إعادة رسم السودان في المخيال الأوروبي

الغلاف الإنكليزي لرواية الكاتبة السودانية البريطانية ليلى أبو العلا "روح النهر".
الغلاف الإنكليزي لرواية الكاتبة السودانية البريطانية ليلى أبو العلا "روح النهر".

أول رواية سودانية باللغة الإنكليزية ترد صراحةً على كتابات كولونيالية مكتوبة بالإنكليزية من القرن الـ19 عن السودان وأيضاً تشير لجدل إلغاء العبودية بالمجتمعات المسلمة آنئذٍ. أماني الصيفي قرأتها لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: أماني الصيفي

تتناول رواية "روح النهر" التي صدرت عن دار نشر الساقي في لندن للروائية السودانية ليلى أبو العلا فترة تاريخية مهمة في تاريخ السودان الحديث وهي فترة صعود الحركة المهدية حتى نهاية حكمها بين سبعينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر.

وتُعتبر "روح النهر" -بقدر ما هي صراع حول هوية "محمد أحمد المهدي بن عبد الله"- هي كذلك صراع أدبي حول الهوية الحقيقية للإسلام والثقافة السودانية. ففي "روح النهر" تسير الروائية ليلى أبو العلا بخطى ثابتة في اتجاه ترسيخ مشروعها الأدبي "وهو كتابة رواية ما بعد كولونيالية تصور فيها الآثار الاجتماعية والنفسية للالتقاء الثقافي بين الغرب والشرق منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا من جهة، وترد على تصوير الغرب للإسلام والثقافة الإسلامية من جهة أخرى في محاولة لإعادة رسم صورة للسودان وأهله في القرن التاسع عشر والواقع تحت طبقات متشابكة من الاستعمار والتمييز العنصري.

من الحكم العثماني حتى الاحتلال الإنكليزي

تروي "روح النهر" معاناة أهل السودان تحت الحكم العثماني الذي تمادى في تفقير وإهانة الأهالي وكان من أهم أسباب ظهور الانتفاضة المهدية ونجاحها حتى نهاية حكم أتباع المهدي والاحتلال الإنكليزي للسودان في عام 1898.

الغلاف الإنكليزي لرواية الكاتبة السودانية البريطانية ليلى أبو العلا "روح النهر". Novel Cover River Spirit of British Sudanese Author Leila Aboulela
"روح النهر" ترد على الكتابات الكولونيالية: تعتبر "روح النهر" أول الأعمال الروائية السودانية باللغة الإنكليزية التي ترد بشكل صريح على الأعمال التاريخية والأدبية التي كتبت باللغة الإنكليزية لتصور السودان والانتفاضة المهدية من خلال سير ذاتية وكتابات لقادة في الجيش الإنكليزي. صورت تلك السرديات السودان من خلال "المهدي" وأتباعه كمجموعة من الدراويش والمستبدين الشرقيين بينما ظل قادة السودان أنفسهم وكذلك أهل البلد وثقافتهم وتاريخهم مجرد خلفية تلعب دورًا هامشيًا في مسرح الأحداث. نالت هذه الأعمال شهرة واسعة وترجمت إلى العديد من اللغات ولعبت دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام وحتى تأييد حملة كاملة لاحتلال السودان والثأر لمقتل الجنرال شارلز جودون باشا على يد أتباع "المهدي" في عام 1985. وكذلك تشير"روح النهر" إلى الجدل الذي ظل دائرًا لزمن طويل حول فاعلية إلغاء العبودية في المجتمعات المسلمة. فرغم إلغاء الرق في السودان في عام 1862 تطرح الرواية إشكالية التحايل على القوانين حتى بين من دعموا تطبيقها سواء من المسلمين أو الأوربيين. وفق ما تكتب الناقدة الأدبية أماني الصيفي.

تبدأ أحداث "روح النهر" في عام 1877 وتروي قصة الفتاة الصغيرة أكواني وهي فتاة يتيمة تولى رعايتها -هي وأخيها الصغير "بول" بعد وفاة والدها وغزو قريتها- تاجر من الخرطوم يدعى ياسين. يعهد "ياسين" لأخته "حليمة" بالفتاة أكواني وأخيها بعد أن يترك التجارة ويسافر إلى مصر لتلقي العلم في الأزهر الشريف.

لكن أخت "ياسين" سرعان ما تبيع الفتاة أكواني لزوجة الحاكم التركي "نازلي" لتبدأ رحلة أكواني الطويلة من الاسترقاق والمهانة في بيت حاكم تركي ومن بعده رسام أستكلندي "روبرت" حتى تعود في النهاية لتعيش مع "ياسين" المختبئ من اضطهاد المهدي وأتباعه على أثر رفضه الاعتراف به.

