أين الإسلام الفلسطيني؟ الدين والسياسة في سياق التحرر الوطني

الكاتبة ، الكاتب: خالد الحروب

«وصعد بطريرك الكنيسة الفلسطينية منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى وألقى خطبة حماسية في جموع المصلين الذين ملأوا المسجد وساحتة وقبة الصخرة وما حولها يوم الجمعة العظيمة التي تسبق عيد الفصح المجيد، وحثهم على مواصلة الانتفاضة والمقاومة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ثم نزل عن المنبر وانضم إلى صفوف المصلين وراء الامام. وبعدها بيومين، أي يوم الاحد، قاد خطيب المسجد الأقصى قداس عيد الفصح في كنيسة القيامة وخطب في الوف المصلين حول أهمية صمود الفلسطينيين في أرضهم وقرأ فتوى جماعية وقع عليها علماء الدين الفلسطينيون، مسلمون ومسيحيون، تُحرّم الهجرة من الوطن». المصدر: كتاب مُتخيل بعنوان «لاهوت التحرير الفلسطيني» التاريخ، زمن ما في المستقبل!

هل نحن بعيدون عن هذه اللحظة المثالية التي قد يرصدها مؤرخو المستقبل في سياق التأريخ لصعود أنماط جديدة من الدين والتدين في فلسطين؟ تندرج هذه اللحظة المستقبلية المأمولة في سياق ما يصفه كثيرون بـ«لاهوت التحرير» وما يعنيه من دور ثوري يلعبه الدين في مواجهة الاستعمار والاحتلال، من خلال إعادة ترتيب الأولويات الدينية للحفاظ على بنية اجتماعية مقاومية مُتماسكة. لن تأتي هذه اللحظة التي نتمناها فلسطينيا من دون عمل ذاتي لتخليقها وتخصيب الأرض التي تنبت فيها، ومن دون إزاحة ركام الغثاثات الفكرية والسياسية والدينية الذي يسد الطريق إليها. الصفحات التالية تأمل المساهمة في فتح ملف لاهوت التحرير الفلسطيني وفي الدفع باتجاه تهيئة المناخ والأرض لبروز نمط جديد من التدين الفلسطيني. والتركيز على «الإسلام الفلسطيني» من دون «المسيحية الفلسطينية» في هذه المقاربة مسوغه واضح وهو كون الإسلام دين الغالبية في فلسطين وكون الفضاء الإسلامي هو الأوسع والأكثف، ومع ذلك فإن أغلب النقاش هنا ينطبق على حد سواء على المسيحية والمسيحيين بما يستدعي أيضا البحث عن «مسيحية فلسطينية». والسؤال المركزي الذي تطرحه المقاربة أمام الفلسطينيين جميعا، متدينين وعلمانيين، هو التالي: كيف يُمكن إعادة تقديم الإسلام والمسيحية من خلال منظور فلسطيني يطرح أولوية التحرير وأولوية مواجهة الاحتلال وأولوية الوحدة الوطنية وأولوية الحفاظ على الشعب في أرضه ويحافظ على النسيج الاجتماعي ويعزز التعددية ويفتح الانتماء إلى فلسطين من دون اشتراطات دينية أو مسلكية، وبحيث تتقدم هذه الاولويات على غيرها بما فيها الأولويات الدينية؟ كيف يُمكن إنتاج إسلام فلسطيني، عفوي وطبيعي ومن دون نزعات صدامية، له طابع ومذاق خاص يساهم في تحقيق تلك الأهداف، وبموازاة ذلك تحييد تأثيرات «الإسلامات» الأخرى التي تطورت في سياقات مُختلفة وبعضها يؤثر سلبا في أولويات التحرير وتعزيز الوحدة الوطنية والحفاظ على النسيج الاجتماعي؟

