وبعض من التقيت بهم من الإيرانيين خارج السياق المهني.

بادئ ذي بدء لفت نظري تنوع أساليب التعاطي النسوي مع فرض الحجاب. فمنذ دخولي الطائرة المتجهة إلى طهران في مطار دبي وحتى عودتي إلى المدينة الأخيرة في طريقي إلى القاهرة والنساء الإيرانيات يتبعن مناهج ثلاث: فهناك المحجبات بالصورة التقليدية التي اشتهرت بها الثورة الإيرانية أي الرداء الأسود من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، ثم سيدات من الشرائح العمرية العليا بالأساس يقترب نمط تحجبهم من النمط المنتشر بين نساء المناطق الريفية في تركيا وآسيا الوسطى وهو يعتمد على غطاء رأس فضفاض وملابس غربية طويلة لا تسمح إلا بظهور الأيدي. وهناك أخيراً فتيات شابات ونساء في منتصف العمر يرتدين الملابس الغربية ويتراجع لديهم غطاء الرأس إلى الوراء بنسب متفاوتة حتى يقترب في بعض الحالات من قمتها.

الصورة: ماركوس كيرشغيسنر
شباب إيرانيون

​​وبدا لي من مشاهداتي العابرة للحياة اليومية خاصة في أصفهان أن نسب التمثيل المجتمعي للأنماط الثلاث تكاد تكون متعادلة (أشجع القراء هنا على الاختلاف حيث أن ملاحظتي هذه قاصرة على المناطق الحضرية ومرتبطة بفترة زمنية محدودة للغاية. فربما كانت نسب تمثيل الأنماط السالفة الذكر متفاوتة في المناطق الريفية المعروف عنها تدينها الشديد أو في مدن المرجعيات الشيعية مثل قم).

وربطت بين حقيقة التعددية هذه من جهة ووجود مساحة من الليبرالية المكتسبة في المجال العام الإيراني تتزايد فاعليتها منذ وصول الرئيس خاتمي إلى الحكم وانفلات قبضة الدولة الدينية على المجتمع ذي الأغلبية الشابة (وفقاً للبيانات الإيرانية يشكل المواطنون تحت الثلاثين نسبة 55% من التركيب العمري للمجتمع) في ظل فتوحات العولمة وانعكاساتها الثقافية من جهة أخرى.

ويعلم المهتم بمسارات تطور النظم السياسية الثيوقراطية (دينية الطابع) أن هيمنة المكون الديني على المجتمع تمر في البداية بمرحلة توسع (expansion) وتكثيف (intensification) عالية تتغلغل بها سلطة المؤسسة الدينية وهيراركيتها في كل مناحي المجتمع، جزئياً تحت ستار العديد من الادعاءات الأيديولوجية وبالأساس في سياق خطاب معلن عن النقاء الأخلاقي والعودة إلى لحظة مثالية مفترضة في تاريخ الدين المعني. ثم تبدأ سطوتها بعد مرحلة وسيطة تتسم بالعديد من الصراعات بين قوى محافظة وإصلاحية في التراجع مع فشل المشروع الديني وفي سياق عملية تحول يطلق عليها في أدبيات علم اجتماع الدين "العلمنة الداخلية" (internal secularization) للمؤسسة الدينية.

ويعني مفهوم العلمنة هنا نزع القداسة عن علاقة الدين بالفرد والجماعة والأهم عن المؤسسة الدينية ورموزها على نحو يجعل من رؤاها حول شكل النظام الأفضل للمجتمع والسياسة معبرة عن خطاب مطروح في المجال العام يتنافس مع غيره على عقول وقلوب المواطنين ويجردها من ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة. ويلي ذلك في مرحلة أخيرة، كما يستبين من النظر إلى خبرة أوروبا في الانتقال من العصور الوسطى إلى الحديثة، تبلور انفصال وظيفي بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية على نحو يفتح الطريق أمام ظهور أو عودة الفهم المدني للسياسة ومداخيله الرئيسية من مفاهيم المواطنة والمساواة والتعددية والتسامح المحيدة للهويات الأولية (الدم والعرق والدين).

