ألمانيا الستينيات بعيون طبيب سعودي

كيف كان يُنظَر للجنس قبل الزواج في ألمانيا؟ وما قصة الألمان مع البطاطا؟ وكيف كانت نكات الأطباء الألمان؟ مُذَكرات لأطباء سعوديين تجاوزت الحياة السعودية إلى مشاهدات غنية عن واقع مدن ألمانية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، حين كان لبرلين شطران: شرقي وغربي.

الكاتبة ، الكاتب: محمد تركي الربيعو

قبل عقدٍ من هذا العام 2020 كان شارعُ الحمرا في مدينةِ بيروت، على موعدٍ مع افتتاحِ دارِ نشرِ جداول، التي أسّسها مواطنان سعوديان، الأول هو طبيبٌ نفسي ومترجمٌ يدعى يوسف الصمعان، بينما يعملُ الثاني (محمد السيف) كاتباً وباحثاً في السيرِ الذاتيةِ السعوديةِ.

في السنواتِ الأخيرة، أخذت هذه الدار تُركِّزُ بشكلٍ واسعٍ على نشرِ كتبٍ حول الذاكرةِ والتاريِخ المحلي السعودي، وهو تاريخٌ بدا لبعض الناشطين والمعارضين السعوديين أنه لم يتمكن من تجاوزِ بعض التخومِ السياسيةِ. مع ذلك، فإن المتابع لهذه الكتب سيلاحظ أننا أمام حقول وزوايا منسية عن تاريخِ هذا البلدِ.

على امتداد عقودٍ، بقيت الموضوعاتُ الأكثر رواجاً حول السعودية تنحصرُ في دراسةِ تاريخِ الوهابيةِ، أو القبليةِ، أو النظامِ الملكي، بينما نتعرّفُ في إصداراتِ هذه الدار على صورٍ أخرى من الحياةِ اليوميةِ في المملكة العربية السعودية وبعض بلدانِ الخليج، قبل وبعد النفط، وبالأخص في السنتين الأخيرتين، مع نشرِ الدار لعددٍ من السيرِ الذاتية لسعوديين عملوا في مجالاتٍ مختلفةٍ مثل الطبِ أو سينما هوليوود (خليل الرواف).

ويُرَدُّ هذا الاهتمامُ بالسِّيَرِ إلى اهتمامِ أحد مؤسسي الدارِ الناشرة، الكاتب السعودي محمد السيف، الذي ألّفَ في السنواتِ الأخيرةِ عدداً من السيرِ الذاتيةِ تناولت حياةَ ومسارات بعض الشخصياتِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ في السعودية، من بينها وزير النفط السابق عبد الله الطريقي والدبلوماسي ناصر المنقور.

بيدَ أنّ الجديدَ في السيرِ الأخيرةِ التي نشرتها الدار، أنّها ترافقت مع ظهورِ "محدثي كتابة" أو كتاب جدد إن صحّ التعبيرُ في عالمِ السيرِ السعودية؛ وكانت دانا السجدي، المؤرخة في جامعةِ بوسطن، قد بلورت هذا المصطلح (الذي لا تقصدُ به معنى سلبياً) في سياقِ حديثها عن يوميات ِأحد العامة ِفي دمشق القرنِ الثامن عشر؛ كان هذا الشخص (البدير/البديري)، يعملُ حلاقاً في أسواقِ المدينةِ، ولذلك بدا وهو يكتب يومياته، وكأنّه يؤسّسُ لاقتصادٍ وأدبٍ جديدين للكتابةِ حول الحياةِ اليوميةِ في المدينةِ؛ فعلى امتدادِ عقودٍ بقي عملُ الكتابةِ من اختصاصِ العلماءِ والمؤرخين، في حين مثّلَ ظهوره بدايةَ موجةِ كتابات حول اليومياتِ لمؤلفين من خارجِ هذه الأوساط.

وثيقة التحاق الطبيب السعودي محمد بن المفرح بجامعة برلين الحرة في الستينيات.
مَشاهد من حياة برلين والألمان في ستينيات القرن العشرين: في سيرةِ الطبيبِ السعودي محمد بن المفرح الذي عاشَ في مدينة الزلفي التابعةِ لمنطقةِ الرياض، نعثرُ على صورٍ ومشاهد عديدةٍ من حياةِ برلين الغربية والألمان في ستينياتِ القرن العشرين. عندما وصلَ إلى برلين الغربية بدت له آنذاك أشبه بجزيرةٍ وسط ألمانيا الشرقية، وكان الجنودُ من ألمانيا الشرقية ومن ورائهم الروس يفتشونَ كل من أرادَ الاتجاه إليها ... يذكرُ أنه التحقَ بجامعةِ برلين الحرة، وهي جامعةٌ أُنشِئت بعد انتهاءِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ على عجلٍ. في الصورة: وثيقة التحاق الطبيب السعودي محمد بن المفرح بجامعة برلين الحرة في الستينيات.