المهدي والمسلمون والحداثة في "روح النهر"

من خلال تتبع قصة الفتاة أكواني أو زمزم -الاسم الإسلامي الذي أطلقته عليها زوجة الحاكم التركي- يتعرف القارئ على المناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي للسودان في فترة صعود دولة المهدي وحتى نهايتها في عام 1899. فعلى مدى سبعة وعشرين فصلا تستعرض "روح النهر" من خلال تعدد الأصوات وتشابكها والانقسام في الرؤى والولاءات حتى في العائلة الواحدة حول الحكم العثماني والتواجد المصري في السودان وشخصية محمد أحمد المهدي بن عبد الله، الرجل الذين نصب نفسه "المهدي المنتظر".

ادعى "المهدي" أنه سيحقق العدالة في بلاد المسلمين بعد أن أصبح حكامها من المسلمين "الأتراك" تاركين لتعاليم الاسلام وعاثوا في البلاد فسادا.

من خلال شخصية "موسي" و"رابحة" و"نفيسة" والعديد من عائلة ياسين تصور "روح النهر" كيف استطاع "المهدي" أن يحشد تأييد فئات واسعة من المهمشين ممن وجدوا في دعوته اعترافا بإنسانيتهم وتطبيقًا للإسلام الصحيح بعيدًا عن فساد الحكام والمرتزقة. كما تبع "المهدي" فئات كبيرة من البسطاء الذين صدقوا أنه حقا المهدي المنتظر في آخر الزمان. وتصور الرواية كيف استطاع "المهدي" من خلال حشد التأييد والالتزام بدعوته وبدعم أتباعه وإيمانهم بمشروعه. استطاع المهدي وأتباعه -في وقت قصير للغاية ورغم بدائية استراتيجياته العسكرية- هزيمة المدن المحصنة والحاميات التركية والإنكليزية في فترة لم تتجاوز أربعة أعوام.

كانت دعوة المهدي دعوة لتأسيس أمة إسلامية مطهرة مما اعتبره زوائد غربية جاءت بها الحداثة من بلاد الكفر، فلم يكن مفهومه للدولة قوميا أو جغرافيا على هذا النحو؛ بل كانت المصالح الدينية للمجتمع الأوسع للمسلمين" الأمة "، لها الأسبقية على الحدود العلمانية.

كما طالبت دعوة ثورة المهدي بالتزام الأشخاص التزاما كاملا بدعوة المهدي ومبادئها الرافضة للحياة المادية والحداثة الغربية التي استطاعت أن تؤثر على حكام المسلمين وثقافة المسلمين كما ظهر في زيهم وسلوكهم. وفي صورة مشابهة لكل الحركات الدينية المتطرفة عبر التاريخ، تصور رواية "روح النهر" كيف تحول أولئك الذين ليسوا داخل مجتمع أتباع المهدي (حتى المسلمين) إلى كفار وأعداء ويجب محاربتهم دون هوادة. فنرى هذا الصراع في الرواية من خلال تتبع السرد لدخول أتباع المهدي للقرى التي شُرد أهلها وفُرق فيها بين الزوج والزوجة كما روت لنا قصة "حليمة" أخت "ياسين" حيث تم تطليقها عنوه وتزويجها لأحد أتباع المهدي على اعتبار أن زواجها من رجل لم يصدق المهدي يعتبر باطلًا.

وبينما تصور "روح النهر" هوية "المهدي" كشخصية مقدسة ونموذج للعدالة والنزاهة الروحية تتمتع بكاريزما وضمير اجتماعي بالنسبة لأتباعه تستعرض الرواية كذلك وجهة النظر المخالفة والتي رأت "المهدي" كشخص مدعٍ ومسلم متطرف لا يمثل الإسلام الصحيح من خلال شخصية "ياسين" و "زوجته" وغيرهم من المتعلمين الرافضين للمهدي ودعوته.