وتزايدت قناعتي بأن المجتمع الإيراني يمر وفقاً لهذا الفهم بالمرحلة الصراعية الوسيطة عندما أنصت إلى حديث بعض المشاركين الإيرانيين في المؤتمر عن علاقة الدين والدولة وهو ما سيرد تحليله فيما بعد.

الصورة: أ ب
مدرسة قديمة في إصفهان

​​بهرني على صعيد آخر بجانب جمال مدينتي أصفهان وشيراز بمساجدهما العريقة والأسواق ذات الطابع المعماري الإسلامي حيوية المجتمع الإيراني، خاصة في العاصمة. فأنت تشعر عند النظر إلى وجوه المارة والجالسين في الميادين العامة بشعب متفائل واثق من قدرته على تغيير الحاضر وصنع مستقبل أفضل بعد أن أختبر ثورة شاملة رتبت انقلاباً راديكالياً في ظروفه الحياتية والعديد من الأزمات بجانب بعض النجاحات.

ولا أريد هنا ادعاء وجود رفض عام للنظام القائم، وإنما بالأحرى محورية تيار واسع مدرك للخلاف في الرؤى والسياسات بين أجنحته المختلفة ولأهمية اللحظة الراهنة في تحديد مسار تطور المجتمع.

الصورة: كاي فيدنهوفر
شباب إيراني

​​وتأتي حالة التفاؤل هذه على نقيض تام من وضعية اليأس واللامبالاة المنتشرة في معظم المجتمعات العربية الفتية عمرياً أيضاً، والتي توقعت بيني وبين نفسي انطباقها على شعب اللغة الفارسية الجميلة. وتعبر النسب المرتفعة لمشاركة المواطنين الإيرانيين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية (المشهود لها دولياً بالنزاهة) وواقع النشاط السياسي المستمر في شكل تجمعات وتظاهرات واحتجاجات خاصة في أوساط الشباب على الرغم من القبضة الأمنية بجلاء عن فاعلية الحياة العامة هناك، أيضاً على نقيض حالة الجمود في الشارع العربي التي تتخللها فقط لحظات احتجاجية مؤقتة مرتبطة عادة بأسباب إقليمية (الصراع العربي-الإسرائيلي تقليدياً وحديثاً العراق).

أما الملاحظة الهامشية الأخيرة فتتعلق - وبدون مبالغات اثنوجرافية تروم تفسير ظواهر مجتمعية مركبة استناداً إلى خبرات شخصية عابرة من شاكلة "حكى لي رئيس القبيلة ونحن نشاهد معاً القداس الديني أن ... " - بمعرفة سطحية برجلين أولهما من أصفهان وثانيهما من شيراز تمت خارج السياق المهني للزيارة. يدعى الأول رظا علي (الاسم محرف) ويعمل مرشد سياحي في فندق العباسي (قصر إسلامي بديع بني في القرن الثامن عشر في وسط أصفهان) الذي عقدت به جلسات المؤتمر.

تعرفت عليه خلال جولة سياحية نظمت للمشاركين لمشاهدة معالم المدينة كان هو بمعلوماته الوفيرة وتعليقاته الذكية بطلها الأوحد. ما يعنيني هنا هو تأكيدات "السيد المرشد" اللانهائية على تفرد وتميز الحضارة الإيرانية مقارنة ببقية مجتمعات الشرق الأوسط بحكم أصولها الآرية وتشديده على أهمية الإرث الثقافي ما قبل الإسلامي للهوية الوطنية. وفي حين اعتقدت أن الملاحظة الأولى هي من باب التمسح في الضيوف الألمان خاصة وأن من بينهم رئيس جمهورية سابق وبمنطق يقترب من الصياغة المصرية المتوددة-المتوجسة من الأغراب "نحن في الأصل أقارب" (بالعامية "إحنا في الأصل قاريب")، فشلت في تصنيف الثانية.

وتساءلت عن الأوزان النسبية لمكوني الإسلام الشيعي والتاريخ الفارسي في بنية الهوية الإيرانية المعاصرة وعن مساحات الحرية في تأويل ماض تعتبره الأيديولوجية الرسمية للجمهورية الإسلامية حقبة جاهلية طويلة. وتبادرت إلى مخيلتي مرة أخرى قناعة أن الخطاب الرسمي غير مسيطر على الرؤى والتوجهات المنتشرة في المجال العام، بل وربما غير قادر في المرحلة الحالية على مصادرة تفسيرات متعارضة مع المنطق الديني.