وفي السيرِ التي نشرتها الدارُ لمجموعةٍ من الأطباءِ السعوديين، نعثرُ على شيء مشابه تقريباً  للبدير (الطريف هنا أن الحلاق سابقاً كان يمثل يمثل طبيب المدينة)، فهؤلاء جاؤوا أيضاً من خارجِ الحقلِ الثقافي التقليدي، وربما من أسرٍ لم تمتهن وظائف في الحقلِ الديني أو الثقافي، إذ غالباً ما تعوّدنا على أن تكون السيرُ الذاتيةُ السعوديةُ، والعربيةُ عموماً، لسياسيين بالدرجةِ الأولى أو لمثقفين مثل مذكرات الروائي الراحل غازي القصيبي، بينما نقفُ هنا أمام شريحة لا إرثَ لها في مهنةِ الكتابةِ، لذلك بدا أحياناً أنّ أسلوبهم في الكتابةِ، وحتى تجاربهم ومشاهداتهم، مختلفة كثيراً، وغير مصبوغة بلونٍ سياسي أو آيديولوجي معين؛ ولذلك مثّلَ هذا التطورُ على صعيدِ وجوه كتابِ السير ِالذاتيةِ السعوديين، فرصاً ومداخل جديدةً على صعيدِ كتابةِ الحياةِ اليوميةِ والتاريخِ المحلي في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ.

سيرةُ أطباء سعوديين

يعثرُ القارىء في السيرِ الثلاثِ الأخيرةِ المنشورةِ عن جداول لأطباء سعوديين (حسين الجزائري/ وزير الصحة السعودية في الفترة 1975/1982، والطبيب فالح بن زايد الفالح، والطبيب محمد بن عبد الله المفرح)، على تفاصيل عديدةٍ حول تاريِخِ نشوءِ كليةِ الطبِ في السعودية، وكيف تطوّرت مشفى الشميسي (مشفى الملك سعود) من مبنى قديم من الطينِ إلى مبنى حديث حاكى في شكله إحدى المستشفياتِ في هولندا. كما نتعرّفُ على علاقةِ الأطباءِ بالمرضى وطبيعةِ شكاوى المرضى وبعض الأمراض التي يُصابُ بها السكانُ في هذا البلدِ الحار والعقليةِ الطبيةِ الشعبيةِ التي حفظتها ذاكرة هؤلاء الأطباء في فترةِ صغرهم قبل أن يدرسوا ويتقنوا المناهجَ الطبيةَ الجديدةَ.

لكن يبقى توقيتُ نشرِ هذه المذكرات في هذا الوقت موضع سؤال، وهل جاء نشرها بمحضِ الصدفةِ، أم كمبادرةٍ من الدارِ؟

في سياقِ الإجابة، يبين الناشرُ والكاتبُ محمد السيف لموقعِ قنطرة، أنها ليست المرة الأولى التي يكتبُ فيها أطباء سعوديون عن ذكرياتهم، بيدَ أنّ الجديدَ في هذه المذكرات أنّ اثنتين من أصل ثلاث سِيَرٍ تعودُ لأطباء درسوا في ألمانيا. ويذكرُ السيف في سياقِ الحديثِ عن الأسبابِ التي تقفُ وراء كتابتهم لها، أنه بحكم كتابته في عالمِ السيرِ السعوديةِ، كانت قد راودته فكرةُ تأليفِ كتابٍ بعنوان "السعوديون الألمان" يتناولُ فيه تاريخَ تجربةِ عددٍ من الطلبةِ الذين ابتعثتهم السعودية لدراسة الطب في ألمانيا مطلع الستينيات، فقام بالاتصالِ بالدكتور الكاتب جاسر الحربش، أحد أفرادِ البعثة، وطلبَ منه تزويده بأسماء ثلاثين طالباً، وبعد ذلك تواصلَ معهم ليتبينَ له أنّ الدكتور فالح الفالح والدكتور محمد المفرح وغيرهما عاكفون على كتابة ذكرياتهم. في كلام السيف نجد أنّ هذه الموجة ناجمة بالأساسِ عن رغبة من هؤلاء الفاعلين للكتابةِ عن حياتهم ومشاهداتهم، ما يدعم كما ذكرنا سابقاً ظهور أشكال أخرى من الكتابة في عالمِ السِّيَرِ الذاتيةِ السعوديةِ.