  اللحظات الأخيرة للجنرال البريطاني غوردون باشا قبل مقتله في قصر الحاكم العام في الخرطوم - السودان. General Gordon's Last Stand Quelle Wikipedia Commons
"ومع ذلك لا تتبنى الرواية متقابلة ثنائية تتمثل في نموذج لثقافة إسلامية عادلة مقابل ثقافة غير مسلمة ظالمة": تصور الرواية كيف استطاع "المهدي" من خلال حشد التأييد والالتزام بدعوته وبدعم أتباعه وإيمانهم بمشروعه استطاع المهدي وأتباعه -في وقت قصير للغاية ورغم بدائية استراتيجياته العسكرية- هزيمة المدن المحصنة والحاميات التركية والإنكليزية في فترة لم تتجاوز أربعة أعوام. كانت دعوة المهدي دعوة لتأسيس أمة إسلامية مطهرة مما اعتبره زوائد غربية جاءت بها الحداثة من بلاد الكفر، فلم يكن مفهومه للدولة قوميا أو جغرافيا على هذا النحو؛ بل كانت المصالح الدينية للمجتمع الأوسع للمسلمين" الأمة "، لها الأسبقية على الحدود العلمانية. طالبت دعوة ثورة المهدي بالتزام الأشخاص التزاما كاملا بدعوة المهدي ومبادئها الرافضة للحياة المادية والحداثة الغربية التي استطاعت أن تؤثر على حكام المسلمين وثقافة المسلمين كما ظهر في زيهم وسلوكهم. وفي صورة مشابهة لكل الحركات الدينية المتطرفة عبر التاريخ، تصور رواية "روح النهر" كيف تحول أولئك الذين ليسوا داخل مجتمع أتباع المهدي (حتى المسلمين) إلى كفار وأعداء ويجب محاربتهم دون هوادة.

أما الفتاة أكواني/ زمزم فربما تكون رمزًا للسودان فرغم معاناتها وانتقالها من استعباد لآخر إلا أنها ظلت على الحياد في بداية الرواية حتى انتهي بها الأمر مع "ياسين" ممثل جامعة الأزهر وصوت الأخلاق والدين الصحيح. وتنتهي أحداث الرواية ببداية الاحتلال البريطاني للسودان في عام 1898 والدمار الذي لم يقتصر على تدمير أثار  الدولة المهدية ونبش جثة المهدي والتنكيل بها، بل كذلك حصد الأرواح من السودانيين من أتباع  المهدي.

"روح النهر" ترد على الكتابات الكولونيالية

تعتبر "روح النهر" أول الأعمال الروائية السودانية باللغة الإنكليزية التي ترد بشكل صريح على الأعمال التاريخية والأدبية التي كتبت باللغة الإنكليزية لتصور السودان والانتفاضة المهدية من خلال سير ذاتية وكتابات لقادة في الجيش الإنكليزي. صورت تلك السرديات السودان من خلال "المهدي" وأتباعه كمجموعة من الدراويش والمستبدين الشرقيين بينما ظل قادة السودان أنفسهم وكذلك أهل البلد وثقافتهم وتاريخهم مجرد خلفية تلعب دورًا هامشيًا في مسرح الأحداث. نالت هذه الأعمال شهرة واسعة وترجمت إلى العديد من اللغات ولعبت دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام وحتى تأييد حملة كاملة لاحتلال السودان والثأر لمقتل الجنرال شارلز جودون باشا على يد أتباع "المهدي" في عام 1985.

من أشهر الأعمال التي تم انتقادها كأعمال استشراقية في تصويرها السودان وأهله في هذا السياق كتاب "السيف والنار"(1895) للضابط النمساوي رودلف سلاطين باشا (1857-1932) أو الفيلم البريطاني الشهير The Four Feathers (1939).

من خلال تتبع قصة الفتاة أكواني/ زمزم تصور أبو العلا رحلة البطلة نحو تحضر تختلف عن تلك التي دعمتها الأعمال الأدبية الغربية حيث تتطور الأحداث في اتجاه تحول ونضج البطلة/ البطل نفسياً واجتماعياً من اعتناق إسلام بربري متخلف إلى مسيحية أو علمانية متحضرة.

تتحول أكواني في الرواية من فتاة قروية بسيطة جاهلة إلى فتاة تتبع التعاليم الإسلامية والسلوك الإسلامي على يد عائلة "ياسين" المتعلمة والمتبنية لإسلام متنور. ومع ذلك لا تتبنى الرواية متقابلة ثنائية تتمثل في نموذج لثقافة إسلامية عادلة مقابل ثقافة غير مسلمة ظالمة.

تعري أبو العلا طبقات مختلفة من التمييز العنصري داخل الثقافة العربية الإسلامية الواحدة، إذ تكشف بين ثنايا الرواية عن التقاليد والرؤى التمييزية الضاربة بجذورها في أعماق الثقافة العربية/ السودانية مما يعيق تطبيق قيم الإسلام الصحيح. فهنا أكواني/ زمزم التي تجد نفسها مجبرة على الجلوس أمام مهندس السفن والرسام الأسكلندي "روبرت" والذي يطمح في رسم صورة لامرأة سودانية للجمهور الأوروبي المولع بالشرق البعيد ونسائه ومن خلالها يستطيع تحقيق امتيازات في الغرب.