وعندما تكررت الملاحظتان بصور عفوية عديدة اقتربت أحياناً من الهزلية (شاب إيراني يسأل في شيراز أحد المشاركين في المؤتمر من أين هو فيجيب مفصحاً عن جنسيته الألمانية فيصيح الشاب "كلنا آريون" ورجل إيراني يسمع صاحب هذه السطور يتحدث الألمانية فيهمس في أذنه قائلاً "ولكنك ليس آري، أليس كذلك؟") أضحى البحث عن خلل ما بين الإدراك الخارجي للهوية الإيرانية القائم على مركزية الدين والوعي المحلي-الذاتي بها بعناصره المغايرة أمر من الأهمية بمكان.

أما اللقاء الثاني فجمعني وعلي محمدي (الاسم محرف) وهو صاحب مصنع صغير للخراطة في شيراز. وكان أحد المشاركين في المؤتمر قد أسرى لزميل أمريكي ولي بأنه على معرفة بشاب من أهل المدينة يمكنه أن يرينا معالمها غير السياحية وتحمسنا نحن لبرنامج بديل. أخذنا علي إلى بعض الأسواق والمناطق الشعبية وأجلسنا مع أصدقاء له تحدثوا بجرأة عن الأوضاع الاقتصادية المتردية والفقر المنتشر وعن الصراع بين المحافظين والإصلاحيين الذي لم يعد يعني سواهم وليبرالية علاقة المرأة بالرجل في المجال الخاص في مقابل القشور أو المظهرية الدينية خارجه.

ولم يفاجئني ما سمعت بقدر ما جعلني أفكر ملياً وفي حدود فهمي المتواضع في مصير الدولة الإسلامية في إيران. وليأذن لي القارئ الكريم الآن في حمل كل هذه التساؤلات وأنصاف الإجابات إلى جلسات المؤتمر سعياً وراء ما يعرف بمحاولة التحليل البعدية (post-event analysis).

الصورة: أ ب
الفيلسوف يورغن هابرماس

​​على الرغم من أن اليوم الأول قد بدء بمفاجئتين غير سارتين، اعتذار هابرماس عن الحضور في اللحظة الأخيرة لأسباب لم تعلن وحضور العديد من الرسميين التابعين لوزارة الخارجية الإيرانية كمشاركين بصورة بدت مرتبطة بالممارسات الرقابية المعتادة في النظم غير الديموقراطية ورتبت عدم رضاء الأكاديميين الإيرانيين (جاء معظمهم من أقسام الفلسفة والعلوم السياسية في جامعات طهران) كما أتضح من نظراتهم وإيماءاتهم، إلا أن طبيعة ومستوى النقاش خلال يوميي المؤتمر أزالا سريعاً مخاوف الفشل.

ويمكن لأغراض العرض النقدي الحديث عن ثلاثة محاور رئيسية استغرقتها الجلسات وهي بترتيب تناولها الوزن التحليلي النسبي للمتغيرات الثقافية وعلاقة الثقافة بعمليات الإصلاح والتحول الديموقراطي في الشرق الأوسط ومستقبل النظام الحاكم في إيران. وتضاربت فيما يتعلق بالقضية الأولى مناحي تعريف مفهوم الثقافة بين التشديد على دور المتغيرات القيمية من دين وأخلاق وتقاليد في صياغة الوعاء المعرفي للجماعة المحددة من جهة والقول بمركزية العوامل المادية وتحولاتها السريعة المتخطية لخصوصيات الزمان والمكان في تحديد أنماط تفضيلات الفرد (individual preferences) ورؤيته للسياسة والمجتمع من جهة أخرى.

ولم يتبع خط الانقسام هنا المنطق التعميمي الساذج القائم على ادعاء مادية الغرب في مقابل روحانية الشرق، بل أكد معظم المشاركين الإيرانيين على سبيل المثال على مركزية التاريخ والاقتصاد والاجتماع لفهم حقائق الثقافة.

