المهاجرون والاندماج في أوربا

ظافر شينوجاك كاتب مقيم في ألمانيا ذو أصل تركي وعبد القادر بن علي كاتب هولندي ذو أصل مغربي يتناقشان في المراسلة التالية حول الحياة في ثقافتين وحول مشكلة الهجرة والاندماج في أوربا.

برلين، 30 مارس/آذار 2006

عزيزي عبد القادر

نشأت داخل عائلة يلعب الدين فيها دورا كبيرا. وقد كان أبي خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي قائما على إصدار إحدى المجلات الدينية الأكبر تأثيرا في تركيا. تلك المجلة التي تسمى بكل بساطة "إسلام" كانت منبرا فكريا لإسلام ذي طابع محافظ، فقهي، صوفي و فلسفي.

لكنه لم يكن إسلاما ذا محتوى سياسي من ذلك النوع الذي تم إقصاؤه من مجالات الحياة العامة في إطار مسلسل الإصلاحات التي

ظافر شينوجاك، الصورة: الأرشيف الخاص
ظافر شينوجاك: لمدة من الزمن ساد الاعتقاد بأن مسألة الدين قد تم تجاوزها، منذ موجة التحرر الجنسي على الأقل.

​​وضعها كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة. وبالمقابل كانت أمي معلمة مدرسة عصرية وهي تنحدر من عائلة موظفين علمانية. كان أبوها قاضيا من الجيل الأول لرجال القانون في الجمهورية التركية.

ويعتبر الإسلام في نظر هذه العائلة شأنا من شؤون الطبقات الدنيا للمجتمع يتجسد في غطاء الرأس المرتبط في ذهنهم بالريفيات وخادمات البيوت. كان الإسلام يمثل بالنسبة إليهم السبب الرئيس في تأخر البلاد. ألم يظل الفقهاء لقرون عدة يعيقون كل تطور للمجتمع بأحكامهم الشرعية الظلامية؟ بل أنهم قد رفضوا حتى إدخال استعمال المطابع خوفا مما يمكن أن تسببه تلك الآلات من تعدد في نسخ القرآن المقدس.

لكن أتاتورك قد حرر المرأة من سجنها المجتمعي، كما وضع الأسس لعلوم وبحوث حول المعارف الدينية وقاد مسارا تنويريا. داخل هذا المحيط وجد أبي نفسه بأفكاره وقناعاته الدينية على الهامش. لكنه كان يبهرني بشخصيته الهامشية تلك.

إذ أنه كان رجلا ذ عمق فني وكان أكثر تفتحا من الكماليين المتشددين عندما يتعلق الأمر بمسائل فنية أو بالمواضعات الاجتماعية. من أجل أي شيء كان ذلك الرجل يناضل في النهاية؟ من أجل دوره كرجل، أم من أجل عقيدته، من أجل كرامته أم من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وبالتالي فإن ما يسمى بصراع الثقافات يعد بالنسبة لحالتي مسألة عائلية داخلية.

وبما أنني أعتبر التوترات محركا للطاقات الإبداعية فإنني كنت أجد نفسي داخل هذا الوسط في موقع مناسب جدا، حتى وإن كنت أنتهي دوما إلى الخلاصة نفسها وهي أن حوارا في مجال المسائل المتعلقة بالمعتقد لا يمكن أن يوجد إلا بصفة جزئية ومحدودة.

مع ذلك يظل التنويري الذي يعتقد في استقلال الإنسان بمسؤوليته، والمؤمن الذي يرى نفسه صنيعة المشيئة الإلهية مرتبطين ببعضهما لا يستقيم وجود أحدهما من دون الآخر. أحدهما يذكر الإنسان بقدرته على الفعل وبطاقاته الإبداعية، والثاني بمحدوديته. وإن وجود أحدهما دون الآخر يفضي إلى الهجانة، أو إلى العبودية.

عبد القادر بن علي، الصورة: http://www.ukzn.ac.za
الكاتب المغربي الأصل المقيم في أمستردام عبد القادر بن علي

​​تركيا الستينات لم يعد لها من أثر الآن. والحجاب لم يعد رمزا للطبقات الدنيا للمجتمع بل لنساء يردن التعلم ولا يسمح لهن بذلك بسبب المنديل الذي يضعنه على رؤوسهن. وزوجة رئيس الوزراء نفسها ترتدي الحجاب. لذلك هي لا تظهر في المناسبات الرسمية للدولة التركية. مفارقة: هذا النظام الذي كان يريد تحرير المرأة وإخراجها من عزلتها غدا الآن يسد عليها باب ولوج الفضاء العمومي. إن النساء المسلمات يتقبلن بحق هذا الأمر كضرب من الميز.
لكن أية ديانة هذه التي تصوغ للناس قوانين لباسية بعينها؟ وأي دخل لله في أمور الجنس؟ ولِم تتوجب في النهاية حماية الرجل من فتنة المرأة؟ ألا تغدو الحياة أكثر رونقا إن كان بإمكاننا نحن الرجال أن نعاين هذه الفتنة بكل ما فيها من سحر ومباهج؟ وما الذي تجنيه المرأة من وراء كل هذا؟

لمدة من الزمن ساد الاعتقاد بأن مسألة الدين قد تم تجاوزها، منذ موجة التحرر الجنسي على الأقل. لكن هذا التحرر الجنسي لم يجد طريقه إلى الأذهان في المجتمعات الإسلامية، إذ هو بالأساس ظاهرة من صلب المسيحية الغربية. ففي المجتمعات الإسلامية ما من حاجة هناك لتخليص الجنس مما علق به من تصورات القذارة، فهو قائم الوجود ومعترف به كحاجة طبيعية. لكن ينبغي تأطيره وتنظيمه شأنه شأن كل الأشياء عموما.

وبسرعة سيتحول الجنس إلى شأن من الشؤون المتعلقة بالشرف؛ من وجهة نظر الرجل بطبيعة الحال. إن هذا الهوس بالنظام الذي يطغى على المجتمعات الإسلامية ليس له ما يضاهيه في غيرها. شيء من صميم الطبع الألماني في الواقع. لكن منذ تجربة الحكم الهتلري كانت قد ارتخت وتيرة الشطط في الاحتفاء بهذا الهوس النظامي في ألمانيا.

