"طوق أزمات" شيعي في الشرق الأوسط؟

بعد النجاح الذي حققته ايران في الحصول على موقع قدم لها في العالم العربي عن طريق سيطرة الأحزاب الشيعية التابعة لها على الحكم في العراق يتحدث المراقبون الآن عن طوق شيعي يهدد العالم العربي. الصحفي السويسري ارنولد هوتنغير يحلل هذا التطور الجديد.

أحد أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في مظاهرة تندد بالاحتلال الأمريكي في العراق في أبريل /نيسان 2004، الصورة: أ ب
أحد أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في مظاهرة تندد بالاحتلال الأمريكي في العراق في أبريل /نيسان 2004.

​​بعد النجاح الذي حققته ايران في الحصول على موقع قدم لها في العالم العربي عن طريق سيطرة الأحزاب الشيعية التابعة لها على الحكم في العراق يتحدث المراقبون الآن عن طوق شيعي يهدد العالم العربي ببنيته القديمة. الصحفي السويسري ارنولد هوتنغير يحلل هذا التطور الجديد.

تبلغ نسبة الشيعة بين 10 و15 بالمائة من تعداد المسلمين البالغ حوالي 1،3 مليار نسمة في كل أنحاء العالم. لكننا لو انطلقنا في هذا السياق من دول الإسلام المحورية أي من لبنان إلى باكستان لوجدنا بأن عدد الشيعة في تلك المنطقة يكاد يكون متعادلا مع عدد السنة فيها. أما لو سددنا النظر إلى منطقة استخراج النفط في الخليج ذات الأهمية الاستراتيجية للعالم لتبين لنا بأن 80 بالمائة من المقيمين فيها ينتمون إلى المذهب الشيعي فيما تقتصر نسبة السنة هناك على 20 بالمائة فقط من تعداد السكان.

نسبة الشيعة في العالم العربي

أصبح المذهب الشيعي مذهب الدولة الرسمي في إيران ابتداء من تولي سلالة الصفويين سدة الحكم في القرن السادس عشر، حيث بلغت نسبة الشيعة هناك 80 بالمائة من مجموع السكان. أما في العالم العربي فلم يستطع المذهب الشيعي أن يفرض نفسه مذهبا رسميا في أي من دوله.

هذا الأمر يسري سواء على الدول العربية التي يشكل الشيعة فيها أغلبية السكان كالحال في البحرين (70 بالمائة) والعراق (حوالي 60 بالمائة) أو على الدول الأخرى التي يتواجدون فيها بشكل أو آخر كأقلية معتبرة كالحال في لبنان (40 بالمائة) والكويت (30 بالمائة) وأفغانستان (15-20 بالمائة) وباكستان (15-20 بالمائة) وسوريا (10 بالمائة) والسعودية (5 بالمائة علما بأنهم يسكنون في مناطق استخراج البترول).

مفهوم المذهب الرسمي يعني في الشرق الأوسط أن التابعين لتلك الطائفة الدينية من أفراد الشعب هم الذين يتقلدون المناصب العليا في الحكومة وداخل الجهازين المدني والعسكري وفي الأغلب في صفوف أجهزة المخابرات وقوى الأمن وفي حالات عديدة أجزاء كبيرة من المناصب الإدارية العالية كما أنهم يشكلون الطبقات الغنية العالية لا سيما في المواقع والوظائف التي تعتمد على دعم الدولة أو التي يمكن من خلالها توزيع المنح والهبات جزاء لهم.

أما الأشخاص غير المنتميين للمذهب الديني الرسمي والذين تطلق علهم في العادة تسمية "الأقليات" فبوسعهم أيضا الصعود إلى مرتبة الطبقات الغنية العالية لكن ذلك يتم في العادة دون حيازة دعم من الدولة. كما أنهم لا يتقلدون إلا في حالات نادرة مناصب قيادية عليا تابعة لأجهزة الدولة. في هذا المضمون لمفهوم الأقلية عاش الشيعة في كافة بلدان العالم العربي وما زالوا يعيشون على هذا النحو حتى اليوم في العديد من الحالات.

