حب مفرط وكره مدمر وصلح وثيق

الغلاف الألماني لرواية الكاتب الألماني المغربي فوزي بوبية "ديواني الغربي الشرقي".
الغلاف الألماني لرواية الكاتب الألماني المغربي فوزي بوبية "ديواني الغربي الشرقي".

فوزي بوبية مغربي ألماني وسيط ثقافي منذ عقود بين الشرق والغرب ينتقد بسيرته الذاتية بلا رحمة سياسة ألمانيا وثقافتها لكنه يشيد بانفتاح عمالقة فكرها خاصةً غوته. فولكر كامينسكي قرأها لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Volker Kaminski

تدور أحداث رواية فوزي بوبية "ديواني الغربي الشرقي" في يوم الثلاثاء الذي طال انتظاره، وهو يوم منحه الجنسية الألمانية: الراوي بضمير الأنا، فوزي بوبية نفسه، يتشوَّق كثيرًا إلى هذا اليوم. ولكن عندما يقرأ في صباح ذلك اليوم نفسه وهو جالس في مقهى بمدينة هايدلبيرغ عن حادث حريق زولينغِن الذي أودى بحياة خمسة أشخاص أتراك - يتبخَّر فجأةً حُبه لألمانيا.

وبما أنَّ تجنيسه بات يبدو الآن بالنسبة له بمثابة "اتفاق مع الشيطان"، يُقرِّر عدم حضور مراسم منحه الجنسية الألمانية ويتجوَّل بدل ذلك في مدينة هايدلبيرغ القديمة. وتدور في ذهنه خلال ذلك أفكارٌ حول الحاضر وذكرياتٌ من طفولته في المغرب ورؤى مرعبة.

وهو لا يضفي طابع الرومانسية على شبابه في مراكش على الإطلاق. وبالرغم من كونه ينحدر من أسرة أمازيغية منفتحة على العالم، ولكن يتم عقابه بقسوة في المدرسة القرآنية لكونه أشول يكتب بيده اليسرى، الأمر الذي كان له تأثير سلبي على حياته حتى يومنا هذا. ويبدأ بتشجيع من والده في تعلم اللغة الألمانية في المدرسة، وبعد عدة إخفاقات أولية يتحوَّل حماسه للغة الألمانية إلى "حُمى ألمانية".

ويجتهد في تعلم اللغة ويقضي كلَّ لحظة فراغ في طباعة مفردات ألمانية على الآلة الكاتبة. وأخيرًا عندما يؤتي هذا الجهد الكبير ثماره (فقد كتب أفضل موضوع ألماني في الفصل)، يحدث لديه تغيير: "تتحوَّل الكراهية غير المحدودة إلى حُبِّ غير محدود".

هيغل ومرآب السيَّارات تحت الأرض

تميَّزت سنوات دراسته اللاحقة بمدينة هايدلبيرغ في فترة الستينيات بحماسه الشديد ومشاعر السعادة، التي تزيدها أيضًا علاقته بطالبة ألمانية؛ يعيدُ معها إحياء الرومانسية الألمانية أثناء زيارتهما المواقع التاريخية الأصلية المرتبطة بالرومانسية في هايدلبيرغ.

 

 الكاتب والفيلسوف الألماني المغربي فوزي بوبية.  German-Moroccan philosopher and writer Fawzi Boubia (source: YouTube; screenshot)
رواية حول تناقضات: "يتحوَّل الحبُّ المفرط إلى كراهية مُدمِّرة، الشيء الوحيد الذي ينقذ الراوي منها في آخر المطاف هو ذكرياته الرومانسية عن ألمانيا غوته وهولدرلين. وهو يتخيَّل غوته ذاهبًا في رحلة إلى الشرق يرافقه خلالها الراوي كمترجم"، مثلما يكتب فولكر كامينسكي: "ويصبح في أحد أحلام اليقظة وهو في حديقة القلعة المبنية في الفترة الباروكية المتأخرة في مدينة شفيتزينغن رفيقَ غوته الشخصي وَ’ساقيه‘، ثم يعلن أنَّ غوته كمبدع ’الديوان الغربي الشرقي‘ وكقارئ متحمِّس للقرآن يعتبر قدوةً لروح التصالح الثقافي".

 

وتصبح لغة فوزي بوبية أيضًا رومانسية ومبتهجة عندما يكتب حول هذه الفترة، مثلًا عندما يتحدَّث حول "سُكر الحُبّ" و"عُشّ الحُبّ". ولكن بقدر إعجابه بإيشندورف وغوته وهاينه بقدر ما أدان هيغل بشدة باعتباره عنصريًا ويكره الأجانب، وذلك بعد قراءته الساذجة في البداية لعمل هيغل، حتى أنَّه قد نصح في تلك الحقبة بإزالته من المناهج التعليمية الجامعية. وقد أشار بسعادة إلى أنَّ المنزل الذي عاش فيه هيغل خلال إقامته في هايدلبيرغ كان يجب تحويله إلى موقف سيَّارات تحت الأرض.