ذات مرة شاهدت مقتطعات من فلم يعرض الهولنديون فيه صورة عن المهاجرين. كانت هناك صورة لامرأة نصفها الأعلى عار. إنها صورة صادقة على أية حال. إذ هكذا يتصور الناس الغرب في العالم الإسلامي: آلة للإنتاج الاقتصادي والجنسي. لكن هل يريد الغرب أن يرى نفسه على هذه الصورة؟ هل بإمكان المرء، وهل يحق للمرء أن يفصل الجسد عن الرغبة الجنسية وأن تتكون للمرء تبعا لذلك علاقة حرة بذاته؟

في ألمانيا يجري الحديث بكثرة الآن عن تقلص نسب الولادات وعن تدهور المنظومة العائلية، وعن القيم بصفة عامة. قبل عشر سنوات فقط كان الناس ينادون بمجتمع التسلية، وقد كُرس الحفل طقسا مركزيا في الحياة. أي نعم، بمثل هذه السرعة تتغير الحقب وتتناوب. بل إن الأمر لا يتجاوز كونه تشظيات زمنية. ولعل ذلك هو أحد العوامل المتسببة في الحالة العامة للشعور بالضياع وفقدان البوصلة.

لقد نجح البابا الراحل في أن يضع نفسه في مرتبة النجوم الفنية الشعبية بحلول من نوع ترك وسائل الوقاية الجنسية وممارسة الجنس قبل الزواج. نعم، هذا أيضا هو الغرب. وأحيانا يتراءى للمرء كما لو أن المرء هنا يحسد المسلمين على عائلتهم الكبرى "المتماسكة"، بل وعلى حسهم الجماعي عامة.

هذا الحسد الموارب لا يمثل البتة شرطا ملائما لترويج الحس الفردي. وضمن مثل هذه الظروف يسعى المرء إلى جعل المجتمع المتفتح نمطا مستساغا لدى المهاجرين المسلمين، ويطالبهم بمزيد من الاحترام والإخلاص؟ إن فكرة انطواء عملية الهجرة بكليتها على عنصر إيروتيكي تبدو لي واضحة. لكن التلاقح لا يمكن أن يتم إلا إذا ما كانت هناك استمالة متبادلة؛ أي قدر محدد من الجاذبية.

ظافر شينوجاك
ترجمة علي مصباح

أمستردام، 4 أبريل/نيسان 2006

عزيزي ظافر

إنني مندهش لهذا النسق السريع الذي عرفته العولمة خلال العشر سنوات الأخيرة بفضل انتشار الأنترنت وتذاكر الطيران الرخيصة، لكن أيضا بسبب التقارب الرهيب بين الكيانات الثقافية المختلفة التي وجدت نفسها منجذبة إلى بعضها بفعل ما طرأ من أحداث من نوع الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أو حرب الخليج.

أنا شخصيا، عبد القادر بن علي، ولدت بالأقاليم الفقيرة للشمال المغربي من أبوين لا يكادان يعرفان القراءة والكتابة(غادر أبي

عبد القادر بن علي، الصورة: ukzn.ac.za
عبد القادر بن علي

​​ البلاد في الستينات باتجاه أوروبا ليعيش حياة عامل مهاجر هناك حتى انتهى به المطاف إلى الاستقرار كجزّار في مدينة روترادام)، والآن ها أنا أكتب باللغة الأنكليزية وأتحاور مع كاتب ألماني تركي حول مسألة الحجاب، والتناقضات الناشئة بين العلمانية والفكر الديني، وحول الإمكانية المثلى لتفادي إشكالات سوء التفاهم.

لقد التقينا في ماستريشت، المدينة التي تم فيها التوقيع على الاتفاقية الشهيرة التي سينشأ عنها في ما بعد توحيد العملة والاقتصاد الأوروبيين. وقد كان تقبّل الكثير من جماهير الكادحين آنذاك لتلك الفكرة الأوروبية (حسب عبارة ديغول) شيئا خطيرا معتبرين أنه لا خير يرجى من ورائها. ومنذ ذلك الحين تعالت في كل مكان أصوات التشكي من أن هذا العالم الذي نعيش داخله شاسع، وقد أصبح القادة السياسيون محل تهكم وازدراء - ولم يكن ذلك دوما عن غير حق.

ومع ذلك يبدو وكأن مواقف حتى أكثر المنتقدين لهذه الفكرة الأوروبية تشددا قد لانت، أو على الأقل قد فترت حدة انتقاداتهم. واليوم فإن الإسلام هو موضوع الساعة الأساسي في أوروبا، والحديث كله يدور حول ما إذا كانت تشريعات المسلمين ومنظومتهم الأخلاقية وأشكال حياتهم الاجتماعية قابلة للتلاؤم مع قيم المجتمعات العلمانية التي يعيشون داخلها كأقليات.

هناك حيرة يمكن للمرء أن يلمسها بسهولة، وهناك خوف أيضا بعد حادثة اغتيال السنيمائي تيو فان غوخ في أمستردام ومجيء الحكومة اليمينية التي يتميز برنامجها السياسي بمعاداة واضحة للإسلام. في أثناء ذلك غدا الكثيرون يعتقدون بأنه لا ينتظر من المسلمين أي خير. ينظر المرء إليهم كمتخلفين ويُستشهد في ذلك بالحجاب الذي لا يمثل مجرد غطاء للرأس بل وسيلة اضطهاد للمرأة، أو بطقوس ذبح الخرفان في عيد الإضحى، أو بالخطابات المعادية للغرب التي يجترها المسلمون كلما طرحت للنقاش مواضيع تتعلق بالعولمة أو بالفصل بين الدين والدولة.