يأتي هذا النقاش حول الإسلام الفلسطيني على خلفية قلقٍ اثارته مجموعة من الحوادث «الصغيرة» ذات البعد الديني وقعت في فلسطين، اثنتان منها مع ختام العام 2020 والثالثة في شباط (فبراير) 2021. وقد تسببت هذه الحوادث في ضجة شعبية وإعلامية تعددت فيها الآراء واحتدت. الحادثة الأولى تمثلت في صدور تعميم داخلي لوزارة الشؤون الدينية في غزة في كانون اول (ديسمبر) 2020 بعنوان «فعاليات للحد من التفاعل مع الكريسماس» تضمنت تبني عدة وسائل وأنشطة رسمية لتحقيق «عدم التفاعل» ومن ضمنها إصدار فتاوى شرعية تحرم مشاركة المسلمين في الاحتفالات المسيحية مثل عيد الميلاد ورأس السنة. الحادثة الثانية تعلقت بما وُصف بـ«حفل موسيقي صاخب» نُظم في مقام النبي موسى القريب من اريحا في السادس والعشرين من نفس الشهر، وتسبب في اعتقال الفنانة الموسيقية الفلسطينية سما عبد الهادي برغم حصولها وفرقتها على إذن مسبق من وزارة السياحة الفلسطينية. الحادثة الثالثة هي إصدار مجلس القضاء الشرعي في غزة ما سماه «تعميم المنع من السفر» في تاريخ 10 شباط (فبراير) 2021 حظر بموجبه السفر على المرأة (في قطاع غزة) «دون الحصول على إذن من وليها العاصب ولوليها ان يمنعها من السفر إذا كان في سفرها ضرر محض» كما أجاز لأي من الوالدين أو للجد حظر السفر على الشاب الذي تجاوز 18 عاما «إذا كان يترتب على سفره ضرر محض». صدرت تصريحات رسمية من الجهات ذات العلاقة بكل حادثة حاولت التخفيف من الموقف الرسمي أو تعديله أو التملص منه، وهي حيثيات ليست مهمة هنا.

بعيدا من تلك الحيثيات فإن ما تركز عليه المقاربة هنا هو تفكيك محاور النقاش الديني وتتبع التصورات التي صدر عنها، والمجادلة بأن المقاربات الدينية التي تصدت للدفاع عن تلك الاحداث لم تنطلق من السياق الفلسطيني الخاص، بل من تفسيرات دينية عامة ونظرية مُتجاوزة لأي سياق جغرافي أو زمني. بمعنى آخر، صدرت الدفوعات عن المواقف التي تبنت تحريم التفاعل مع المسيحيين، وتحريم الحفل الموسيقي في مقام النبي موسى، وتحريم سفر المرأة من دون اذن وليها، عن رؤية سلفية نصية ترى آلية وحتمية انطباق النص على الواقع، أي واقع، مع إهمال السياق والخصوصيات بشكل شبه تام. اعتمد الجدل ونقاشاته العديدة ومعظم الردود الدينية على «التأصيل النصي» التقليدي المُستند إلى كتب التراث وآراء الفقهاء قديما وحديثا. قليل من تلك النقاشات الدفاعية وضعت السياق الفلسطيني الراهن كأهم مُكون ومؤثر في توجيه الفتوى المعنية أو الموقف الديني قيد البحث. هناك أصوات بالطبع اشارت إلى خصوصية الوضع الفلسطيني التي تفرض علينا تجاوز الموضوعات الهامشية مُقارنة بالأولويات الأكثر الحاحا. لكن هذه الخصوصية اشير إليها على نحو ثانوي أو تكميلي وليس كعنصر تكويني وتأسيسي في الفهم الديني في فلسطين، ولم يتم تفعيلها وعجنها في التفكير الديني نفسه بحيث تصدر الفتوى أو الرأي الديني بشكل متعين ومُحدد لخدمة السياق الفلسطيني التحرري، وليس فقط الإشارة العابرة إلى هذا السياق. مقابل الرؤية النصية هناك رؤية فقهية سياقية كثيفة الحضور في التواريخ الإسلامية، تعتمد على السياق وخصوصيته، وهي التي يجب ان تسود وتقود الدين والتدين في فلسطين. نعرف مثلا أن الإمام الشافعي عندما انتقل من العراق إلى مصر في أواخر القرن الثاني الهجري غيّر كثيرا من آرائه وفتاويه لأنه رآها لا تتناسب مع «سياق» مصر وأعراف مجتمعها. مدرسة الشافعي ومدارس الفقه المتعددة تناغمت مع «السياقات» المختلفة ومع الواقع واستجابت لها، على عكس المدرسة السلفية النصية التي تمترست دوما وراء ظاهر النص واتجهت نحو فرضه على كل السياقات وكل الواقع من دون اعتبار لتبدل الأولويات مع تبدل الجغرافيا والزمان.