الصورة: ماركوس كيرشغيسنر

​​وتفرعت عن هذا الجدال مقولتان خلافيتان حول مفهوم الهوية ووظيفية حوار الحضارات يمكن في ثناياهما البحث عن إجابات على بعض التساؤلات التي سلف ذكرها في الجزء السابق. ففي حين نظر البعض إلى التمايزات الإدراكية والسلوكية والرمزية بين شعوب العالم باعتبارها تجسيد لخصوصيات ثقافية صنعها التاريخ ورسمت لها الجغرافيا حدودها الطبيعية التي شكلت بالتبعية الخطوط الفاصلة بين الهويات الجمعية (collective identities)، سعى نفر أخر من الحضور إلى طرح تأويل مغاير يروم البحث عن مساحات المشترك الإنساني في ظل واقع التواصل والاعتماد المتبادل العالمي ويرى في حديث الخصوصيات بقايا عصور انحسرت تحت ضغط عمليات العولمة المتصاعد وفي الهويات القومية كيانات متصورة ترعاها نخب تقرأ الحاضر ماضوياً.

أضحت المواجهة إذن بين قيمتي الاختلاف والتوحد الثقافي، بين خطاب الدين والتقاليد والتراث وخطاب عالمية الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية وخطوط الموضة المعولمة والانترنت. وترددت على ألسنة الجميع الثنائيات الكلاسيكية ابتداءاً من الأصالة والحداثة ومروراً بالدين والعقلانية المادية وانتهاءاً بالتاريخ والتكنولوجيا واستخدم على أطراف الطاولة أسلوب يقترب من نمط الإخراج السينمائي المعتاد لمرافعات المدعي بالحق ومحامي المتهم، علماً بأن موضعية كلا التيارين (من المدعي ومن المدافع) تغيرت باستمرار.

المفاجأة هنا كانت أن الطرف الغربي تبنى إجمالاً الموقف المؤكد على محورية الخصوصيات الثقافية في فهم حقائق السياسة والمجتمع وترك للجانب الإيراني أو الشرق أوسطي الدعوة لرؤية المشترك العالمي.

ويستند وصف المفاجأة على أن عرف حوارات الشرق والغرب هو أن يلعب المثقف الأمريكي أو الأوروبي دور مروج خطاب العالمية ويتجاهل تقليد النسبية الثقافية المنتشر بين ظهرانيه في مقابل محلية ممثلي العالم العربي-الإسلامي المتمسكين بدعاوى التميز الحضاري.

أما تفسير ذلك فهو عندي واحد من ثلاث، واقعية السياسيين الألمان التي صبغت الحوار أو عجز المثقف الغربي خاصة في الفترة الراهنة عن فهم العديد من ظواهر عالمنا بأدواته التحليلية المعتادة أو رغبة الإيرانيين في إظهار إيمانهم بالتقارب العالمي في سياق توقع عام بوجود تحيز مسبق لدى الغربيين بجنوح إيران الإسلامية الدائم للتأكيد على التفرد، وربما كان جميعهم معاً.

وعندما عدت في صدد إعداد هذا المقال إلى ملاحظاتي المكتوبة عن هذه الجزئية لم تعجبني استاتيكية التعامل مع مفاهيم الدين والتقاليد والتراث كمكونات للهوية ومارست نقد استرجاعي مؤداه أن التحدي الفكري الحقيقي هو محاولة رصد مساحات الاستمرارية والتغير في العناصر المشكلة لهذه المكونات وأوزانها النسبية وطرق استجابتها للتحولات العالمية. فمسارات الخصوصية والعولمة تتلاقى في كل ثقافة ولا تنفي بعضها البعض بالضرورة.

أما مسألة حوار الحضارات فدار حولها خلاف بين من رآها آلية للتعاطي البناء مع خبرات تاريخية تعاونية وصراعية ربطت الشرق بالغرب وأولئك الذين ظنوا أن وظيفية مثل هذه الحوارات إنما تتمثل بالأساس في عرض رؤى مبتورة عن الذات وترويجها عوضاً عن المحاولة الجادة لفهم الأخر، وهي أمر في الأغلب الأعم مرهق نفسياً وذهنياً. وعلى الرغم من أن النقاش هنا لم ينتج أية مساحات توفيقية تذكر، إلا أنه أظهر رقي المستوى الثقافي للرسميين الإيرانيين الذين ساهموا به. فأنت تشعر إنك أمام مفكرين حركيين لهم قناعاتهم وقضاياهم شديدي الإيمان بها ومتمكنين في نفس الوقت من المهارات العقلية والاتصالية اللازمة للتعبير عن مواقفهم بذكاء.