أول مرة رأيت فيها مهاجرين مسلمين ممثلين كفئة في حد ذاتها كانت في فلم ألماني. تدور أحداث القصة حول مجموعة من المهاجرين الأتراك قادمين من بلاد الأناضول إلى ألمانيا داخل شاحنة للبضائع، لكنهم كانوا لا يتكلمون مع بعضهم إلا نادرا. وفي برلين التي تُقدم كمدينة فاحشة تجد الجماعة نفسها أخيرا أمام عرض جنسي مباشر ويشاهدون امرأة ورجلا عاريين يتضاجعان فوق الخشبة. أفراد الجماعة الذين دفعوا مبلغا لمشاهدة هذا العرض يصفقون عندما يبلغ الرجل حالة الاستفراغ. لكنهم لا يصفقون أبدا عندما تبلغ المرأة ذروتها. وبالرغم من أن والديّ قد حاولا أن يخفيا عني هذا المقطع السخي جدا، إلا أنني تمكنت من مشاهدته، ولم يمّح بعدها من ذاكرتي البتة. ما استخلصته من ذلك هو أن المسلمين يشمئزون من الجنس الرخيص.

واليوم أجدني مطالبا ككاتب ذي خلفية إسلامية أن أوضح للمجتمع ولأولئك الذين يريدون إصلاحه كيف ينبغي التعامل مع هذه الأقلية التي يفترضون أنها متناغمة. وعندما أسأل عن رأيي أحب دوما أن أمارس شيئا من الدعابة العابثة. وأنا على رأي أنه على الكتّاب أن يتقنوا مثل هذا الغمز. خاصة الآن وفي مثل هذه الأجواء المشحونة باللغط.

-"كيف يمكننا حل هذه المشكلة مع المسلمين؟" غالبا ما أُسأل.
-"إنني لا أرى أية مشكلة"، أجيب دوما.
-"كيف لا ترى أية مشكلة؟"
-"أية مشكلة إذن؟"
-"ألا ترى كيف أن الجيل الثاني من المهاجرين المغربيين ينظرون باحتقارإلى الثقافة الغربية؟ إنهم معادون للسامية عداء متمكّنا ويستجلبون زوجاتهم من بلادهم الأصلية ولا يخرجون عن محاكاة نمط عيش آبائهم. علاوة على ذلك فهم مازالوا يتناولون أكلهم بأيديهم."
-"أي عيب في ذلك، أن يتناول المرء أكله بيديه؟"
-"إنك تعرف ما الذي أعنيه."

لا أستطيع أن أمنع نفسي من الابتسام قبل أن أجيب. ثم أسأل مخاطبي: "هل سمعت عن تلك الاستمارة التي أعدت في هولندا؟ "Forum"(المنتدى)، وهو معهد يقوم بدراسات عن التطورات والاتجاهات المختلفة داخل مجتمع متعدد الثقافات، قدم في هذه الاستمارة أسئلة لمسلمين من الشباب حول حياتهم الدينية وكذلك حول نظرتهم إلى مسائل متنوعة من الحياة اليومية. وقد اتضح من بين ما كشفت عنه هذه الاستمارة أن لا أحد تقريبا من هؤلاء يؤم المساجد، بل إن اهتماماتهم موجهة بالأحرى إلى الأزياء الإستعراضية أكثر من التوجه الى قبلة مكة من أجل الصلاة.

إنهم شباب، وككل الشباب هم أيضا ميالون إلى التطرف. لتتذكر قليلا جيل الـ68 الذين كانوا يضعون زهورا في شعرهم ويستمعون إلى موسيقى عجيبة وينادون بالثورة العالمية. كم من هؤلاء ظل حقا مواصلا على درب تلك الأهداف التي كانوا ينشدونها؟"

لكن ليس بهذه السهولة يمكنني دوما التخلص من ورطة هذه النقاشات. ذلك أن الناس عندما يقعون على كاتب هولندي من أصل مغربي بإمكانه أن يتناقش معهم في مسائل متنوعة؛ من الإسلام في مناطق الواحات المغربية إلى السمفونية الخامسة لمالر، فإنهم لن يكفّوا عنه بسهولة.

-"لكن الدعوة إلى المحبة والسلام تختلف تماما عن الدعوة إلى الجهاد وتقتيل الكافرين. إن هذا الجيل من المهاجرين لم يعد لديه أي احترام، ولأي شيء!"
-"لكن لعل ذلك من خصوصيات الزمن الذي نعيش فيه. أن لا يكون للناس أي احترام لبوش أو لتوني بلير، وأن يسموا الأشياء بأسمائها. أن يكون هناك كلام عن التمييز وعن انعدام العدالة الاجتماعية، أو أن يطرح التساؤل عن المعنى الذي يمكن أن يكون للإيمان الديني في عصر العلمانية، فهذه ليست من مشاغل الشباب المسلم وحده. إنها موضوع الكلام في كل مكان، وباب الجدال قد فتح الآن."
-" تريد أن تقول إذن إنهم مثل غيرهم تماما."
-"أنا على أية حال لا أرى فرقا كبيرا."
-"ما عدا الحجاب."
-" أتدري أن هناك فتيات يرتدين الحجاب لكنهن يتزينّ ويدخنّ السجائر؟ إن ذلك يبدو كمثال على التناقض، لكنني رأيت ذات مرة فتاة تركية ترتدي حجابا (بالمناسبة التركيات يضعن الحجاب بطريقة تختلف تماما عن المغربيات) وتجر وراءها كلبا. إنه تناقض في حد ذاته، بل هو أقصى أشكال التناقض."
-"إذن أنت لا ترى أي خطر؟"
-"إنني أرى كثيرا من الكلاب المشدودة."
-"بعض تلك الكلاب تعض."
-"بعض تلك الكلاب وديعة."
-"البعض من تلك الحجابات يطالب بمزيد من الحجاب ويحركه رجال من أصحاب اللحى."
-"البعض من تلك الحجابات له ممارسات جنسية مذهلة، حتى عندما لا يتحدث عن ذلك، وحتى عندما يتستّر عليه أمام المجتمع.

تُرانا بحاجة إلى مهرجان للحجاب كما كان جبل الستينات بحاجة إلى مهرجان وودستوك Woodstock-Festival كي يبرهن على أنه قد تحرر من كل القيود، وأنه حل اللغز الوجودي الذي كان يشد مجتمع ما بعد الحرب إلى فلكه؟"
-" إذن أنت لا ترى أي خطر؟"
-"إنني واقعي. وأعتقد أننا بحاجة إلى مصالح أمنية قوية تستطيع أن تمنع حدوث عمليات تستهدف المجتمع المدني. لكنني أعتقد أن الحريات الفردية حاليا مهددة أكثر مما يدعى بالمجتمع المدني."
-"بودي لو تكون على حقّ."
-"وبودي لو أنه بإمكاننا أن نتوصل بالحجج إلى إقناع حتى أكثر الناس خوفا ممن وُهب شيئا من عقل بأن ينظر بثقة إلى المستقبل وأن يناضل من أجل ذلك المستقبل."
-" أي أنك تريد أن تنتصر على الخطر الذي يحكم قبضته على المجتمع؟"
-"لِم لا؟"
-"لأن الخطر لا يعرف اللعب."
-"ذلك ما سنراه مستقبلا."