في فلسطين وخلال العقود الاربعة الأخيرة (أي منذ أوائل عقد الثمانينيات فصاعدا) حدثت انزياحات كبيرة في انماط التدين الفلسطيني وفي طبيعة الإسلام الذي صار اليوم شبه سائد في فلسطين، وذلك بسبب تصاعد نفوذ ونشاط الحركات الإسلامية الأساسية، واهمها حماس (والإخوان المسلمين) التيارات السلفية، حزب التحرير، وكذلك الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر. ومع الانتباه إلى الاختلافات العديدة بين هذه الحركات، إلا أنها جميعا آلت عمليا وواقعيا إلى تبني المدرسة السلفية النصية ولو بدرجات متفاوتة، وكان ذلك على حساب مدرسة المصالح المرسلة التي تعتمد العُرف وتقدير السياق الخاص. هذه الانزياحات نحو «سلفنة التدين الفلسطيني» أضرت عمليا بفلسطين كوطن وشعب وكقضية تحرر وطني، لأن المدرسة السلفية النصية مهجوسة بتطبيق النصوص أيا ما كانت النتيجة والعواقب، حتى لو تسببت في انقسامات شعبية أو أضعفت النسيج المجتمعي أو أدت إلى بناء غيتوات جزئية متقوقعة على ذاتها داخل المجتمع الواحد. وقد برزت تعبيرات وأفكار هذه المدرسة النصية بشكل واضح في الدفوعات الدينية التي رافقت الحوادث الثلاث المذكورة. هذا التحول السلفي النصي في الفضاء الديني الفلسطيني يفرض علينا التوقف عنده وطرح السؤال المركزي حول غياب الإسلام الفلسطيني من ناحية موضوعية، وضرورة انبعاثه من ناحية قيمية ووطنية. وفي السؤال عن الإسلام الفلسطيني لا بد من الانخراط في نقاشٍ أوسع للرأي المعارض الرافض للحديث عن ضرورة «الإسلام الفلسطيني» أو حتى مجرد التفكير فيه استنادا إلى الفكرة الغائية التي تقول بأنه لا يوجد إلا إسلام واحد وحيد، وتنفي وجود صور وتعبيرات وتمثلات مختلفة للإسلام حسب المكان والزمان والمجتمع والثقافة والأولويات الضاغطة.

