بداية حركة لاعنفية عربية

عميد كلية التربية في جامعة النجاح الوطنية في نابلس سامي الكيلاني من أبرز ممثلي الحركة اللاعنفية العربية. أسس مركز الخدمة المجتمعية في الجامعة القائمة على فكرة التطوع والتثقيف. الكيلاني في حواره مع منى نجار متفائل بأن الثورات السلمية ستدعم الفكر اللاعنفي في العالم العربي.

الكاتبة ، الكاتب: Mona Naggar



ما هو تعريفك لمصطلح "اللاعنف"؟

سامي الكيلاني: أنا أعتبره احترام الإنسان كإنسان ورفضك لأن تعتبر أي آخر سواء آخر فرد أو مجتمع هو أقل إنسانية منك. بالتالي حين تفكر بنفسك، تفكر بنفس المنظار بالآخر، أنت ترفض أن تؤذي نفسك وأن تؤذي الآخرين. أعتقد أن هذه هي القاعدة أو النهج الأساسي. اللاعنف ليس فقط غياب العنف، كما تقول الصحة ليس فقط غياب المرض. اللاعنف هو إنسانية، عدالة، حرية، كل هذه القيم الإنسانية. أنت ترفض أي أسلوب يحقّّر الإنسان، يحط من كرامته. والعنف يقوم بكل ذلك. هذا هو اللاعنف بالنسبة لي.

شهدت العديد من المدن العربية خلال الأشهر الماضية مظاهرات حاشدة واحتجاجات لاعنفية أدت إلى سقوط أنظمة قمعية حكمت البلاد لعقود. هل ترى في هذه التحركات حالات عفوية أم وراءها استرايجيات لاعنفية مدروسة؟

سامي الكيلاني، الصورة منى نجار
"بذرة العنف خطيرة على النضال الفلسطيني ويعطي للاحتلال وللقوة المعادية مبررات القمع"

​​الكيلاني: من المبكر الحكم النهائي على هذه التحركات ولكن من الممكن الحديث عن علامات مميزة. اعتقادي هو أن هذه التحركات حصيلة تراكم كبير من التثقيف المدني. الكثير من الأنظمة القمعية حاولت أن ترضي الغرب، الذي له وجهان، وجه ليبرالي ووجه كولونيالي بالمفهوم الجديد، فسمحت بالتثقيف المدني. وكانت المنظمات المجتمعية الغربية غير الحكومية ذات السمات التقدمية أو الإيجابية تقوم بدعم منظمات مجتمع مدني محلية التي بدورها تقدم تثقيفا في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان. وكانت الأنظمة تعتقد بأن كل ذلك "حكي فاضي وستطيره الريح". عامل آخر مهم هو الانفتاح الذي عجلته وسائل الاتصال الحديثة. هذان العاملان خلقا تراكما كبيرا في الوعي لدى الشباب. وأنا متأكد أن نسبة كبيرة من الاحتجاجات عفوية، بمعنى عفوية الشارع وأنها ليست مفبركة من أي قوة تقليدية. هي منتج أصيل لهؤلاء الشباب.

ولكن ماذا عن الجانب اللاعنفي من الاحتجاجات التي فاجأت الكثيرين؟

الكيلاني: هناك عتبة إذا تخطاها الإنسان تصير أموره سهلة. أن تخرج من قوقعة ألمك وتنظر إلى الآخرين بعين الإنسانية. هذا ليس أمرا سهلا. لأن المسيطر عليك هي معاناتك ورغبتك بالانتقام. ولكن بمجرد أن تعبر هذه العتبة وتتخطاها، يصبح هذا جزء عاديا من حياتك. تستغرب لماذا الناس الآخرين لا يتصرفون مثلك. أعتقد أن بالنسبة لهؤلاء الشباب الأمر هكذا. عبروا هذه العتبة، عتبة الخنوع، القبول بأن "الوضع" قدر لا مناص منه. فعبور هذه العتبة والإدراك أن عددهم بالملايين لا تستطيع السلطة أن تعتقلهم كلهم أو تقتلهم، أدى إلى هذا الزخم. وحتى يثمر ذلك بالفعل هناك الحاجة إلى الوعي والتنظيم. الوعي يعني ثقافة، لس بالمعنى التفلسف على الناس واستعمال المصطلحات المعقدة. قناعات أن أنا الإنسان لدي حقوق طبيعية وليس من حق زعيم أو أب أن يصادرها.

هل تعتقد أن الثورات السلمية بداية لحركة لاعنفية عربية؟

الصورة ا ب
"هناك عتبة إذا تخطاها الإنسان تصير أموره سهلة. أن تخرج من قوقعة ألمك وتنظر إلى الآخرين بعين الإنسانية"

​​الكيلاني: بالتأكيد. حتى في فلسطين صار النضال السلمي أو اللاعنف مصطلحان دارجان. في الماضي كنا نحس بحساسية الناس تجاه هذه المصطلحات، فكانوا يعتبرونها موقفا استسلاميا أو موقف الضعيف أو موقفا هروبيا. لذلك كنا نقول النضال المدني أو المشاركة الشعبية، نستعمل كلمات أخرى. الآن لا أحس أن هناك حساسية ونقول "النضال اللاعنفي" بشكل واضح. ؟؟؟؟

كيف يمكن أن يتم تجذيرهذه الحركات اللاعنفية في المجتمعات العربية؟

الكيلاني: يجب التفكير بتأسيس تيار واسع، له مجموعة مبادئ وقيم يُشتغل عليها بالتثقيف والوعي وبأشكال تنظيمية مرنة ومريحة. تأسيس تيار شبابي له عضوية على أساس مجموعة بسيطة من القيم والقواعد ينظم اجتماعات من وقت لآخر ويأسس منظمات مجتمعية تشغّل الشباب في عمل تطوعي ومجتمعي، بحيث يظلون في حركة دائمة متوافقة مع مجموعة المبادئ.