عبد القادر بن علي

برلين، 11 أبريل/نيسان 2006

عزيزي عبد القادر

​​تتكلم في رسالتك عن العالم الشمولي. وبالنسبة لنا نحن الكتاب بالذات، نحن الذين نحتاج إلى شيء من البطء لكي نستطيع العمل، ذلك أن الكتابة ليست في الحقيقة شيئا آخر غير التخفيض في نسق سيل الكلام من أجل الإمساك بما هو مهم، فإن هذا العالم يمثل ضربا من التحدي(الذي يواجهنا)، لكنه يفتح أمامنا أيضا مجالات جديدة للتدخل وفضاءات للتواصل.

فهل من باب الصدف أن نجد أنفسنا نتواصل ونتحاور عبر هذه الوسيلة الإعلامية التي هي جزء من هذا العالم الشمولي. وليس الكلام المتكررعن فشل المجتمعات ذات التعدد الثقافي سوى التعبير عن الفشل أمام ما تطرحه العولمة من تحديات.

وكلمة السر بالنسبة لهذا الفشل هي "الخوف". خوف من فقدان السبل المعتادة وإمكانيات التعبير المتداولة والعملات المعهودة. ففي كل لحظة يمكن لما هو معروف أن يغدو شيئا غير معهود و تحوّلا جديدا. وهذه التحولات المطردة لا يتم تقبلها كأشياء مثيرة ومثرية، بل كخطر مهدد، خاصة وأنها غالبا ما تكون مرفقة بخسارات على مستوى السلطة الاقتصادية والسياسية.

عندما تم استجلاب اليد العاملة الأجنبية إلى ألمانيا قبل ما يقرب من نصف قرن من الزمن لم يكن لأحد بالتأكيد أن يفكر في الخطر الإسلامي. واليوم يؤلف العديد من الكتاب كتبا يتنبأون فيها بعالم سيسيطر عليه المسلمون، وتتقوّل بأن الفاشية الإسلامية تهدد العالم "الحر". إن هذه السيناريوهات هي الطريقة الأكثر ملاءمة لتحويل الأنظار عن المشاكل الحقيقية.

اطلعت مؤخرا على إحصائية يبرز من خلالها أنه قد غدا من الصعب جدا خلال السنوات الأخيرة على الشبان ذوي الأصل التركي أن يحصلوا على مكان لتلقي التكوين المهني في ألمانيا. وقد شهد عدد المتمتعين من بينهم بهذا التكوين تقلصا بما يعادل الثلث، بينما ظل عدد المتمتعين بالتكوين من الألمان الأصليين محافظا على مستواه في أسوأ الأحوال، بل أنه قد شهد تحسنا في بعض المقاطعات.

ماذا سيكون مصير هؤلاء الفتيان والفتيات؟ وأية آفاق مستقبلية لهم؟ وهل يمكن إدماج أناس داخل مجتمع لا يضمن لهم حتى أبسط الشروط الضرورية للحياة؟ إن مجتمعنا ينتج فئات مهمشة بطريقة مسترسلة. الكثيرون من هؤلاء الشباب لا علاقة لهم بالدين، والأمر سواء لديهم أن يؤذن المؤذن للصلاة أم تصدح أجراس الكنيسة. لكنهم في تمثل الرأي العام لهم هم المسلمون الذين يستحيل إدماجهم، والإرهابيون المحتملون والمعادون للمرأة وللمثليين الجنسيين ، إلى غير ذلك من النعوت.

نعم، صحيح أن هناك تشددا في القيم وإلى حد ما تطورا للتطرف في الرؤى. والبعض من الشبان قد ترعرعوا داخل محيط تقليدي سرعان ما وجدت أعرافه وقيمه نفسها في مواجهة مع قيم مجتمع ليبرالي وتعددي. إلا أن تدين هذه الظاهرة، الاجتماعية في المقام الأول، لا يساعدنا على التقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

في ألمانيا يقيم حوالي 120 ألف إيراني، الأغلبية الساحقة منهم من ذوي العقيدة الإسلامية، لكن لا يكاد يأتي ذكرهم في النقاشات الدائرة حول "الخطر" الإسلامي. أغلب هؤلاء منحدرون من الفئات الوسطى، بل بعضهم من الطبقات العليا، وبالمقابل فإن الأتراك الذين استُقدموا بمئات الآلاف في الستينات من أجل تنفيذ الأعمال القذرة والكد داخل مناجم الفحم الحجري وفي أنفاق المترو، غدوا يشكلون الآن فئة اجتماعية دنيا تُعد بالملايين وذات حظوظ في الارتقاء متدنية جدا.

إن مواطن الشغل التي كانوا يشغلونها في ما مضى لم تعد موجودة، وبالتالي فإنه، وبكل بساطة، لم تعد هناك من حاجة إليهم. كما أن الأغلبية الساحقة منهم ذات تكوين ثقافي رديء أو منعدم تماما، وأبناؤهم يصابون بالفشل في المدرسة. والذين يفلحون من بين هؤلاء في تسلق جدران هذا القاع بأيديهم وأرجلهم، وهم أقلية الأقلية، يكونون قد أنجزوا بالفعل عملا جبارا. هذه هي الفضيحة الحقيقية التي ينبغي أن يُتكلم عنها. أما الخطاب الذهني عن الإسلام فهو في الحقيقة جدال وهمي، وهو لا يصل إلى أولئك الذين يعنيهم. إنه شأن من شؤون الدردشة الصحافية.

لنعد إلى ظاهرة الخوف؛ لقد عودت نفسي على تغيير زوايا النظر عندما أكتب عن هذه الظاهرة. أي أنني أضع نفسي لا موضع الذي يُتخوف منه، بل في موضع الذي يخاف مني. أتصور نفسي واحدا من أولئك الألمان المستقرين منذ عشرات السنين في دائرة بعينها من مدينة برلين.