خداع الذات: الواقع والمثال

قال ويقول كثير منا ان الحوادث الثلاث المُشار اليها عابرة ومحدودة ولا تعكس طبيعة الشعب الفلسطيني ولا ثقافته ولا نمط تدينه ولا تؤثر على النسيج المجتمعي ومن الضرر المبالغة في التركيز عليها وتضخيمها. وأُضيفَ ايضا إن أولوية الأولويات يجب ان تظل مُتمحورة حول مواجهة إسرائيل ومشروعها الإحتلالي الاستعماري بكونها التناقض الرئيسي، وتأجيل أو تهميش أي قضايا داخلية أخرى، بكونها تناقضات ثانوية. وتعكس هذه النزعة التي تفترض طهرانية جمعية رغبة وتمنيات أكثر مما تعكس الواقع المُعاش، وتهرب إلى الأمام لتفادي مواجهة البشاعات المُلحة. في عقود ماضية ربما صح القول بأن نمط التدين الذي كان سائدا في فلسطين (والفضاء العربي بعامة) لم يشهد في المُجمل تعصبا وتشددا يؤدي إلى توترات اجتماعية وانقسامات رأسية، واتسم بالسماحة والعفوية. ومع ذلك فقد شهدت تلك العقود نمطا عاما من المحافظة الاجتماعية، لكن تلك المحافظة لم يرافقها محافظة دينية أو تشدد ديني بالشكل الذي تطور في مراحل لاحقة، فكان أن تجاورت المحافظة الاجتماعية مع تعايش وعفوية دينية. لذلك لم تسيطر في ذلك الزمن، أي ما قبل صعود الإسلاموية الحركية، خطابات مكرورة ومتكررة تؤكد على أهمية «التعايش والتسامح» بين الأديان ومتبعيها في فلسطين، فتلك كانت الحالة الطبيعية والعفوية المُعاشة ولم يكن ثمة حاجة إلى التنظير حول ما هو واقع ومُمارس. عندما تزداد وتيرة الحديث النظري عن التعايش والتسامح، في فلسطين كما في دول عربية كثيرة، فإن ذلك يشير عمليا إلى غياب هاتين الممارستين على الأرض أو ضعف حضورهما، وهذا الغياب هو الذي يستدعي تكثيف الحديث والخطاب عنهما، في محاولة يائسة للتعويض بالكلمة والادعاء عما هو ناقص في الواقع والممارسة. في اعقاب كل حادثة شبيهة بالحوادث المُشار اليها أعلاه ينجرح الوجدان الفلسطيني العام وتتوالى نداءات وخطابات اعتذارية تحاول الحفاظ على صورة مُتخيلة لذات جمعية فلسطينية «ناصعة» و«نقية» محركها الأساسي البوصلة الثورية والشعبية نحو التحرير. وفي أحيان كثيرة، وربما غالبة، يقودنا الدفاع عن الصورة المُتخيلة وغير المُتحققة في الواقع إلى إنكار غير واع لممارسات بشعة مُتجسدة في الواقع اللئيم ذاته (مثل تجذر القبلية والعشائرية وتمثلاتها وهي التي تنافس في قُبحها بشاعة التعصب الديني وتأثيراته). إذن هناك مسافة تفصل الصورة المُتخيلة والمثال المُرتجى لحالنا المجتمعي الفلسطيني بما فيه «التعايش والتسامح» الديني الذي يُتغنى به، عن الواقع الذي يدهمنا كل فترة بحادثة صادمة تشير إلى هشاشة ذلك التعايش والتسامح الموصوفين. وفي معظم الحوادث التي تفجعنا وتجرح ضميرنا الجمعي لا نرى إلا المعالجة السطحية والتي تتمثل غالبا في «دبلوماسية القيادات» عندما تزور قيادات إسلامية ومسيحية بعضها البعض وتوزع الابتسامات أمام الكاميرا، بينما يتواصل تعفن المشكلة الحقيقية في قلب التصورات والمسلكيات المتعصبة على مستوى ثقافة القواعد الحزبية التي «تسلفنت» و«توهبنت» (من الوهابية) بالدرجة الأولى، ثم على مستوى شرائح شعبية واجتماعية عريضة فاضت عليها تلك الثقافة السلفية وأعادت انتاج تدينها وتوجهاتها.

في مسألة الدين وفلسطين والناس والتدين ثمة ثنائيات يتردد صداها في خطاب يحاول وصف المسافة والتوتر بين المثال والواقع. ومع الانتباه إلى ضرورة عدم الانجرار وراء ما تطرحه أية مصفوفات ثنائية بسبب تسطيحها للواقع وتغييبها لتفاصيل كثيفة، فإن بعضها تبلور كالآتي: تعايش – تعصب، اعتدال – تطرف، توسع – تضييق، انفتاح – انغلاق، اقصاء – تعددية، ذكورية فجة ـ توازن جنسوي، تدين سمح ـ تدين سمج، وبالإمكان إضافة غيرها ايضا. ومن هذه الثنائيات الاختزالية نجد صورة المثال الفلسطيني المُتخيل والتي نريد ان نعتقد بأنه الكائن والمُتحقق تقدم العناصر الاولى منها، وتدافع بأننا شعب متعايش، معتدل، منفتح، تعددي، يتبنى التدين السمح وهكذا. صورة الواقع الفلسطيني، علينا ان نعترف، مختلفة ومختلطة ومركبة وليست وفق ما يزعمه خطاب المثال المُتخيل، وليست أيضا ما يزعمه نقيضه. إدراكنا الجمعي لوضعنا الاختلالي والمرضي واتساع المسافة بين «مثالنا» و«واقعنا» هو نقطة البداية لمواجهة الاختلالات وتقليص تلك المسافة، وربما الخروج من هذه الثنائيات إلى فهم أكثر دقة للواقع الفلسطيني ثم تطويره.

