ضمان الحريات الأساسية...أولوية التحول الديمقراطي في تونس

يرى الصحفي التونسي سفيان الشورابي أن على الاتحاد الأوروبي مراعاة ضرورة ضمان الحريات الأساسية والتداول السلمي على الحكم واستقلالية القضاء ومكافحة الفساد في تونس قبل الحديث عن مساندته لعملية الانتقال الديمقراطي وذلك في رسالته المفتوحة التالية التي يبعثها عبر موقع قنطرة إلى رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه ‏مانويل باروسو.

الكاتبة ، الكاتب: Soufiane Chourabi

بعد ثلاثة أشهر فقط من نجاح الثورة التونسية حطت طائرتكم على مدارج مطار تونس-قرطاج الدولي قادمين لتهنئة التونسيين بنجاح ثورتهم من أجل الحرية والكرامة. مكتبكم في تونس وَزّع حينها بياناً باسمكم تعتبرون فيها تونس "رائدة الحركة من أجل الحرية والديمقراطية في العالم العربي"، معتبرين أن "مساندة هذه الإصلاحات التاريخية مسؤولية الاتحاد الأوروبي".

ومنذ ذاك الحين، انصرفتم إلى مشاغل أخرى تهم مسؤولياتكم على رأس أبرز التجمعات الدولية، بينما اتجهت تونس إلى لملمة الجراح الداخلية التي أصابتها نتيجة نظام سياسي مستبد وفاسد.

ثلاث سنوات تقريبا مرّت على إزاحة الرئيس السابق زين العابدين بن علي، خِلنا أنها ستؤدي إلى بناء أركان دولة ديمقراطية حقيقية يكون التعدد والتنوع أبرز سماتها، الا أن ما نعيشه حاليا يدفعنا إلى التخوف الحقيقي من عودة البلاد إلى الرزوح تحت نير الدكتاتورية، بشكل جديد.

خوسيه ‏مانويل باروسو رئيس المفوضية الأوروبية.

فرغم مصادقة تونس على معظم الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي تفرض عليها ضرورة احترامها، أخلاقياً على الأقل ما لم يتم سنّ دستور جديد للبلاد، إلا أن الواقع المعاش يومياً مخالف تماماً لالتزاماتها الدولية. 

خمسون سنة من القمع وخنق الحريات

ذلك أن الآراء تتالى ولا تتوقف. ونشطاء حقوقيون وفنانون وصحفيون مستقلون وسياسيون معارضون يُحاكَمون تباعاً لمجرد أنهم عبّروا عن آرائهم بكل حرية تزعج في معظم الأحيان السلطات المحلية. ونفس القوانين والتشريعات القديمة التي سبق أن استعملتها الأنظمة السياسية الاستبدادية السابقة هي ذاتها التي يتم الالتجاء إليها وتكييفها بقصد وضع المخالفين في الرأي في السجون.

لقد عشنا خمسين سنة من القمع وخنق الحريات، وتمردنا ضدها إيماناً منا أن حرية الرأي والتعبير والضمير هي من الحقوق المقدسة للإنسان، لكن ما نشاهده في دولة "ما بعد الثورة" يدفعنا إلى القول إن الأمور تعود إلى الخلف بشكل مخيف. 

لم يطالب المتظاهرون في تونس في بداية الربيع العربي بالديمقراطية فقط، وإنما كانت أولويتهم الخبز والكرامة والعدالة.

أما الحريات العامة والفردية التي تُعَد المكسب الأساس الذي تحقق بعد ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، فإن التبجح اليوم بأن التونسيين يتمتعون بها يُعَد مبالغة ظاهرة. فصحيح أن النشاط السياسي هو حرّ ومتاح للجميع دون استثناء. صحيح أن الجمعيات الأهلية والمنظمات الاجتماعية تمارس عملها دون رقابة أو ضغط، وهو ما ينسحب كذلك على حرية التظاهر والتجمهر، وهو أمر محمود، لكن التهديد الأكبر أصبح يطال الحريات الفردية والشخصية للمواطن التونسي.

فمجموعات دينية متشددة تُمارس ضغوطات رهيبة من أجل تغيير قسري وإجباري لنمط حياة التونسيين المعتدل نحو آخر قروسطي ومتخلف. نذكر على سبيل المثال تنظيم يسمي نفسه "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يعمل جاهداً على إرهاب التونسيين الذين يتبنون شكل حياة متحرر وغير مقيد. وهذا دون تدخل رادع من طرف السلطات الحكومية!