سني يقارب الآن الخمسين وحظوظي في العثور على موقع عمل جديد ضعيفة. والآن ها أن جامعا سيبنى في الحي الذي أقطن به. وسيغدو بإمكان أولئك الناس ذوي الهيأة الغريبة والذين يتنقلون جماعات على الدوام أن يتجمعوا في هذا المكان ويقيموا صلواتهم هناك.

وقد علمت عن طريق وسائل الإعلام بأن هؤلاء الناس لا يقيمون صلواتهم فقط في مثل هذه البنايات. وعلى العموم فإن المظهر الغريب لهؤلاء الناس يزعجني وكذلك نوعية لباسهم الغريبة وألمانيتهم المكسرة. إنني أريد أن أعيش في ألمانيا بين أشباهي. وهذه بلادي في النهاية. عم يبحث كل هؤلاء الغرباء هنا إذن؟

لقد سمعت من جاري أن أغلبهم يعيشون من المساعدات الاجتماعية، على حسابنا. كما قال لي أيضا أن الجنس الألماني سينقرض عما قريب وأن هؤلاء الغجر سيرثون كل ما شيدناه بجهد عملنا. ذلك أنهم يتوالدون مثل الأرانب.

طبعا مثل هذه الآراء لا تسمع في الجلسات الراقية لحلقات النقاش أو القراءات التي أقوم بها. بل هنا تطرح المسألة بالتأكيد على أن الأتراك قد امتنعوا حقا عن الاندماج، وعددهم بكل بساطة قد تجاوز الحد.

ظافر شينوجاك
ترجمة علي مصباح

أمستردام، 26 أبريل/نيسان 2006

عزيزي ظافر

عبد القادر بن علي، الصورة: ukzn.ac.za
عبد القادر بن علي

​​هذا النقاش حول التعدد الثقافي والعولمة يذكرني بعرض مسرحي رديء. إننا نحب الكلام عن كل ما هو جميل وقبيح مما يدبره الإنسان لأخيه الإنسان. لكن عندما تكون أمم وحكومات، الديمقراطية منها والأقل ديمقراطية، ...

منشغلة في الآن نفسه بإعداد حروب ومعالجة مادة الأورانيوم، أو قصف بلدان بريئة بالقنابل فإن الجانب الإيجابي من هذا الاستعراض لطبيعة الإنسان سيبدو خاويا من المحتوى إلى حد ما.

الشعر لا يغير أي شيء، بل إنني سأضيف بأن الروايات والأقاصيص والمقالات ليست أكثر جدوى بدورها. وأنا على رأيك بأنه ينبغي على الكتّاب أن يتحلوا بالتأني حيث يكون المجتمع متسرعا في إصدار الأحكام ويطلب بإلحاح حلولا سريعة لمشاكل ظلت مهملة لمدة من الزمن.

إنني أحب كثيرا أن أكتب ببطء وأمرّن نفسي على الصبر مع أنني أعتقد أيضا أن هناك حالات عاجلة تستوجب غير هذا السلوك: أي أن يُسمع المرء صوته ويعبّر أيضا عن رأيه في مسائل تعد من مواضيع الساعة. فحين يكون بإمكان المرء أن يرى الأشياء بوضوح في حين تتراءى ضبابية أمام أعين الآخرين، فإن عليه أن لا يتردد.

لكنني أصبحت أضيق بهذا الأمر أيضا. فأنا أعتقد أنه من الخطأ أن ينتظر من الكتّاب أن يضعوا أسسا للمستقبل، وإن كان على الورق فقط. وبالذات لأننا نجد أنفسنا بصفة طبيعية وتلقائية في وضع الذي ينهل من ثقافتين بطريقة متوازية ومتساوية نكون غير قادرين على الإيفاء يهذه المهمة أفضل من غيرنا.

إن المستقبل يظل على الدوام في مجال المجهول. بطبيعة الحال أنا أؤمن بثنائي الزوج في حد ذاته، أي ترابط شخصين وقرارهما بتكوين سعادة مشتركة، كما أؤمن بالعقل البشري السليم الذي يقرب بين الناس ويوحدهم في النضال ضد الحيف الاجتماعي ومن أجل العدالة.

لكن، وكما في الزيجات السعيدة، هنا أيضا يمكن أن تحدث أشياء غير منتظرة. يمكن أن يقع الزوج في غرام امرأة أخرى، وعندما تأخذ الأشياء مجراها قد تغدو المسألة في كليتها في لحظة ما شبيهة بشريط "مشاهد من حياة زوجية" لإنغمار برغمان.

لكنني أود أن أكشف لك أي خطأ تقوم به حكوماتنا اليوم؛ فعوضا عن القيام بعمل ما لمواجهة الحيف الذي تعاني منه الطبقات الاجتماعية الدنيا للمجتمع، تراها تلقي بالمشاكل الاجتماعية لهذه الفئات على الدين. وقد كان على الفرنسيين أن يدفعوا ثمن هذا الخطأ كما شاهدنا من خلال اضطرابات شباب الضواحي مؤخرا.

إضافة إلى هذا فإن أوروبا كيان مكون من تجمع لدول متفرقة مازالت كلها تنظر إلى نفسها في المقام الأول كدول قومية مختلفة. ولكم كانت الفوارق بين الدول المتفرقة تلعب دورا مهما على مدى التاريخ: فرنسا مختلفة عن ألمانيا ولذلك ينبغي الدخول في حرب؛ وأنكلترة تختلف عن هولندة ولذلك من الأفضل أن لا نخوض حربا.

كانت الهويات القومية تتحدد على الدوام بحسب هذا النوع من الحدود المفرِّقة. وقد ضحى جنود الحربين العالميتين الأولى والثانية بحياتهم من أجل هذا المفهوم الاختلافي الأخرق، وذي الفعالية الفائقة مع ذلك. لذلك تظل فكرة أوروبا الموحدة دون وقع إيجابي على أنفس المواطنين، إذ أنه لم يعد هناك من شيء يمكن الدفاع عنه بقوة السلاح، ذلك أن الفكرة الأوروبية فكرة سلام في النهاية. ويظل الأساس الذي ترتكز عليه هذه الفكرة هو المصالح الاقتصادية الخاصة. وهو توازن استطاع أن يظل قائما إلى حد الآن.

