نص غني وبديع حازم صاغية

نص غني وبديع  انصح بقراءته

للعزيز Hazem Saghieh

دينان اثنان؟ إذاً: إلحادان اثنان...

يفترق الدين المُعلْمَن عن الدين التوحيديّ في ما خصّ عبادة الإله الواحد، وهو قد لا يتقيّد بالرواية الدينيّة عن نشأة الكون أو عن العالم الأخرويّ، ولا بأساسيّات أخرى في الأديان وتعاليمها، بل قد يكون إلحاديّاً، لا مُعلمَناً فحسب. مع هذا يستعير الدين المعلمن من الدين التوحيديّ بضع أفكار وممارسات تنبع من منطقه الداخليّ، أوّلُها ذاك التصوّر المركزيّ من أنّ "التسليم" لا يخضع لامتحان التجارب ولما تُظهره التجارب تلك. فإذا جوبهت فكرة "عودة المسيح" أو "عودة المهديّ" مثلاً بحقيقة عدم حصولها قرناً بعد آخر، ردّ الوعي التسليميّ بإجابات من نوع أنّها أُجّلت وأنّها لا بدّ من أن تحصل في وقت لاحق، فهي سوف تحصل تبعاً لمخطّط إلهيّ لا يسعنا إدراكه، أو ربّما أكّد الوعي إيّاه أنّها حصلت فعلاً إلاّ أنّنا، بالقصور الذي جُبلنا عليه، عَجزنا عن رؤيتها فيما هي تتجسّد. 

وقد يأتينا ذاك الوعي التسليميّ بهذه الإجابة أو تلك ممّا يحيل إلى معجزة أو إلى قدَر مُخبّأ، مستبعِداً الواقع الفعليّ وما يحدث فيه أو ينجرّ عنه من معانٍ ودلالات، ومستبعِداً معه قدرتنا على التوقّع والتعقّل. 

وهذا، بموجب منطق التسليم، منطقيّ جدّاً.

أمّا في بيئات الدين المعلمن فنرى تجلّيات ذاك الموقف الأصليّ في أشكال عدّة: فنحن، مثلاً، كثيراً ما نسمع أشخاصاً يقولون إنّ إنقاذ العالم من هذا الشرّ أو من ذاك يتطلّب هتلر آخر، أو عبارةً من هذا القبيل، دون التوقّف للحظة عند حقيقة المآسي التي تسبّب بها هتلر لبلده وللعالم. وقد يكون المثال الأكثر حضوراً، والذي يجد بين المعبّرين عنه مثقّفين رفيعي المعرفة، ذاك التسليم بالوجاهة المطلقة للماركسيّة، علماً بأنّ ما توقّعه كارل ماركس من ثورة اشتراكيّة في أوروبا الغربيّة لم يحصل، بينما انهارت دفعة واحدة دزينة من أنظمة أوروبا الشرقيّة والوسطى التي نسبت نفسها إليه، أمّا الماركسيّات التي انتصرت في "العالم الثالث" فغدت وصفةً ناجعة لزواج كاثوليكيّ بين البؤس والطغيان. 

والحقّ أنّ تأثير ماركس يظلّ أقوى من أيّ تأثير تركه فيلسوف أو مفكّر آخر في تاريخ البشر لأنّه بالضبط كان نبيّاً مُعلمَناً، أو كان قابلاً لأن يُعامَل على هذا النحو السحريّ ممّا لم يتسنّ لسقراط أو لأيّ من أحفاده اللاحقين. فهو وحده من تُنتَظر عودته لتخليصنا مثلما تُنتظر عودات الأنبياء والمخلّصين، وهو وحده من وجد أتباعاً يصبّون أفكاره في تعاليم ملزِمة وفي قوانين مُحكَمة. وقد امتدّ قبَس التسليم بنبوّة ماركس المعلمنة إلى سائر "آل البيت" الماركسيّ، فلا يزال بيننا مَن لم ينجح انهيارُ المعسكر السوفياتيّ، بعد توطيد الغولاغ العبوديّ غير المسبوق، في إقناعه بأنّ ما أسّسه لينين في 1917 كان شيئاً رهيباً. وهناك من لا زالوا يسلّمون بعظمة ماو تسي تونغ رغم أنّ ملايين البشر دفعوا حياتهم ثمناً لسياساته المجرمة التي تخلّى ورَثَته عن معظمها، أو بإلهاميّة تشي غيفارا الذي تقلّبت حياته بين مأساة وأخرى، على رقعة من الفشل امتدّت من الكونغو إلى بوليفيا.

وفي العالم العربيّ كانت لنا تجارب عدّة مع هذا الوعي التسليميّ، خصوصاً في البيئات الحزبيّة الراديكاليّة. وكثيرون بيننا مَن لا زالوا يديرون ظهورهم لدفق المعطيات والأرقام، متمسّكين بأحكام من نوع أنّ أوضاع المرأة العربيّة ممتازة لا يتهدّدها إلاّ تدخّل الغرب، أو أنّ الحرّيّات لدينا، من جنسيّة وإعلاميّة وسواها، لا تتعارض بتاتاً مع قيمنا وعلاقاتنا، إلاّ أنّها تتعارض أيّما تعارض مع الثقافة الغربيّة، أو أنّ مجتمعاتنا براء من الطائفيّة والإثنيّة اللتين أوفدهما إلينا عدوّ خارجيّ كلّفهما بأن تنتهكا عفاف تلك المجتمعات، وهذا فضلاً عن آراء أخرى كثيرة من الصنف هذا. وربّما كان أهمّ تمثيلات النزعة التسليميّة في تاريخنا الحديث تعاطينا مع هزيمة 1967: ذاك أنّ الحدث الزلزاليّ المذكور لم يتأدّ عنه إضعاف هيبة جمال عبد الناصر وزعاميّته. فهو ظلّ "يرفع رأس العرب" حتّى وهو ينكّس هذا الرأس على نحو غير مسبوق في تاريخ الإهانات العامّة. أمّا المراجعة التي أعقبت الهزيمة (والتي وُصفت بالجذريّة) فطلبت التداوي بجرعات إضافيّة من الداء ذاته، بحيث صحّت في أولئك الطالبين العبارة الشهيرة المنسوبة إلى أينشتَين من أنّ "الجنون هو فعل الشيء ذاته مرّة بعد مرّة مع توقّع نتائج مختلفة".