ما يلُاحظُ في هذه السير، أنها لم تقتصر على تقديمِ صورٍ حول الحياةِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ والصحيةِ السعوديةِ في العقودِ الأخيرةِ، بل وفرت لنا أيضاً مشاهدات غنية عن واقعِ مدنٍ ألمانيةٍ في الستينياتِ والسبعينياتِ من القرنِ الماضي، وهي فترة كانت فيها مدينة برلين قد انقسمت إلى شطرين، شرقي وغربي. ففي سيرةِ الطبيبِ محمد بن المفرح الذي عاشَ في مدينة الزلفي التابعةِ لمنطقةِ الرياض، نعثرُ على صورٍ ومشاهد عديدةٍ من حياةِ برلين الغربية والألمان في ستينياتِ القرن العشرين.

كانت العلاقة ُآنذاك بين الملكِ سعود بن عبد العزيز وجمال عبد الناصر لا تسيرُ على ما يرام، ولذلك قررت السعودية عدم إرسالِ طلابها للدراسةِ في القاهرةِ، وربما جاء القرارُ يومها لمصلحةِ هذا الشابِ وعدد من زملائه، الذين أُتِيحَت لهم فرصة السفرِ إلى الجامعاتِ الألمانيةِ لدراسةِ الطبِ.

يروي لنا في مذكراته تفاصيلَ هذه التجربة وحياته في هذا البلدِ المنقسمِ، لكن ما يلفتُ النظرَ في حديثه عن هذه الفترةِ، أنه  تارةً يأتي على ذكر يومياته في الجامعاتِ والمشافي الألمانية، وتارةً أخرى نراه يتحدثُ وكأنه أشبه برحالةٍ أو إثنوغرافي، مما يذكرنا بملاحظاتِ الفرنسي جاك لوغوف حول أحد أعمال جورج دوبي (يوم أحد بوفين) حين يؤكدُ أنّ ما ميزَ كتابه هو "أنّ نظرته للذاكرةِ بدت نظرة عالِم أنثربولوجيا"، ويمكن القول إنّ ذات الاستنتاجِ ينطبقُ على ذكرياتِ طبيبنا السعودي، خاصة عندما يحدثنا عن عاداتِ الألمانِ وأخلاقِهم وطعامِهم.

البطاطا الألمانية

الغلاف العربي لكتاب الطبيب السعودي فالح الفالح "حياة في الطب بين الرياض وهايدلبرغ".
عالَمِ سِّيَرٍ ذاتيةٍ عربية بين ألمانيا والسعودية: عكف الطبيب السعودي فالح الفالح أيضا مثل الطبيب السعودي محمد المفرح وغيرهما على كتابة ذكرياتهم ... ونجد أنّ هذه الموجة ناجمة بالأساسِ عن رغبة منهم للكتابةِ عن حياتهم ومشاهداتهم، وهو ما يدعم ظهور أشكال أخرى من الكتابة في عالمِ السِّيَرِ الذاتيةِ السعوديةِ. في الصورة: الغلاف العربي لكتاب الدكتور السعودي فالح الفالح "حياة في الطب بين الرياض وهايدلبِرغ".

عندما وصلَ إلى برلين الغربية بدت له آنذاك أشبه بجزيرةٍ وسط ألمانيا الشرقية، وكان الجنودُ من ألمانيا الشرقية ومن ورائهم الروس يفتشونَ كل من أرادَ الاتجاه إليها ... يذكرُ أنه التحقَ بجامعةِ برلين الحرة، وهي جامعةٌ أُنشِئت بعد انتهاءِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ على عجلٍ. ومن القصصِ الطريفةِ التي يذكرها في الجامعةِ أنّ الأطباء في ألمانيا كانوا قد اعتادوا على إطلاقِ النكاتِ على مختلفِ التخصصاتِ، فهم يقولون أنّ: طبيبَ الأمراض الباطنية هو الذي يعرفُ كلّ شيء ولا يستطيعُ عملَ أي شيء، والطبيبُ الجراحُ هو الذي لا يعرفُ أي شيء ولكنه يعملُ كل شيء، وطبيبُ التشريحِ هو الذي يعرفُ كل شيء ويعملُ كل شيء ولكن بعد فواتِ الأوانِ، أما طبيبُ النساءِ والولادةِ فهو الذي يجلسُ أمام سريرِ الولادةِ، ينتظرُ، ينتظرُ، وينتظرُ.

في عام 1962، زارَ الطبيبُ برلين الشرقية، فبصفته أجنبياً كان مسموحاً له القيام بذلك عن طريقِ الممرِ الوحيدِ بين برلين الغربية والشرقية المسمى (تشيك بوينت تشارلي). ومما يذكره أنّه عندما دخلَ تجلّى له البون الشاسع بين الشطرين. فهناك وجدَ الوجوه البائسةَ والخائفةَ من أي محادثةٍ لشعورها بالمراقبةِ. أما المقاهي والمطاعم فجلّ ما هو مدون في القائمةِ كان غير موجودٍ.

