ما مدى انتشار فن الأوبرا في العالم العربي؟

أوبرا للشاعر الألماني بريشت "مدينة مهاغوني منذ تأسيسها وحتى انهيارها" مسرح مدينة بون في ألمانيا.
أوبرا للشاعر الألماني بريشت "مدينة مهاغوني منذ تأسيسها وحتى انهيارها" مسرح مدينة بون في ألمانيا.

يكتب عارف حجاج لموقع قنطرة عن انقسام الأوبرا بألمانيا إلى تيارين تقليدي وتحديثي متطرقا إلى ملحمة أوبرالية ألمانية عمرها أكثر من 100 عام لها طابع ماركسي ملتزم وإلى مدى انتشار هذا الفن بالعالم العربي.

الكاتبة ، الكاتب: عارف حجاج

يعرِض عارف حجاج لانقسام الأوبرا في ألمانيا إلى تيارين أحدهما تقليدي والآخر تحديثي ويتطرق إلى ملحمة أوبرالية أعدها الشاعر الألماني الشهير برتولت بريشت قبل أكثر من 100 عام اتسمت بطابع ماركسي ملتزم اجتماعيا وسياسيا وجاءت مختلفة تماما عن النمط التقليدي الجمالي لمقطوعات الأوبرا الإيطالية المرموقة وذات المحتوى البسيط في الأغلب. يتحدث حجاج كذلك عن معرض استفزازي العنوان "ماتت الأوبرا عاشت الأوبرا" لينتقل بعد ذلك إلى خلفية اضمحلال أهمية هذا النمط من الفن لدى الجمهور العربي.

 

************

كتب بريشت نص أوبرا "مدينة مهاغوني منذ تأسيسها وحتى انهيارها" MAHAGONNY انطلاقا من أفكاره الماركسية وبحكم تجربته السلبية في ألمانيا بين الحربين العالميتين وأوروبا والولايات المتحدة مع النظام الرأسمالي لاسيما في الولايات المتحدة رأى بأن هذا النظام يفتقد للعدالة الاجتماعية ويصب في صالح الأغنياء على حساب الطبقات الكادحة التي تعرضت في نظره دوما للاستغلال والابتزاز والطغيان. 

ولد بريشت أو بريخت  Bertolt Brecht‏ في أوغسبورغ/بافاريا عام 1898 وتوفي في برلين الشرقية 1956 وهو شاعر وكاتب ومخرج مسرحي مرموق يعتبر من أبرز كتاب المسرح في القرن العشرين. 

الجدير بالذكر أن بريشت عاش في ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) سابقا قناعة منه بأنها أفضل من الدولة الألمانية الأخرى ذات النظام الغربي الرأسمالي. ولم يقتنع بوجهة النظر القائلة إن ألمانيا الغربية تمنح المواطنين خلاف منافستها الشرقية حرية الرأي واختيار العمل المناسب والحياة الأفضل. 

 

مشهد النصر من إنتاج "أوبرا باسيفيك" لأوبرا عايدة عام 2006. ‏ The "triumphal scene" from Opera Pacific's production of Aida in 2006. Foto wikimedia Mr Snrub • CC-BY-SA-3.0
أوبرا عربية خفيفة مبسطة مسماة "أوبريت": يلاحظ عارف حجاج أن الأوبرا نادرة الانتشار في العالم العربي ولا توجد فيه سوى قلة من العروض الأوبرالية كما أن نسبة عاشقي هذا النمط الموسيقي ضئيلة للغاية، حتى في مصر التي شيدت فيها دار أوبرا في منتصف القرن التاسع عشر فإن أغلب عروضها من أعمال الأوبرا الخفيفة المبسطة المسماة "أوبريت". هذا ما عدا في حالة الأوبرا الشهيرة التي أعدها الموسيقار فيردي المسماة "عايدة" والتي تجري وقائعها البطولية أحيانا والمأساوية أحيانا أخرى في أرض مصر الفرعونية مما جعل أجيالا كبيرة من المصريين والعرب عامة يشاهدونها افتخارا بالتراث العريق لمصر القديمة. في الصورة مشهد النصر من إنتاج "أوبرا باسيفيك" لأوبرا عايدة عام 2006.