هل تفاجأت بالجانب السلمي للاحتجاجات الشعبية والشبابية؟

الكيلاني: لا لم أتفاجأ. كنت أراقب بداياتها. ولكن تفاجأت بالمدى الذي وصلت إليها وهذا ليس إساءة. ولكن أحيانا نكون ضحية نظرة نمطية. اليمن مثلا كانت أكثر من التوقعات، أنا معجب بإصرار قياداتهم بعدم الانجرار إلى العنف. في سوريا واضح أن هناك أصرار على السلمية ولكن النظام يعمل كل جهده لكي يجر المحتجين إلى مربعه. في كل المعادلات، القوي ماديا وعسكريا يحاول أن يجّر الضعيف إلى ساحته، لأنه سيتوفق عليه في ملعبه. الذكاء والحكمة أن ترفض الانجرار. وهذه هي الغلطة الكبيرة التي ارتكبناها في الإنتفاضة الثانية، التي لا اعتبرها إنتفاضة إذا كانت الإنتفاضة تعني إشراك الجماهير. لم تشترك الجماهير وبقيت محصورة بتنظيمات مسلحة وعلى الناس أن تؤيد وتصفق. بشكل دائم إحذر من أن تنجر إلى ملعب الخصم المتفوق! حكمة بسيطة ولكن كانت غائبة وللأسف. أحيانا الإغراق في احترام الرموز يضيع الجوهر. مثلا رمزية أن أقاوم وكأن المقاومة رمزها إطلاق رصاصة.

شاركت منذ شبابك في الحركة الوطنية الفلسطينية، قضيت خمس سنوات من حياتك في السجون الإسرائيلية لأسباب سياسية وقُتل أخوك الذي كان ناشطا نقابيا بيد الإسرائيلين. كيف تبلور لديك رغم كل ذلك النضال اللاعنفي؟

الكيلاني: كنت دائما بوجود حل وكان تفكيري واقعيا. منذ البديات كنت مؤيدا للخط في منظمة التحرير الفلسطينية الذي بدأ يفكر في تأسيس سلطة فلسطينية ودولة فلسطينية على حدود 67. وكنت منذ البداية ضد المصطلح الذي يقول بأن العمل العسكري هو "الطريق الوحيد والأوحد". هذا التفكير يشل آلاف الناس غير المستعدة لحمل السلاح وبالتالي يجب أن يكون هناك مجال للناس بقواها الطبيعية وليس فقط "للسوبرمان" الذي يضحي وينقطع للنضال. هكذا تم كسر المحظور، وضع علامة استفهام. بعد فترة اعتقالي بدأت تتبلور لدي أهمية أن توجد وسيلة للنضال مفيدة وخسائرها أقل وتستطيع أن تستوعب الناس العاديين وتوظف جهودهم. فبدأت أفكر مع آخرين في إيجاد أطر شعبية تفرض نفسها على الاحتلال، مثل العمل التطوعي الشبابي، وبدأنا نفّعل دور العمال والنساء، وهذا هو العمل السياسي الحقيقي. كما صرنا نرى الآثار السلبية للعنف، المناضل الذي يصبح لديه الحق بأن يدفع الناس لأن تمشي في الاتجاه الذي يريده، يصبح هو الذي يقرر كيف على الآخرين أن يعيشوا. سلسلة طويلة، أدركت أن مصدرها هو العنف.

أي أن القناعات لديك نمت مع الوقت

الكيلاني: نعم. تحولت قناعاتي من رؤية براغماتية بأن العمل السلمي مفيد إلى قناعات إيديولوجية بأن بذرة العنف خطيرة على النضال الفلسطيني ويعطي للاحتلال وللقوة المعادية مبررات القمع، تبين أمام العالم بانها تدافع عن نفسها وأنها ليست محتلة أو غاشمة، بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية الداخلية للعنف. وبدأ يتطور لدي هذا التوجه ويترسخ وبموازاته إمكانية أن تنظر إلى الآخر، إلى الاسرائيلي بأنه ليس شيطانا. هو محتل، يهمك أن تتخلص من الاحتلال وليس من المحتل كإنسان، مستعد أن تعيش إلى جانبه إذا توقف اعتداؤه عليك. بذلك الهدف هو وقف عدوانه ونيل حريتك.

ما هو مدى انتشار هذا التفكير في الوسط الفلسطيني؟

الكيلاني: اعتبر الانتفاضة الأولى حصيلة التجارب التي حكيت عنها. أواخر السبعينات حتى أواسط الثمانيات شهدنا حركة واسعة لبناء منظمات جماهيرية ولتطبيق وسائل لاعنفية مثل زراعة الأرض، الإضراب والاعتصام، كسرت طوق الفصائل الحزبية الصارمة المغلقة، وهذا أفضى إلى تفعيل طاقات الناس العاديين التي كانت أقرب إلى اللاعنف. تجربة الانتفاضة الأولى تحتاج إلى تقييم كبير. نتفق جميعا على سمتها المدنية في بداياتها، ثم حاولت المنظمات أن تسيطر عليها، والتي كان يغلب عليها التفكير العسكري المسلح، كما كانت تتخوف من أن تفلت الأمور من يديها. فاحتوتها إلى حد ما، وهذا ما أفقدها الطابع الذي بدأت به.

 

أجرت الحوار: منى نجار
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011