وتثير لديه التغييرات الأخرى في مشهد مدينة هايدلبيرغ في فترة السبعينيات -مثل بناء مراكز التسوُّق الكبيرة وطرق السيَّارات السريعة ومبنى الجامعة الجديد- شعورًا شديدًا بالاشمئزاز وتسرق منه بقايا "أسطورة التأسيس" في هايدلبيرغ.

وينزعج من "هوس الاستهلاك" ويتحدَّث عن "جحيم التسوُّق". ويتجاوز أحيانًا الهدفَ بقسوةِ إدانتهِ - مثلًا عندما يتحدَّث بشكل غير محترم ومثير للجدل حول السيَّاح الآسيويين الذين ينقلب حماسُهم لألمانيا إلى رغبتهم في اِلتقاط صور لكلِّ ما يشاهدونه هنا. أمَّا مشهد "عربة البيرة" المليئة بسيَّاح ثملين فيجعله يقول "هذه المدينة لم تعد هايدلبيرغ الخاصة بي".

رؤى مرعبة

وينزلق الراوي بشكل متزايد إلى "أوهام خيالية" ورؤى مرعبة، ويبالغ في تصوير هايدلبيرغ وألمانيا بشكل شامل على أنهما ملوَّثتان بالقوميين اليمينيين. ويستحضر مشاهد حرق الكتب خلال الحقبة النازية ويسمع صوت أعضاء الأخويات الطلابية الألمان وهم يصرخون "هايل هتلر" [يحيا هتلر]، ويرى في خياله المنزل المحترق في مدينة زولينغِن، ويتخيَّل بعد ذلك بقليل في مسجد في مدينة شفيتزنغِن أنَّه يتعرَّض للضرب من قِبَل حليقي الرؤوس [النازيين الجدد].

ويتَّضح هنا أيضًا تفكير الراوي المستقطب والذي يتحرَّك دائمًا نحو التطرُّف: إذ يتحوَّل الحبُّ المفرط إلى كراهية مُدمِّرة، الشيء الوحيد الذي ينقذ الراوي منها في آخر المطاف هو ذكرياته الرومانسية عن ألمانيا غوته وهولدرلين. وهو يتخيَّل غوته ذاهبًا في رحلة إلى الشرق يرافقه خلالها الراوي كمترجم.

ويصبح في أحد أحلام اليقظة وهو في حديقة القلعة المبنية في الفترة الباروكية المتأخرة في مدينة شفيتزينغن رفيقَ غوته الشخصي وَ"ساقيه"، ثم يعلن أنَّ غوته كمبدع "الديوان الغربي الشرقي" وكقارئ متحمِّس للقرآن يعتبر قدوةً لروح التصالح الثقافي.

 

 

ويكشف مقطع الحلم المروي بشكل مقتضب عن موقف الراوي الساخر، الذي يدعو نفسه أيضًا إلى التفكير في حالة غضبه من الألمان: وهو يدرك "خطر" النظر إلى العالم فقط "بنظَّارات يوم الثلاثاء السوداء هذه" ويتوصَّل إلى استنتاج مفاده أنَّ "ألمانيا لا يمكن اختزالها في [حوادث] هويَرسفيردا وروستوك ومولن وزولينغِن، ولا حتى في أوشفيتس". ولكن يبدو في نهاية الرواية أنَّه يتلاعب بفكرة العودة إلى المغرب.

تتميَّز هذه الرواية بالعواطف القوية والتناقضات وما من شكّ في أنَّ قراءتها ليست سهلة، فهي تجعل القارئ أحيانًا يريد معارضة الراوي. كان من الممكن تقديم صورة أكثر دقةً إلى حدّ ما عن ألمانيا اليوم وعن توجُّهاتها المختلفة؛ لا سيما وأنَّ المجتمع الألماني قد تغيَّر منذ إنجاز النسخة الأولى من النص في أواخر التسعينيات.

ولكن مع ذلك فإنَّ هذه الرواية أيضًا مليئة بالأفكار الأصلية مثل الرحلات الرائعة عبر الزمن إلى عظماء التاريخ الفكري الألماني. ولحسن الحظّ فإنَّ المقاطع المريرة والخاصة بتصفية الحسابات تم توضيحها مرارًا وتكرارًا من خلال نهايات ساخرة ومن خلال رغبة الراوي القوية في المصالحة.

 

 

فولكر كامينسكي

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de