تجد أكواني نفسها كذلك في مجتمعها في مرتبة أقل مرتبة من "أخوات ياسين" ليس فقط لأنها يتيمة بل خصوصاً لأنها ليست مختنة مثلهن، كما أن لأكواني بشرة أكثر سمارًا مما يجعلها في مرتبة أقل من بنات جلدتها من السودانيات.

وهنا كذلك تشير "روح النهر" إلى الجدل الذي ظل دائرًا لزمن طويل حول فاعلية إلغاء العبودية في المجتمعات المسلمة. فرغم إلغاء الرق في السودان في عام 1862 تطرح الرواية إشكالية التحايل على القوانين حتى بين من دعموا تطبيقها سواء من المسلمين أو الأوربيين.

المرأة السودانية والاستشراق في الرواية

تكرس أبو العلا في روايتها "روح النهر" كما في أعمالها الأدبية السابقة جانبًا كبيرًا للحضور النسائي الذي دائما ما يختلف عن الحضور السائد للمرأة العربية/ المسلمة سواء ظهر ذلك في الروايات واللوحات الاستشراقية أو الأعمال الأدبية ما بعد الكولونيالية التي ما زالت تصور المرأة المسلمة خاضعةً ومقهورة.

 

الروائية السودانية البريطانية ليلى أبو العلا كاتبة رواية "روح النهر". British Sudanese Author Leila Aboulela Photo Judy Laing
في "روح النهر" تسير الروائية ليلى أبو العلا بخطى ثابتة في اتجاه ترسيخ مشروعها الأدبي: وهو كتابة رواية ما بعد كولونيالية تصور فيها الآثار الاجتماعية والنفسية للالتقاء الثقافي بين الغرب والشرق منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا من جهة، وترد على تصوير الغرب للإسلام والثقافة الإسلامية من جهة أخرى في محاولة لإعادة رسم صورة للسودان وأهله في القرن التاسع عشر والواقع تحت طبقات متشابكة من الاستعمار والتمييز العنصري. من خلال تتبع قصة الفتاة أكواني أو زمزم -الاسم الإسلامي الذي أطلقته عليها زوجة الحاكم التركي- يتعرف القارئ على المناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي للسودان في فترة صعود دولة المهدي وحتى نهايتها في عام 1899. فعلى مدى سبعة وعشرين فصلا تستعرض "روح النهر" من خلال تعدد الأصوات ويتشابكها الانقسام في الرؤى والولاءات حتى في العائلة الواحدة حول الحكم العثماني والتواجد المصري في السودان وشخصية محمد أحمد المهدي بن عبد الله، الرجل الذين نصب نفسه "المهدي المنتظر". ادعى "المهدي" أنه سيحقق العدالة في بلاد المسلمين بعد أن أصبح حكامها من المسلمين "الأتراك" تاركين لتعاليم الاسلام وعاثوا في البلاد فسادا.

 

تستحضر "روح النهر" جيشًا من النساء المتعددات الطباع والخلفيات الاجتماعية والتعليمية سواء كن مؤيدات وداعمات للمهدي أو رافضات لدعوته. من خلال حبكة مشوقة وأسلوب أدبي واقعي تعتمد فيه على المصادر والوثائق التاريخية تعرِّف رواية "روح النهر" القارئ الغربي بمعاناة تلك النسوة المسلمات واحتياجتهن المختلفة في مجتمع يقع تحت طبقات متعددة من الاستعمار السياسي والاجتماعي ومن ناحية أخرى تستعرض بلغة بسيطة ودون تكلف الكثير من القيم الإسلامية المتعلقة بالزواج والإنجاب والعلاقة الحميمة بين الزوجيين والعلاقات في العائلة.

وفي هذا السياق كذلك يُحسَب لأبو العلا أيضا تكرارها لمفهوم "جناح النساء" لتصف الجزء من المنزل الذي يضم الأفراد من نساء العائلة عوضاً عن كلمة "الحريم" ذلك المفهوم ذو الإيحاءات الجنسية والهيمنة الذكورية في الكتابات والرسومات الاستشراقية وحتى ما بعد الكولونيالية حول الشرق ونسائه.

 

 

أماني الصيفي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de