ما الذي يجعل أوروبا إذن تواجه مشكلا في الاعتراف بالمهاجرين كمواطنين ذوي حقوق متساوية مع مواطنيها الأصليين؟ لأن ذلك سيعني التخلي عن فكرة الاختلاف التي ظلت محافظة عليها على مدى قرون عديدة. على المهاجر أن يظل مختلفا كي لا يصاب الحلم القومي بالتداعي. وعندما يطالب هذا الأخير بحقوق متساوية فإنه يُمنح ذلك رغم كل شيء، تماشيا مع المثل الأعلى للثورة الفرنسية. لكن ذلك لا يتلاءم في الأساس مع الفكرة القومية.

لقد وجد المعذبون في الأرض خلال القرن العشرين ملاذا لهم في الاشتراكية. وقد كانت هذه الأخيرة بمطمحها الأممي الرامي إلى تخليص كل المضطهدين في العالم تمارس جاذبية قوية وقد بدا في البداية أنها تسير بنجاح، لكنها منيت بضربة قاضية مع انهيار جدار برلين. فجأة ماتت الفكرة الاشتراكية وإذا الأحزاب المتنازعة تتجه باهتمامها إلى الفئات الوسطى الجديدة التي نشأت وتطورت من داخل الطبقات الدنيا سابقا.

واليوم قد تشكلت لدينا طبقة دنيا جديدة مكونة من مجموع أناس مختلفي الأصول لا يستطيعون أن يجدوا ضالتهم لا في الفكرة الأوروبية ولا في "النهج الثالث" لما يسمى بـ"الوسط الجديد" لأوروبا. هؤلاء هم اليتامى الجدد. أن يكون الواحد يتيما يعني أن يكون مرغما على التبعية. وعندما ترى المصائر الفردية نفسها لا تحظى باهتمام أي طرف من الأطراف فإنه لن يظل أمام المعني سوى أن يطور درجة قصوى من الانغلاق.

هذا السلوك يمثل في الآن نفسه ضربا من التحدي، كما قلت أنت أيضا في رسالتك، ففي مثل هذا الموقف تكمن بالنسبة للأفراد الإمكانية الوحيدة للتوصل إلى إثبات ذاتية خصوصية ومتطورة. لكن المجموعة تظل مرتبكة وغير قادرة على مواكبة هذا الأمر. إن هذا الشكل الجديد للإسلام يوافق حاجة في نفوس هؤلاء الميتّمين وذلك ما أستطيع تفهمه جيدا.

إنهم لا يرغبون في أن يكون عليهم أن يعيشوا تلك الوضعية التي تعيشها شخصيات شريط "مشاهد من حياة زوجية"، وهم يطمحون إلى هوية خاصة حتى وإن كانت مجرد صورة مبسطة لما يمكن أن تكون عليه الهوية الحقيقية. إنهم يهفون إلى استقرار نفسي يمنح حماية لكيان اليتيم الذي يسكنهم في الأعماق، ويريدون أن يقال لهم:

أنت أيضا يمكن إنقاذك! حتى وإن كان ذلك الاستقرار النفسي مخترقا بكل كليشيهات ما يسمى بالديانة النشيطة. وسواء رأى المرء في هذا المسار أمرا فظيعا، أم أبدى تعاطفا معه فإن هناك على أية حال واقعا جديدا ينشأ من خلاله وسيكون على المجتمع الشامل أن يتفاعل معه. وكي نعود مرة أخرى إلى مسألة العولمة، فإنني أتفق معك في أنه حيث لا تتم معالجة صحيحة لما ينجم عنها من تبعات، ينشأ الخوف والمقاومة اللذان يرميان بجذورهما في القومية الآفاقية.

إن أوروبا قد وقعت سجينة حلمها الخاص بأن يكون لها إصبع في كل شيء. وقد نجحت في ذلك جيدا على أية حال، إلا أن مواطني هذا الكيان الأوروبي يظلون فاترين ومتخلفين عن الركب. حول هذه المسألة سأتكلم بأستفاضة أكثر في الرسالة القادمة.

عبد القادر بن علي
ترجمة علي مصباح

8 مايو/أيار 2006

عزيزي عبد القادر

ظافر شينوجاك، الصورة: من الأرشيف الخاص
ظافر شينوجاك

​​تطرقت في رسالتك إلى المشكل المركزي لأوروبا الذي يتمثل في العلاقة بالآخر وفي الثقافة كأمر غدا من مشمولات إدارة بوليس الأجانب، وكيف يجري تطوير المسألة الثقافية ورعايتها كعنصر يسند فكرة الهوية الخاصة. وأنا أعتقد ...

بالفعل أنه من دون تجاوز هذا الفكر الإقصائي، شديد العنصرية في الجوهر لن يكتب للإتحاد الأوروبي أن يوجد مستقبلا، وستكون هناك في أحسن الحالات منظومة من الدول المستقلة التي تجتمع حول مصالح اقتصادية واستراتيجية بعينها. ولعل هذا المستوى الأدنى في حد ذاته يعتبر نجاحا إذا ما استحضر المرء التاريخ الأوروبي الموسوم بالحروب والتقتيل المتبادل.

وقد نجحت قارة الحروب الأهلية خلال الستين سنة الماضية إلى حد ما في ضمان السلام. لكن هذا السلم سيظل مهددا طالما لم يقبل المرء بواقع أن الهجرة ستفرز بدورها توترات جديدة في أوروبا. وبالذات لأن التوترات بين الدول قد تم فك ألغامها فإن الطاقات العنفوية تبحث لها عن حقل جديد سبق أن أثبت صلاحيته في الماضي: العلاقات مع أناس من ذوي العقيدة واللون المختلفين.

أما الأصولية الإسلامية فإنني أنظر إليها كتنويعة "مشرقية" عن القومية الأوروبية، حيث تمثل عناصر معاداة الأجنبي والتمترس الثقافي وتقوقع العناصر البشرية داخل مجموعتها وقبيلتها وأمتها وثقافتها الخاصة السمات المشتركة بين الظاهرتين. من هذا المنظور فإن الحركة الإسلامية أبعد عن كونها قناعة دينية عتيقة، بل هي تيار سياسي حديث كليا.