حركات شيعية في العالم العربي

لقد سعى العرب الشيعة ابتداء من النصف الثاني من القرن الماضي إلى تحرير أنفسهم من مواقع الأقلية والكفاح من أجل تبوء دور المواطن بالمعنى المتكامل داخل دولهم القومية، ليس فقط وفقا للقوانين التي جرى سنها وإنما تبعا أيضا للواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. لكنهم تعرضوا في هذا السياق إلى عدد كبير من النكسات بل في بعض الحالات حتى إلى الاضطهاد الدموي كما حدث في العراق والبحرين والسعودية.

كان سيد موسى الصدر الذي انتقل في عام 1951 من مدينة قم الإيرانية إلى صور في لبنان قد أسس في غضون السبعينيات أول منظمة مهمتها العناية الذاتية بشؤون الطائفة الشيعية انبثقت عنها فيما بعد حركة أمل. لكن الإمام موسى الصدر اختفى فجأة في غضون زيارة قام بها إلى ليبيا عام 1978.

وربما يكون قد وقع ضحية لاغتيال قام به زبانية يعملون في أجهزة المخابرات التابعة للقذافي. وفي العراق أسس آية الله محمد باقر الصدر قبل ذلك وتحديدا في عام 1958 حزب الدعوة للنهوض بحال الشيعة في القطاعين الاجتماعي والسياسي.

تصدير الثورة من ايران

استطاع المشروع الإيراني المتعلق بـ"تصدير الثورة" الذي لجأ الخميني إليه في السنوات الأولى من تقلده السلطة أن يبني على بذور مثل حركات التحرر هذه التي لم تكن قد اتسمت بعد حتى ذلك الحين بطابع سياسي ثوري. ولكن الإيرانيين نجحوا في تسخير الحروب وحملات القمع الواقعة في كل من لبنان والعراق لصالحهم.

احتلت إسرائيل لبنان عسكريا في الفترة بين 1978 و2000 أي لمدة 22 عاما كما شهد هذا البلد من عام 1975 حتى عام 1991 حربا أهلية. وهنا من المعروف أن تصدير الأسلحة والتدريب العسكري للمقاتلين في فترات الحرب يشكلان وسيلة أقوى لفرض النفوذ والتأثير من عهد السلام نظرا لكون السلاح آلية حيوية لا غنى عنها أثناء احتدام القتال.

وهكذا أدى دعم إيران منذ الاجتياح الإسرائيلي الكبير للبنان عام 1982 للتيارات "الراديكالية" في صفوف الشيعة إلى انقسام حركة أمل ونشوء حزب الله فيما بعد، متكونا من عدد من المجموعات الشيعية.

كانت حركة أمل تتلقى في ذلك الحين دعما ماليا وأسلحة من سوريا مما جعل المليشيا التابعة لها تتبوأ في سياق الحرب الأهلية اللبنانية موقعا بارزا تسيره سوريا وفقا لمصالحها. أما حزب الله فقد تلقى دعما من جهتين هما إيران وسوريا، وقد التزم منذ بداية تأسيسه، إضافة إلى شعار "تحرير القدس"، بتقديم المساعدة الاجتماعية لأعداد كبيرة من الفئات الشيعية الكادحة التي انخرطت في صفوفها.

كما كان للحرب مع إسرائيل دور كبير في جعل العديد من السكان القرويين لجنوب لبنان يفرون من ديارهم نازحين إلى بيروت ليصبحوا طيلة سنوات عديدة بمثابة بروليتاريا تعيش في الضواحي الجنوبية للعاصمة.

أسلحة حزب الله

بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية تمكن السوريون دون صعوبة من تجريد مليشيا أمل المعتمدة عليهم من السلاح. لكنهم سمحوا لمقاتلي حزب الله المدعوم من إيران بالاحتفاظ بسلاحهم وعهدوا لهم مهمة متابعة الكفاح ضد الإسرائيليين الذين ما فتئوا يحتلون أجزاء من جنوب لبنان.

من هنا أمكن لحزب الله تعبئة مقاتليه وتقوية بنيانه. وقد وفرت كل من إيران وسوريا السلاح والمال لحزب الله. وبعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 ظل الخلاف المحتدم حول مزارع شبعة الواقعة على الحدود ذريعة يستخدمها حزب الله لمواصلة كفاحه ضد إسرائيل.