 

لكنه واجه صعوبات جمة من قبل الحزب الشيوعي الحاكم شل من حريته الأدبية والفنية مما خيب أمله وأثار في نفسه أحاسيس الاحباط واليأس. لكنه ظل يقيم ويعمل في برلين الشرقية حتى توفي في منتصف الخمسينيات.

ثورة مواطنين على طغاة حاكمين في "جنة الله على الأرض"

تروي ملحمة "مدينة مهاغوني منذ تأسيسها وحتى انهيارها" قصة مدينة وهمية أنشأها أفراد ضالعون في الجريمة والمكر ادعوا بأنها ستكون بمثابة المدينة المثلى كجنة الله على الأرض، هذا وإن بُني هدفهم الأول والأخير على أسس الطمع والابتزاز والقمع. 

جاءت إلى المدينة أعداد كبيرة من العمال الكادحين الذين عملوا في السابق حطابي خشب في آلاسكا أو كعمال غير مهنيين لم يحصلوا على أجور كافية تكفل لهم عيشا ملائما يغطي تكاليف الحياة لهم ولأسرهم. 

لكن سرعان ما تبين بأن الحكام مارسوا الطغيان والبطش والاستغلال وألحقوا أضرارا جسيمة بحياة السكان وبالبيئة وفرضوا أشد عقوبات على المواطنين كالحكم بالسجن المؤبد وحتى بالإعدام من جراء اقترافهم مخالفات طفيفة. 

ثارت ثائرة المواطنين على الطغاة الحاكمين مما أدى إلى انهيار المدينة وعودة البؤساء إلى محط رؤوسهم طلبا لحياة أفضل ولو من قبيل الآمال الوهمية.

أعد موسيقى هذه الأوبرا الموسيقار كورت فايل الذي ولد عام 1900 في مدينة ديساو الواقعة في وسط الرايخ الألماني وتوفي 1950 في نيويورك التي عاش فيها منذ ثلاثينيات القرن الماضي هربا من قمع النظام النازي. 

والمعروف أن بريشت وفايل تعاونا في العديد من مجالات المسرح والأوبرا والموسيقى انطلاقا من أفكار العدالة الاجتماعية.

ركز المخرج فولكار لوش بنحو مكثف على اهتمام بريشت بحماية البيئة مما أكسب ملحمته طابعا عصريا مدهشا فأدخل المخرج في الملحمة وقائع كارثة الفيضانات التي اجتاحت حوض نهر آر الصغير الواقع بالقرب من مدينة بون قبل عام ونصف. وقد تسببت تلك الكارثة في موت حوالي مئتي شخص وانهيار مبانٍ بكاملها في عدة مدن وقرى هناك بالإضافة لكونها دمرت البنية التحتية للمنطقة. 

أراد المخرج إظهار النتائج الدرامية لتغير المناخ والبناء العشوائي والطمع النابع من روح الرأسمالية الاستغلالية. لكنه أثقل كاهل الجمهور من خلال عرضه عدد كبير للغاية من الفيديوهات حول تلك الكارثة فكان الأداء ينتقل من الأوبرا إلى الكارثة والعكس بصورة مستديمة.

تشهد مدينة بون الواقعة على ضفاف نهر الراين معرضا في المتحف الاتحادي للفن يسمى "ماتت الأوبرا، عاشت الأوبرا" تيمنا بالمثل القائل "مات الملك عاش الملك" حين يعتلي ملك جديد العرش بعد وفاة الملك السابق.

المقصود من هذه المقولة إن الأوبرا منذ ظهورها في بداية القرن السابع عشر في مدينة فلورنسا الإيطالية كانت عرضة دوما للانحسار أو للنسيان وهو أسوأ من ذلك. 