بعض المعلقين يتكلمون في هذا المضمار عن إديولوجيا شمولية ثالثة بعد الفاشية والاشتراكية، على العالم الحر أن يفرض نفسه في وجهها. وأنا أشاطرك الرأي في أن هذا الصراع المتأوَّل ثقافيا في أغلب الأحيان هو في المقام الأول مواجهة حول الثروات المادية والحظوظ المستقبلية ومسائل المكانة الاجتماعية والعدالة.

هذا المفهوم الأخير غالبا ما يتراءى بمثابة العبارة البلاغية الغريبة في تاريخ الإنسانية. ولديّ إحساس أكثر فأكثر ترسخا بأن الهروب إلى التمترس الثقافي –والثقافة تستعمل هنا كنموذج جاهز لتوضيح كل المشاكل- يتدعم أكثر كلما ازداد تأجيل تدبر حلول للمشاكل الاجتماعية.

أية حظوط ستكون هناك أمام طفل من أبناء المهاجرين داخل مجتمع أوروبي إذا ما غادر المدرسة دون شهادات؟ وعدد هؤلاء في ألمانيا ليس بالقليل. أكيد أن المجتمع ليس مسؤولا عن كل الإخفاقات. فهناك أيضا الكثير من الفتور وعدم الاكتراث في صفوف المهاجرين.

لكن هؤلاء "الأيتام"، كما أصبت جيدا في تسميتهم، يحظون بمستوى ضعيف جدا من الاهتمام. ففي العشريات الماضية الأخيرة اختزلت الاعتمادات المالية بنسب عالية في ميادين التكوين وأنشطة أوقات الفراغ بالذات وذلك بهدف التقشف. ولا ينبغي أن يكون المرء نبيا كيما يرى منذ الآن بأن هذا التقشف ستكون له تكلفة عالية بالنسبة للمجتمع.

نحن الكتاب لسنا بالمربين الاجتماعيين، ولا نحن بالأنبياء أيضا. لكن لدينا مع ذلك قرابة ما بهذين المجالين. ذلك أننا نصف أوضاعا ومشاعر إنسانية غالبا ما يتم التعتيم عليها داخل ما يسمى بالخطابات الرسمية. أن يكون سعي "الأيتام" إلى تأسيس نظام منغلق منطويا على بعد جمالي فذلك ما لا يمكن الاعتراض عليه.

وهذا البعد الجمالي يستمد مادته في نظري من منظومة إديولوجية إثباتية وهي الحركة الإسلامية. إن عمليات الإخراج المسرحي للحركة الإسلامية ورسالات مرتكبي العمليات الانتحارية المنقولة عبر أشرطة الفيديو، والاستعمال المكثف للأنترنت، والترويج الإعلامي لأمراء الإرهاب كنجوم الفنانين قد غدت في هذه الأثناء ضربا من التعويض الفني، أو لنقل نوعا من الشعر الرديء. أن تواجه هذه الظاهرة ببرنامج فني جيّد ومبدع فذلك ما يعد عمل تحد حقيقي.

لا يتعلق الأمر هنا بنية في تغيير العالم عن طريق الكتب، بل أن يكون الكاتب حاضرا في العالم بهدف معاينته من وجهة نظر جديدة، والسعي بين الحين والحين إلى إيجاد لغة للتعبير عن الضياع من شأنها أن تحسس الكثيرين ممن لم تعد تربطهم علاقة بدولة ووطن وتقاليد. إن هناك بالتأكيد شيئا آخر غير جبهتي صناعة المسلّيات ومنظمة القاعدة.

إنني في سن تتجاوز سنك ببعض السنوات، وليس غريبا عني البتة هذا القرف الذي تتكلم عنه بخصوص وضع الذي يقف مثل حارس للجسور ما بين الثقافات. أن يأخذ المرء على عاتقه تحمل هذه المهمة التي غالبا ما تناط بعهدتنا بصفة آلية يعني أيضا أنه بإمكاننا أن نصنع لنا شيئا من ذلك.

ألا تشعر بالامتننان لكل هذه القصص الرائعة الكثيرة التي بين أيدينا، لا لشيء إلا لأننا نشأنا وترعرعنا في محيط تسوده أكثر من ثقافة واحدة وحيدة؟ لقد أصبحت في الأثناء أدرك هذا المعطى الواقعي كتحد جمالي، تماما كما أدرك الإسلام كتحد جمالي أيضا. بغير هذه الطريقة فإن المضي إلى الانغلاق سيكون أمرا حتميا.

ظافر شينوجاك
ترجمة علي مصباح

أمستردام، شهر أيار/مايو

عزيزي ظافر

عبد القادر بن علي، الصورة: ukzn.ac.za
عبد القادر بن علي

​​
أجسادنا لم تعد ملكا لنا. لقد غدت مصادرة، ممزقة، مفترَسة، محتجزة، موضوعا للقصف والجدالات ولعمليات التوضيح والتشريح والاختبارات الصارمة التي تمارسها عليها أفكار وتأثيرات وتقاليد جديدة، وأغاني ومنوعات وأفلام وملابسات سياسية وأفكار متطرفة...

نحاول حماية أجسادنا والحرص على أن تظل جسرا بين ما هو شعوري وما هو لا شعوري، بواسطة ارتداء الملابس الجميلة والسباحة وبناء البيوت التي تكوّن المحيط الحاضن لنا ولأفكارنا السطحية. إننا ندافع عن هذا الجسد الفاني الذي هو لحمنا ضد السهام الموجهة إليه بتوخي سلوك الانكماش والاختباء ورفض الإجابة عن الأسئلة الملحة التي تطرحها علينا الحداثة.

الشرق كما الغرب، كلاهما يتنازعان حق نفوذهما على جسدنا، وكلاهما يملي علينا: أظهر جسدك للعالم، أو فجّره، أو اجعل منه شيئا متبتّلا، أحجب كنوزك! وهكذا يتحول الجسد إلى ساحة قتال داخل ما يسمى بالصراع على السيطرة.