كما لا يتوانى أئمة بعض المساجد، الذين يخضعون قانونيا لإشراف وزارة الشؤون الدينية، عن تكفير بعض ممارسات أو سلوكيات طيف من التونسيين، ربما لأنهم يعتقدون أنها مخالفة لتعاليم الدين. فإذا كان صحيحاً أن هذا الأمر يُعتَبر شكلاً من أشكال حرية التعبير، لكن أن يُصاحبه إقدام على قتل الناس وتعنيفه، فإنه لا مناص من تدخل الدولة للتصدي ضد ارتكاب تلك التجاوزات. وهو ما لا يحصل دائماً مع الأسف.

في مايو/ أيار 2013 وضعت تونس قوات الأمن والجيش في حالة تأهب قصوى تحسبا لأعمال عنف إثر إصرار جماعة "أنصار الشريعة" المتشددة الموالية لتنظيم القاعدة على عقد مؤتمرها السنوي في مدينة القيروان التاريخية (وسط غرب تونس) رغم قرار وزارة الداخلية بمنعه.

ودولة قانون بالفعل تحتاج الى جهاز قضائي مستقل ومحايد. وهو حلم لا يزال بعيد المنال في تونس. فالسلطة التنفيذية تطوع القضاء وفق مشيئتها عبر التمسك بإشراف وزارة العدل على مؤسسة النيابة العمومية التي توظفها لإثارة قضايا مفتعلة ضد الخصوم السياسيين. 

انتهاكات ضد الصحفيين

أما عن حرية الإعلام فحدِّث عنها ولا حرج. إذ نفّذ الصحفيون التونسيون إضرابين عامّين عن العمل في سنة واحدة احتجاجا منهم على الانتهاكات البدنية التي طالت الصحفيين، ورفضاً لسياسة السلطات التي تهدف إلى إحكام السيطرة على المؤسسات الإعلامية العمومية من خلال احتكارها تعيين كبار المسؤولين فيها.

ولا شك أنه بلغ إلى مسامعكم تحركات التنظيمات الإرهابية التي وجدت لها قدماً في الداخل التونسي. فالإرهاب الذي نتفق ألا حدود جغرافية له لم يكن بإمكانه التغلغل في تونس التي عاشت طيلة سنوات طويلة بمنأى ظاهرة خطيرة وهي تواطؤ بعض الأجهزة الحكومية والحزبية التي تعاملت معه بنوع من الليونة.

قررت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين (مستقلة) إضرابا عاما في قطاع الصحافة يوم 17 سبتمبر/ أيلول 2013، احتجاجا على ما أسمته "مخططا حكوميا لضرب حرية التعبير والصحافة والإبداع عبر توظيف القضاء من أجل سجن وترهيب الصحفيين والإعلاميين والمبدعين".

ضمان الحريات الأساسية

لذلك من المهم على الاتحاد الأوروبي الذي يمثل نادياً لأكبر الديمقراطيات في العالم أن يراعي ضرورة ضمان الحريات الأساسية والتداول السلمي على الحكم واستقلالية القضاء ومكافحة الفساد قبل الحديث عن مساندته لعملية الانتقال الديمقراطي في تونس التي تعاني، في حد ذاتها الكثير من الهنات المذكورة آنفا. كما أن القادة الأوروبيين يمكنهم استغلال العلاقات الحكومية التي تربطهم بالنظام التونسي الحالي لدفع حركة النهضة الإسلامية نحو التحول من حزب ديني يلامس في أفكاره ومبادئه المرجعيات الفاشية إلى حزب مدني وسلمي يؤمن حقيقة وبلا لبس بقيم الديمقراطية.

كما على المؤسسات الأوروبية التعامل بصرامة ووضوح تجاه الانتهاكات التي تطال الحريات وحقوق الإنسان في تونس، وهي التي تحظى بمرتبة الشريك المتميز مع الاتحاد الأوروبي. ويقبع مثلا شاب تونسي اسمه جابر الماجري وصفته منظمة العفو الدولية بأنه سجين رأي ، في السجن لتقضية عقوبة  قاسية مدتها سبع سنوات ونصف لمجرد أن نشر صورا اعتبرها القضاء التونسي "مخلة بالإسلام والاخلاق"! دون أن يتحرك معظم الزعماء الأوربيين قيد أنملة من أجل إطلاق سراحه.  

من جهة أخرى، ندرك جيدا أن أهم المشكلات التي تؤرق العلاقات التونسية-الأوروبية هما قضيتا الهجرة السرية والإرهاب. وهما مسألتان تشغلان بال التونسيين دون استثناء. والتنمية العادلة بين الجهات هي السبيل الأنجع للقضاء عليهما نهائيا. وهو ما لا يمكن لتونس، التي تمر بهزات اقتصادية واجتماعية كبيرة في هذه الفترة، القيام به بمفردها. اذ يحتاج هذا الأمر مزيدا من المساندة والدعم في هذا الاتجاه. 

 

سفيان الشورابي

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2013