استطاع حزب الله التغلب على منافسيه في صفوف حركة أمل إلى حد كبير من خلال النشاط الاجتماعي وفي سياق السياسة الداخلية. فقد أنشأ الحزب آليات فعالة لتقديم العون الاجتماعي بالاعتماد على أفراد مدنيين كثيرين، متفانين في العمل وتبوأ مهمة الإشراف على الأحوال الاجتماعية في المناطق الريفية وفي أحياء المدن على نحو ناشط وفعال، بعيدا عن مظاهر الحضور الاستعراضي.

هذه الأنشطة الاجتماعية انطلقت من المساجد والحسينيات كمراكز محلية. ومن ناحية أخرى جعلت المقاومة الناجحة نسبيا لمقاتلي حزب الله ضد الهجمات الإسرائيلية هذا الحزب يكتسب شعبية كبيرة حتى في صفوف غير الشيعة.

عنف دموي في العراق

في العراق أيضا أدى نشوب الحرب واستخدام وسائل العنف إلى تقوية مركز أصحاب التيارات الراديكالية الثورية المؤيدة لإيران. كان صدام حسين قد عمد بعد تثبيت سلطته على نحو أكيد عام 1978 إلى استخدام أقسى وسائل الاضطهاد ضد حزب الدعوة، فقد قتل مؤسس الحزب آية الله باقر الصدر في عام 1980 على يد معذبيه. لكن حزب الدعوة حافظ في الخفاء على خلاياه السرية حتى سقوط نظام صدام حسين نتيجة للحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق.

في ظل حكم صدام حسين تم أيضا تشريد مجموعات شيعية أخرى من العراق إلى إيران أو قامت بعضها بالنزوح إلى هذا البلد. أحد أتباع عائلة أخرى (عائلة الحكيم) التي تعرضت هي أيضا لأساليب القمع الدموي من قبل صدام حسين، وهو آية الله محمد باقر الحكيم، جمع شمل هذه المجموعات تحت اسم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" (سكيري) وأنشأ مليشيا باسم منظمة بدر شاركت في الحرب ضد العراق الى جانب إيران.

وكان الحكيم قد عاد إلى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين ، إلا أنه أغتيل في النجف في 29 أغسطس/آب 2003، حيث انتقلت قيادة الحزب والمليشيا إلى حجة الإسلام عبد العزيز الحكيم الذي ظل ملتزما بموقفه المؤيد لإيران ، وبات هذا التنظيم يشكل بجانب حزب الدعوة أحد الأحزاب الرئيسية للائتلاف الشيعي الذي يشكل اليوم جناح الأغلبية داخل الحكومة في بغداد والذي يحكم البلاد من داخل المنطقة الخضراء ولو بصورة شكلية نظرية وتحت الحماية الأمريكية.

هناك تهم موجهة لمليشيات بدر بأنها تغلغلت في أجهزة وزارة الداخلية وأنشأت فيها عصابات هدفها قتل السنة بطريقة مستمرة ومنظمة.

الطوق الشيعي المحتمل

هكذا نجحت إيران في خلق موقع لها كدولة تحمي مصالح أطراف هامة في العالم العربي. ولكن هل يسعها من خلال هذا النهج أن ترقى إلى مرتبة القوة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط؟

التدمير الذي لحق بالبنى السياسية والاجتماعية للعالم العربي من جراء الحروب التي شنتها الولايات المتحدة وإسرائيل تعزز مثل هذا التوجه حتى أن بعض المراقبين بدأوا يتحدثون الآن عن وجود "طوق شيعي لتفجير الأزمات" يهدد العالم العربي ببنيته القديمة. وإذا ما افترضنا بأن الأمريكيين والإسرائيليين سيواصلون زرع الفوضى في العالم العربي ونقل تهديداتهم بالهجوم على سوريا وإيران أيضا إلى حيز التطبيق، فعندئذ يمكن أن يتحول التنبؤ بظهور مثل هذا الطوق إلى حقيقة واقعة.

ارنولد هوتنغير
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2006

أرنولد هوتينغر صحفي سويسري، عمل لسنوات طويلة كمراسل صحيفة نيوه تسورشر تسايتونغ في الشرق الأوسط.

قنطرة

عن الحرب الطائفية في العراق
يرى الكاتب العراقي حسين الموزاني أن الأزمة التي يشهدها العراق حاليا تعود إلى الدين الذي كان دوما عامل تجزئة في البلاد وأن الهوية الجامعة للشرائح العراقية المختلفة هي هوية ثقافية محضة