حي الشيخ جراح المقدسي على مفترق طرق

حُكم قضائي إسرائيلي مفاجئ صدر في وقت مبكر من شهر مارس 2022 وقدم ارتياحا نادرا للفلسطينيين في حي الشيخ جراح، لكن الصراع لم ينتهِ بعد. تحليل نعوم ياتسيف من القدس.

الكاتبة ، الكاتب: Noam Yatsiv

تحوّل حي الشيخ جراح في السنوات الأخيرة إلى بؤرة توتر تحتلُّ عناوين الأخبار الرئيسية العالمية، والشيخ جراح حي سكني صغير في القدس الشرقية. كما تصدّر كفاح العائلات الفلسطينية المهدّدة بالتهجير وسائل التواصل الاجتماعي في العام الماضي (2021)، وانضمّ الكثير من المشاهير إلى حملة أنقذوا الشيخ جراح (ـSaveSheikhJarrah#ـ). لكن ما الذي كان يحدث بالفعل هناك؟

في العقود الأخيرة، تعمل العديد من المنظمات غير الحكومية اليمينية الإسرائيلية للحصول على ملكية ممتلكات وعقارات داخل عدة أحياء فلسطينية في القدس الشرقية. إذ لا ينجذب الأيديولوجيون المتدينون القوميون إلى المواقع اليهودية القديمة العديدة التي تمتد على الخط الأخضر فحسب، بل يسعون إلى إبعاد الفلسطينيين عن هذه المناطق و"التأكيد على السيادة" فيها.

وفي حي سلوان الفلسطيني، ينجذب هؤلاء الأيديولوجيون إلى آثار العصر الحديدي لعاصمة يهودا القديمة. إذ يوجد في حي الشيخ جراح مغارة فيها قبر قديم يقدّسه اليهود المحليون بوصفه قبر شمعون الصدِّيق، كاهن أعظم في الهيكل منذ العصور الوسطى. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، اشترت مجموعات يهودية قطع الأرض المتاخمة وفيما بعد بنوا منازل على البعض منها.

تعمل هذه المنظمات غير الحكومية عبر قنوات مالية مبهمة وتشتري الأصول عبر عملاء، بيد أنها تستخدم وسائل أخرى كذلك. على سبيل المثال، في حي سلوان والشيخ جراح، تطالب هذه المنظمات بأراضٍ مملوكة لليهود فقدوها في حرب عام 1948 ويعيش عليها الفلسطينيون حالياً.

وبعد تحديد مكان ورثة هذه الأراضي اليهود، يأخذون منهم الحقوق القانونية ويلجؤون إلى المحاكم، مطالبين بالملكية هذه. وهذا يعني عملياً طرد الفلسطينيين واستبدالهم بمستوطنين قوميين متطرفين. وقد حدث ذلك بالفعل مع خمس عائلات في الشيخ جراح خلال العشرين عاماً الماضية ومن الممكن أن يحصل مع عدة عائلات أخرى.

 

منزل يسكنه المستوطنون الإسرائيليون في حي الشيخ جراح شرقي القدس. A house inhabited by Israeli settlers in Sheikh Jarrah, East Jerusalem (photo: Noam Yatsiv)
حكم بارز: تجميد كل إنذارات الإخلاء ضد العائلات الفلسطينية. وصف سامي أرشد، محامي العائلات الفلسطينية، الحكم بأنه "انتصار قانوني مذهل". ويرمي الحكم الدراماتيكي الكرة في ملعب وزارة العدل، حيث يتعين على المحامين الآن النظر في ادعاءات الملكية للطرفين. أمرت المحكمة العائلات الفلسطينية بإيداع دفعة شهرية رمزية تساوي 56 يورو في صندوق محايد، من دون حملها على الاعتراف بملكية يهودية لمنازلها. وستُدفع النقود للمنظمات غير الحكومية فقط في حال قررت أبحاث وزارة العدل أحقية هذه المنظمات بالملكية.

 

تحول الحي إلى بؤرة للعنف منذ حوالي العام، حين وضع عضو الكنيست إيتمار بن غفير، وهو متطرف يميني ويحرّض باستمرار ضد الفلسطينيين، "مكتباً/خيمة" مؤقتاً في الشارع. وقد أدى هذا إلى اشتباكات أصبحت في نهاية المطاف جزءاً من موجة العنف التي حدثت في أيار/مايو من عام 2021. وقد أعاد، في هذا الشهر (آذار/مارس 2022) تشكيل "مكتبه"، ليقوم زملائه المعارضون من حزب الليكود بزعامة نتنياهو بزيارته بهدف زعزعة استقرار حكومة بينيت لابيد.