وإذا انتقلنا إلى المحور الثاني، علاقة الثقافة بعمليات الإصلاح والتحول الديموقراطي في الشرق الأوسط، لوجدنا أن جل الحوار قد تركز من جهة على التساؤل حول دور المكون الديني وهل هو يشكل عائق للتطور السياسي ومن جهة أخرى على الأزمة الراهنة في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي-البريطاني.

أفترض دراية القارئ بالملف العراقي ولذا لن أسهب في تناوله وأكتفي بالإشارة إلى أن المواقف التي طرحت في أصفهان لم تتجاوز اتجاهات المعركة الفكرية الدائرة رحاها الآن في المجال العام العربي تحت عنوان "بيدي لا بيد عمرو" والتي يفاضل في سياقها بين تبلور محلي تدريجي للديموقراطية وتدخل خارجي يفرضها قسراً على دول استعصى بها التخلص من النظم السلطوية إما لغياب التوافق المعياري حول الشكل الأفضل للنظام السياسي أو لضعف القوى الاجتماعية المطالبة بالتغيير.

أما فيما يتعلق بدور الدين فقد تطور سجال هام حول ظاهرتي "تسييس الدين" و"تديين السياسة" قدم عدد من الإيضاحات الإحالية (أي غير المباشرة) فيما يتعلق بالوضع في إيران. كان هناك شبه إجماع على أن ظاهرة تسييس الدين لها مستويات مختلفة تبدأ من الاهتمام العلني للمؤسسات الدينية في المجتمعات الليبرالية بشئون الحكم وتتصاعد مع أحزاب سياسية وحركات اجتماعية ذات إطار قيمي يستند إلى الدين (الأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا الغربية) أو خطاب تستغرقه المفاهيم والرمزية الدينية (لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية) ثم تصل إلى قمتها في نظم الحكم الثيوقراطية.

فقط الأخيرة هي التي كانت محل هجوم شرس خاصة من جانب بعض الأكاديميين الإيرانيين الذين تجاهلوا وجود الرسميين ومضوا منتقدين إحلال معايير دينية محل المرتكزات المدنية للمجال السياسي مثل المواطنة والحريات العامة وحقوق الإنسان. تعامل الرسميون من جهتهم مع الموقف بذكاء وأعلنوا بدون تعليقات جوهرية على متن الكلام أنه دليل على حيوية المجتمع الإيراني وليبراليته، وصدقوا.

أما قضية تديين السياسة فأسهب المثقفون الألمان في معالجتها وكرروا مراراً محورية فهم النموذج المضاد أي العلمانية على أنها تعني فصل الدين عن المجال العام وبالتالي تحييده سياسياً أو خصخصته (privatization of religion)، بمعنى أن تصبح الرؤى الدينية للمجتمع مثلها مثل الإيديولوجيات الوضعية مكون من بين مكونات أخرى للمستوى الخطابي (discursive level) في المجال السياسي.

وبدت الهيمنة القيمية لهذا الموقف الفكري الأخير واضحة عندما انخرط البعض في تعديد أمثلة لنظم شمولية اعتمدت على الدين كمصدر للشرعية وتقديم بيانات امبريقية تدلل على العلاقة الترابطية الايجابية بين العلمانية والديموقراطية. ولاحت ثنائية جديدة من بين ثنايا النقاش تستند على المقابلة بين الوضعية المحددة للدين في الخريطة المجتمعية الغربية وغموضها في العالم العربي-الإسلامي وترتب بالتبعية دور ايجابي متفاعل مع تغيرات الواقع في الحالة الأولى ومعوق لها في الثانية.