تظل الإمكانية الوحيدة لتحقيق سيادة الإنسان على جسده تتمثل بالنسبة لكل كائن ذي عقل في التفكّر في الأشياء والكتابة عنها، وبالتالي استثمار شحنات الغضب من أجل تطوير شكل جديد للمقاومة أو للوجود على منوال التفليد الفكري والأدبي الثري لأعلام مثل أبي نواس وفولتير وجيمس جويس وألبير كامو وإدوارد سعيد وآخرين من إخوتهم وأخواتهم.

هذا بالضبط هو ما يشغلنا اليوم. وكثيرا ما يذكرنا هذا العمل بمَثل سيزيف الذي كان محكوما بدفع صخرة ورفعها إلى قمة الجبل. إنني أحمل في داخلي هذه الصورة التي تنطوي على دلالة كبيرة بالنسبة لي، وعلى الدوام تظل تعود إليّ كلما دخلت في نقاش حول الإسلام وأزمة الحركة النسويّة والإرهاب أو حول مسائل الظلم الاجتماعي.

فهذه النقاشات تبدو لي مكرّرة ومستعادة دوما، ومواضيعها غدت معروفة ومجترة. ونادرون هم أولئك الذين، في ضوء هذا الواقع الذي يخضع إلى سيرورة تحول مطّرد، يبدون استعدادا للانفصال عن قناعاتهم الراسخة الصلبة، وهكذا أتراءى لنفسي شبيها بسيزيف الذي لا يتوقف عن تسلق جبله. أما الصخرة فأستعملها كسلاح – أو كأسلوب- كي أجعل نفسي مفهوما وأعبر بوضوح.

إن جسد سيزيف نفسه غير محصن من الانقراض؛ ففي يوم ما سيأتي الموت ويأخذه. ولا تظل هناك غير الصخرة وانتظار مجيء سيزيف جديد سيتولى من جديد دحرجتها إلى أعلى الجبل.

إن المهمة التي تطرح نفسها على الكاتب تتمثل في تحديد مدى الوضوح الذي ينبغي أن تكون عليه الصخرة، والطابع المباشر للمعاينة. فأنا أسافر بعينين مفتوحتين من أجل التقاط الأشياء وبالأخير أعود محملا بمحصول تجاربي. وتماما مثلك أنت أشعر بنفسي مرتبطا بجذوري وفي الوقت نفسه أتطلع إلى المستقبل بكثير من الاهتمام.

لعل هذا المنظور يبدو أفقا بائسا، لكن لم لا ندع أنفسنا نتعلم كيف نحب هذا البؤس!

هناك أمر أكيد وهو أن الكتاب والمثقفين باستطاعتهم أن يغيروا طريقة تفكير الناس من حولهم وذلك بفتح نوافذ على العالم الجديد. لكن من بين الحقائق التي سيكون عليهم أن يتكلموا عنها هناك أيضا الكثير من الحقائق الشنيعة، وإنه يستحسن الكلام عنها وسردها بشيء من الرقة والصبر.

على سيزيف أن يكون متحليا بالصبر. كما علينا أن نصغي بصفة أفضل، وأن يكون واضحا لدينا أن أرقى أشكال المسؤولية تتمثل في بعض الأحيان في عدم تحمل مسؤولية بالمرة. علينا أن نكون صريحين وصادقين، بل وعلى شيء من السذاجة أيضا كما هو الشأن بالنسبة لإيراسموس في عمله الرائع "مديح الجنون"، إذا ما أردنا أن نشحذ قبسا طفيفا من النور داخل الوضع العبثي والجائر بالتالي الذي نجد أنفسنا داخله نحن المنذورون للفناء.

علينا أن نقف موقف الرافض لكل أنواع الاضطهاد، دائما وفي كل مكان. وهكذا فقط يغدو بوسعنا أن نكون كونيين بأتم معنى الكلمة.

إننا غالبا ما نرى ما يسمى بـ"المفكرين الكبار" لعصرنا يتفادون أي انتقاد علني للدين وللمؤسسات الحكومية. وغالبا ما يضع نقاد المجتمع الحديث الموضوعيون المزعومون سدادات العور على عينهم النقدية. لكن ذلك لم يظل دون تبعات؛ فهناك عدد أكثر فأكثر من الناس قد غدوا يدركون تدريجيا بأنه لا يمكن للمرء أن يصدر أحكاما على مظالم فضاء ثقافي آخر غير ذلك الذي ينتمي إليه إن هو لم يسلط في الوقت نفسه نظرة نقدية على الرذائل التي تنتعش داخل مجتمعه أو فضائه الثقافي الخاص. فهذا أمر غير نزيه؛ وسيزيف لا يحق له أن يشترك في هذه اللعبة.

إن هذه المراسلة بداية تواصل، ولا ينبغي أن يتوقف الأمر عند هذا الحد. وأنا قد عرفت بطريقة ما تغيرات حصلت لدي أثناء هذا الحوار. فقد شرعت في مراجعة بعض من مواقفي وكان علي أن أطرح عني بعضا من آرائي القديمة.

إن الحوار وحده هو الذي يجعل التفاهم ممكنا. وهو السلاح الوحيد الذي بحوزتنا في صراعنا الطويل ضد التعصب.

إلا أن مشكلة عصرنا الحالي لا تتمثل في صراع بين كيانين متساويين. بل على العكس من ذلك لقد كان العالم دوما حقلا لللامساواة. والمشكلة هي أن كل نزاع هو نزاع بين طرفين لامتساويين. وعلى الدوام يكون القوي هو الذي يخوض صراعا ضد الضعيف، والغني ضد الفقير، والأكبر ضد الأوغاد الصغار.

لدينا مبرر جيد لاستعمال عقلنا؛ إذ هكذا فقط يمكننا أن نتوصل إلى حيازة فهم لهذه اللامساواة وللصور المشوّهة التي تفرزها. ولعل ما يجعل أسطورة سيزيف أقرب إلى ذهني هو الآتي: الضعيف يدفع بالصخرة الثقيلة. والصخرة تظل تمعن في سحق وإبادة إرادة الإنسان، لكن يظل لهذا الأخير أمر واحد يمتاز به عليها: إنه العقل.

عبد القادر بن علي
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2006

ظافر شينوجاك، كاتب تركي الأصل مقيم في برلين.
عبد القادر بن علي، كاتب مغربي الأصل مقيم في هولندا.