ونظراً للطبيعة الحساسة للموقف، فمن الإنصاف الافتراض أنه حتى سياسي يميني مثل رئيس الوزراء بينيت يفضل أن يبقى الشيخ جراح هادئاً، وإن كان ذلك يعني التخلّي عن مستوطنة يهودية متنامية بداخله. ففي نهاية المطاف، ليس الحي بأهمية الحائط الغربي أو المقبرة اليهودية القديمة في جبل الزيتون، واللذين يقعان في القدس الشرقية. فخلافاً لهذين الموقعين، لا يكترث الإسرائيلي العادي بالشيخ جراح.

حكم قد يشكّل نقطة تحول

في آب/أغسطس 2021، قدّمت المحكمة العليا حلاً وسطاً من شأنه أن يمنع المزيد من عمليات الإخلاء للعائلات من حي الشيخ جراح. اقترحت أن يبقى أهالي العائلات الفلسطينية بوصفهم "مستأجرين محميين"، مما يعني أن الإخلاء لن يكون ممكناً لعدة عقود. وفي غضون ذلك، سيكون على هذه العائلات دفع إيجار رمزي منخفض للمالك المسجّل قانونياً، أي المنظمة غير الحكومية. وقد رفض كلا الطرفين هذا الاقتراح.

استأنفت العائلات الفلسطينية أمام المحكمة العليا، مقدمة وثائق حصلت عليها حديثاً تُثبِتُ أنّ الأردن كان قد باشر نقل ملكية الأراضي والمباني عليها للفلسطينيين حين اندلعت حرب الأيام الستة 1967. وقد حكمت المحكمة في أوائل هذا الشهر بأنّ هذه الوثائق تشكّلُ سبباً وجيهاً لتجميد جميع إخطارات الإخلاء. رحّب النشطاء وأعضاء الكنيست بهذا الحكم النادر البارز. وقد وصف سامي إرشيد، وهو محامٍ يمثّل العائلات الفلسطينية، وصف الحكم لصحيفة هآرتس بأنه "انتصار قانوني مدهش". قال: "قبِل القضاة بحجتنا الرئيسية، المتمثّلة في أنّ مسألة الملْكية لم تُحسم بعد".

يحوّلُ هذا الحكم الدراماتيكي الكرة إلى ملعب وزارة العدل، حيث ينبغي على المحامين الآن دراسة هذه الادّعاءات، في عملية قد تستغرق شهوراً، إن لم يكن سنوات. أمرت المحكمة العائلات بإيداع مبلغ شهري رمزي يعادل 56 يورو في صندوق محايد، دون حملها على الاعتراف بملكية اليهود لمنازلها. وستُقدّم النقود للمنظمات غير الحكومية، فقط في حال قرّرت أبحاث وزارة العدل أنّ ادعاءات هذه المنظمات بالملكية صحيحة.

أما غابي لاسكي، وهي محامية بارزة في مجال حقوق الإنسان وناشطة وعضوة في الكنيست منذ العام الماضي 2021، فتقول: "هذا يخفّف التوتر في الحي ويعطي العائلات ارتياحاً، وهو أمر ضروري". وتتابع: "توجد هنا مسألتان، الأولى إن كان بإمكانهم العيش هناك، والثانية قضية الملكية. لقد كنت هناك خلال عملية إخلاء إحدى العائلات في الماضي. يمنع حكم المحكمة مثل هذه المشاهد في الوقت الحالي، وبهذا المعنى، هو أمر مهم للغاية. لكنني لست متأكدة من أنها يمكن أن تكون بمثابة سابقة لحالات مماثلة في أحياء فلسطينية أخرى. إذ تتعلق مسألة الملكية بالتشريعات التمييزية والعنصرية التي لن يعالجها الحكم. وبالتالي رغم أهمية الحكم، لا تزال مسألة الملكية معلّقة. أعتقد أنه ما زال لدينا خطوات أخرى لقطعها".