وتجلت رسالة الأوبرا الأولية في عرض صور وهمية جمالية لجعل الإنسان ينسى ولو لفترات ضئيلة واقعه الحياتي المر.

كان النص في البداية أكثر أهمية من الموسيقى أما آنياً فقد أصبحت الموسيقى تتعادل مع النص وربما تزداد أهمية منه بحيث يعرف الجميع اسم الموسيقار أما اسم كاتب النص فيعرفه في الأغلب الخبراء وحدهم.

اقتصار زوار الأوبرا اليوم في الغرب على كبار السن وقلة انتشارها في العالم العربي 



أكبر أزمة تجتازها الأوبرا اليوم اقتصار زوارها في شتى دول أوروبا وأمريكا على كبار السن ممن تجاوزت أعمارهم الستين حيث يلاحظ بأن نسبة الزوار الشباب لا تتجاوز عشرة بالمائة من مجموع أعداد الحضور. يرى المتشائمون بأن هذه الظاهرة نذير بقرب انتهاء عهد الأوبرا بينما يعتقد المتفائلون بأن الشباب كلما كبروا بالسن اقترن ذلك بولعهم سواء بالموسيقى الكلاسيكية أو بمسرح الأوبرا. 

الجدير بالذكر أن الأوبرا باتت اليوم حقلا للتجارب الإخراجية والموسيقية فلم تعد مقتصرة على المؤسسين التقليديين مثل فيردي وبوتشيني وروسيني وموتزارت (موزارت) وهيندل بل اتسع نطاقها بحيث سادتها روح الحداثة والرغبة في اختبار الجديد أو المزيج بين القديم والمستحدث سواء موسيقيا أو من حيث المحتوى.

 

هل ما زلنا نحتاج إلى فن الأوبرا؟  Brauchen wir die Oper noch? Foto Getty Images
أكبر أزمة يمر بها فن الأوبرا في الوقت الحاضر: يكتب عارف حجاج أن أكبر أزمة تجتازها الأوبرا اليوم اقتصار زوارها في شتى دول أوروبا وأمريكا على كبار السن ممن تجاوزت أعمارهم الستين حيث يلاحظ بأن نسبة الزوار الشباب لا تتجاوز عشرة بالمائة من مجموع أعداد الحضور. يرى المتشائمون بأن هذه الظاهرة نذير بقرب انتهاء عهد الأوبرا بينما يعتقد المتفائلون بأن الشباب كلما كبروا بالسن اقترن ذلك بولعهم سواء بالموسيقى الكلاسيكية أو بمسرح الأوبرا.

 

الملاحظ أن الأوبرا نادرة الانتشار في العالم العربي ولا توجد فيه سوى قلة من العروض الأوبرالية كما أن نسبة عاشقي هذا النمط الموسيقي ضئيلة للغاية، حتى في مصر التي شيدت فيها دار أوبرا في منتصف القرن التاسع عشر فإن أغلب عروضها من أعمال الأوبرا الخفيفة المبسطة المسماة "اوبريت". 

هذا ما عدا في حالة الأوبرا الشهيرة التي أعدها الموسيقار فيردي المسماة "عايدة" والتي تجري وقائعها البطولية أحيانا والمأساوية أحيانا أخرى في أرض مصر الفرعونية مما جعل أجيالا كبيرة من المصريين والعرب عامة يشاهدونها افتخارا بالتراث العريق لمصر القديمة. 

وقد ارتبط إنشاء الأوبرا المصرية في مرحلة انفتاح البلاد نحو أوروبا والغرب فجاء على لسان الأديب والعالم المشهور طه حسين بأن مصر دولة متوسطية أقرب لأوروبا من صلتها بالعالمين الإسلامي والعربي مما أثار استياء كبيرا في صفوف المثقفين ذوي الخلفية التقليدية والدينية وجعل بعضهم يتهمه حتى بالكفر.

 

عارف حجاج

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de