شكل مستقبل الجمهورية الإسلامية في إيران وحدود دورها الإقليمي وعلاقاتها بالقوى العالمية المحور الأخير للمؤتمر. جلس الطرف الغربي في هذا السياق موقع المتسائل الودود وأصغى لأفكار وقناعات الجانب الأخر التي عبرت عن مساحة الالتقاء والتوافق بين محافظيه وإصلاحييه، وجاءت كالتالي:

أولاً، ولت مرحلة الراديكالية الدينية (الدين قبل المجتمع) ولا بديل عن التحول الديموقراطي والإصلاح السياسي (الدين في المجتمع)، وبين السطور قناعة "إن بخاتمي أو بدونه".

ثانياً، إيران ليست جزء من الشرق الأوسط بالمعنى المجتمعي فهي قد تمكنت في السنوات الماضية من تحقيق توازن نسبي بين الدولة والمجتمع، بين التنمية الاقتصادية والعدالة، بين المناطق الحضرية والريفية، بين النساء والرجال وهي بالتالي في موقع أفضل من الدول العربية للانطلاق نحو تجربة ديموقراطية.

ثالثاً، إيران ليست جزء من الشرق الأوسط بالمعنى الثقافي، فهي متميزة بهوية قومية تجمع بين التاريخ الفارسي والإسلام الشيعي بروابط عضوية.

رابعاً، تتسم السياسة الخارجية الإيرانية بالبراغماتية فتسعى إلى توافق مع الولايات المتحدة وعلاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي وروسيا وترى في آسيا الوسطى وأفغانستان بجانب الخليج الفارسي-العربي مجالات لتحركها الحيوي.

تذكرت هنا تساؤلاتي عن الهوية الإيرانية و"المسألة الآرية" وأدركت أن هناك بالفعل قناعة عامة بالتميز عن الآخرين، عرب وأتراك، هي مفتاح رؤية الذات وتمثل في نفس الوقت تعبير عن العزلة وعدم الاندماج في إقليم تربطه بها علاقة تاريخية معقدة، وربما كانت القومية الإيرانية في ذلك شبيهة بالوطنية المصرية ووضعيتها المعقدة في المشرق.

وصنفت أخيراً حديث التفرد الإيراني والمجتمع المتوازن القادر على الانطلاق من جهة في الخانة السجالية "نحن أفضل من أولئك القريبين فقط جغرافياً" (العرب بالأساس)، ومن جهة أخرى كتعبير واقعي عن حالة التفاؤل التي عرضت له سلفاً وجوهرها أن الديموقراطية والإصلاح قد تحولا بالفعل في إيران إلى قضايا بنيوية (structuring issues) يتشكل حولها الوعي السياسي العام. وانتهت جلسات المؤتمر بنبأ جاء وقعه غير سعيد!

الخاتمة:

قرر الرئيس خاتمي الاستعاضة عن لقاء المشاركين بمقابلة انفرادية مع الرئيس الألماني السابق ريشارد فون فايتسكر كممثل عن المشاركين. تناول حوارهما الذي دار بالألمانية واستغرق زهاء الساعة، وفقاً لرواية فون فايتسكر، قضايا التسامح وقبول الرأي الأخر وإمكانات الإصلاح الديموقراطي في الشرق الأوسط التي أكد خاتمي على حتمية تدرجيتها.

لم أخسر الكثير إذن، بل على العكس بقيت الانطباعات الحيوية المرتبطة بنقاشات المؤتمر وتساؤلاته العديدة التي اجتهدت في عرضها على القارئ الكريم. بقيت لي في النهاية كلمة استشرافية وملاحظة دعت لها تطورات آنية.

أما الكلمة فهي أن المجتمع الإيراني، وعلى الرغم من أن الصراع الدائر بين المحافظين والإصلاحيين لم يحسم بعد، يمكن له أن يلعب دور النموذج الشرق أوسطي المعاصر للانتقال غير الدموي من نظام ثيوقراطي إلى تعددي إن أنجزت نخبته الحاكمة تحول ديموقراطي فعلي وهو في هذه الحالة سيمثل بديل منافس للخبرة التركية القائمة على إعادة إدراج الدين في السياسة على أسس علمانية بعد مرحلة إقصائية طويلة.

صدر المقال في صحيفة الأهرام المصرية

عمرو حمزاوي مدرس بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مقالات ذات صلة في موقع قنطرة
هل النظام الإسلامي في إيران قابل للإصلاح؟
مناضلة شجاعة