الكيل بمكيالين

ونُقِل عن مسؤولين إسرائيليين وصفهم هذا الوضع لوسائل إعلام أجنبية بـ"نزاع عقاري". في الحقيقة، وكما تشير عضوة الكنيست لاسكي، فإنه وضع غير متكافئ لعدم وجود تكافؤ فرص.

فقد خسر اليهود بالفعل ممتلكات فيما أصبح ضفة غربية يسيطر عليها الأردنيون خلال حرب عام 1948، غالبها في منطقة القدس. ولكن خلال الحرب ذاتها، خسر الفلسطينيون نسبة أكبر بكثير من الأراضي والممتلكات في ما أصبح دولةَ إسرائيل. وقد أُمِّمت أصولهم في أعقاب الحرب ولا يمكن استردادها، حتى مع تقديم وثائق ملكية. في الواقع، كان لدى العديد من عائلات الشيخ جراح عقارات فيما يُعرَفُ بإسرائيل الآن.

في أعقاب الاستيلاء الإسرائيلي على الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) في حرب الأيام الستة في عام 1967، صدر قانون يسمح لليهود باستعادة ممتلكاتهم التي تعود لما قبل عام 1948. بينما لا يزال تشريع يحرم الفلسطينيين من الحق ذاته، حتى وإن كانوا من سكان إسرائيل، ساري المفعول.

 

غابي لاسكي محامية بارزة في مجال حقول الإنسان وناشطة وعضوة كنيست منذ عام 2021. Gaby Lasky, prominent human rights attorney, activist and Knesset member (photo: Ahmad Gharabli/AFP)
التحرك في الاتجاه الصحيح: تقول غابي لاسكي، وهي محامية بارزة في مجال حقول الإنسان وناشطة وعضوة كنيست منذ العام الماضي 2021، "إن هذا يخفّف التوتر في الحي ويعطي العائلات شعوراً باليقين، وهذا أمر مهم". وتتابع: "لدينا مسألتان هنا، الأولى تتمثّلُ في إن كان بإمكانهم العيش هناك، والثانية، مسألة الملكية. لقد كنت هناك خلال إخلاء واحدة من العائلات في الماضي. يمنع الحكم مشاهد كهذه في الوقت الحاضر، وبهذا المعنى فهو مهم للغاية. بيد أنني لست واثقة إن كان سيشكّل سابقة لقضايا مماثلة في أحياء فلسطينية أخرى. فمسألة الملكية تتعلقُ بالتشريعات التمييزية والعنصرية التي لن يصلحها الحكم الأخير. أعتقد أنه ما زال لدينا خطوات نقطعها".

 

لا يمكن سوى للوقت أن يبيّن ما إن كان للحكم الصادر مؤخراً تأثير على مصير الشيخ جراح. لكن على المدى الطويل، هناك طريقتان فقط لوقف الظلم الذي يسمح القانون الإسرائيلي للمنظمات غير الحكومية المستوطنة بالتمادي فيه. تتمثّلُ الطريقة الأولى بإلغاء القانون الذي يسمح لليهود باستعادة ممتلكات ما قبل عام 1948، والمساواة بين وضعهم ووضع الفلسطينيين. وهذا يتطلّبُ كنيست تغلب عليه الميول اليسارية، وهذا أمر غير وارد.

أما الطريقة الثانية، فقد اقترحها أيضاً معهد القدس لبحث السياسات (JIPR)، وهو مركز بحثي مستقل، وتتمثّلُ في المصادرة. مثل جميع الدول، يمكن لإسرائيل مصادرة الأصول إن اتّضح أنّ ذلك سيخدم المصلحة الوطنية. فعلى سبيل المثال، حين يكون كشك شخص ما على المسار المخطّط لطريق ترام جديد، فيمكن نقل هذا الكشك -حتى من دون موافقته- بعد تعويضه مالياً. وعلى الرغم من أنّ ذلك يتطلّبُ شجاعة سياسية كبيرة، إلاّ أنه بإمكان الحكومة أن تقنع المحكمة بأنّ مثل هذه الانتهاكات لحقوق الملكية تسبب قلقاً عاماً كبيراً. ويمكنها المجادلة بأن مصالح الأمن القومي تتعارض مع توسيع مستوطنات صغيرة داخل الأحياء الفلسطينية. ويبقى أن نرى إلى أين ستؤول الأمور في نهاية المطاف.

 

 

نعوم ياتسيف

حقوق النشر والترجمة: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de