نراه يثني في أماكن كثيرةٍ من مذكراته على أخلاقِ الألمانِ، ويؤكدُ على "أنّ الأمانةَ والصدقَ مبدأ أساسي في هذه البلاد، يلقنونه أطفالهم قبل الفطامِ"، كما يؤكدُ أنّه "صدَقَ من قالَ عند زيارته لأوروبا: وجدت إسلاماً بدون مسلمين"، في إشارةِ لمقولةِ المصري رفاعة الطهطاوي الذي زارَ باريس في عام 1826 ضمن بعثةٍ علميةٍ أرسلها محمد علي باشا.

بعد الانتهاءِ من الدراسةِ رجع المفرح إلى السعوديةِ وعملَ مديراً لأحد المستشفياتِ، وفي عام 1972، عاد مرةً أخرى إلى ألمانيا للتخصّصِ في الأمراضِ الباطنيةِ. لكننا لن نعثرَ في عودته هذه على تفاصيل حول الجامعاتِ والمشافي، بل على طبيبٍ وقد تحوّلَ إلى باحثٍ إثنوغرافي يطوف في الحياة الألمانية لينقل تفاصيلَ المجتمع في فترةِ السبعينيات والتحوّلات التي عرفها لاحقاً.

نرى في هذه الصورِ مجتمعاً ألمانياً محافظاً، فعلى سبيلِ المثالِ، يذكرُ أنّ الشابةَ الألمانيةَ في تلك الفترةِ لم تكن تضربُ موعداً مع شابٍ إلا بعلمِ والديها، وإذا حملت البنتُ في السابقِ قبل الزواجِ فكان ذلك يُعدُّ طامةً كبرى، بينما، كما يذكرُ، تبلغُ في الوقتِ الحاضرِ نسبةُ الأمهاتِ المربياتِ لأطفالهن حوالي مليون ونصف مليون امرأة. والملفتُ هنا أنّ الطبيبَ لا يبدي أي موقفٍ ديني من هذا الأمر، رغم أنه يظهرُ أحياناً في السيرةِ بوصفه شخصيةً ملتزمةً دينياً، بل يفضّلُ في هذه المقارنة رسمَ صورِ التغيراتِ التي عرفها المجتمعُ الألماني بين الأمسِ (السبعينيات) واليوم.

ومن بين الأمورِ الطريفةِ التي يأتي على ذكرها والتي تتعلّقُ بطعامِ الألمانِ، أنّ الوجبةَ الرئيسيةَ لهم كانت البطاطا، ولا يكتفي بذكرِ هذه المعلومة بل سرعان ما يتقمّصُ دورَ الانثربولوجي أو المؤرخِ ليعود بنا إلى تاريخِ البطاطا في هذا البلدِ، لنكتشفَ معه أنّها لم تكن موجودةً في هذا البلدِ وأوروبا عموماً قبل أن تُجلَبَ من أميركا الجنوبية، وأنّ البطاطا كانت تُقدّمُ في إيطاليا للخنازيرِ في القرنِ السادس عشر، أما الكنيسة فكانت تسميها خبز الشيطانِ، لكن ملك برويسن (بروسيا) في ألمانيا (فريدريك الثاني) اكتشفَ لاحقاً القيمَ الغذائيةَ للبطاطا، فأصدرَ أمراً، كما يذكرُ طبيبنا المؤرخُ، لزراعتها في أي بقعةٍ ... ومما يذكره أنّ الألمانَ كانوا مشهورين بحبِّ البطاطا ( البطاطس)، وأنّ الطليان يعيرونهم بكلمةِ (كارتوفِل/بطاطا) وهم يعيرونهم بكلمةِ (شباقتي/معكرونة). ويقول طبيبنا في مكانٍ آخر أنّ الألماني لا يحبُّ البذخَ، خلافاً لبذخِ الخليجيين المصطنع.

يبقى أن نقولَ إنّ سيرةَ الطبيبِ مفرح، وغيرها من سيرِ الأطباءِ السعوديين في ألمانيا، ومن بينها سيرةٌ جديدةٌ تصدرُ قريباً للطبيبِ السعودي عثمان الربيعة، لا تُمثِّلُ ظهورَ كتّابٍ جددٍ للسيرِ الذاتيةِ فحسب، بل هي في زوايا أخرى تُعبّرُ عن نوعٍ من أنواعِ أدبِ الرحلاتِ السعودي وعن تواريخ جديدةٍ حول هذا البلد وأهله وثقافته خلال القرنِ العشرين.

 

 

محمد تركي الربيعو

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:36611]