فلسطين في المدرسة النصية السلفية

قبل المضي في نقاش ضرورة وجود وتصعيد الإسلام الفلسطيني المنطلق من مدرسة السياق الفلسطيني، من المفيد إبراز أحد اشد تمثلات الإسلام النصي كما عبّرت عنه مدرسة النص السلفي. من المهم ابتداء ومن ناحية موضوعية التشديد على أن المثال الذي يرد أدناه لا يمثل كل أطياف الإسلام الحركي (وخاصة الإخواني والحمساوي الفلسطيني) ولا يمكن أن يمثل علميا وموضوعيا نظرة كل المدارس السلفية إلى فلسطين أو يختزل كل اطروحاتها. لكن إيراد هذا المثال، وأهميته أيضا النابعة من رمزية عالم الدين السلفي الصادر عنه، يأتي للتدليل على خطورة الانصياع للمدرسة السلفية وتفسيراتها، والتي قد تبدأ حروبها العبثية في موضوعات ثانوية لكن لا أحد يضمن أو يعرف اتجاه تدحرج اندفاعاتها النصية. ضمن السجالات السلفية حول فلسطين في العقدين الماضيين صدرت فتوى مشهورة، سبقها وتلاها تأكيدات متلاحقة لمضمونها من قبل صاحبها ومؤيديه، طالبتْ الفلسطينيين بالهجرة من فلسطين للحفاظ على دينهم بسبب الخشية على عقائدهم إذا بقوا قاطنين في فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي. صاحب تلك الفتوى هو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي يعتبره البعض من أهم علماء السلفية في القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم، وله اتباع ومريدون كثر في طول وعرض العالم الإسلامي، وأيضا في أوساط «السلفية الفلسطينية». وكان الشيخ قد سُئل، في تشرين الأوّل (أكتوبر) سنة 1999، حول هذا الموضوع ودار بينه وبين السائل الحوار التالي:

السائل: أهل الضفة الغربية، هل يجب أن يخرجوا ويهاجروا إلى بلدٍ ثان؟

الألباني: يجب ان يخرجوا من الأرض التي لم يتمكنوا من طرد الكافر منها إلى أرض يتمكنون فيها من القيام بشعائرهم الإسلامية.

السائل: لو أنهم تركوا الضفة الغربية ورحلوا إلى بلاد ثانية، فلقد مكنا الأعداء من الأرض؟

الألباني: انا اعرف أنك تريد ان تقول هذا الكلام، ولكن ما رأيك: المهاجرون الأولون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، ماذا فعلوا؟ أخلوا المكان للكفار ام لا؟

السائل: هذا طبعا بحال ضعفهم لأنهم ضعفاء.

الألباني: ما جاوبتني؟

السائل: أخلوها.

الألباني: فلذلك يجب أن يخضع عقلك ورأيك لشرعك، لا تخضع شرعك لعقلك. لأنه – لا تؤاخذني – مهما كان عقلك جبارا وكبيرا جدا فأنت لا تساوي شيئا بالنسبة لعقل الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي نزل عليه الوحي أولا ثم طبقه كما أنزل عليه ثانيا، فهو الذي هاجر من مكة إلى المدينة، فلماذا لا يقتدي المسلم بمهاجرته من البلد الذي فيه الكفار؟ حجتك انت وغيرك: أي أخلينا البلد للكفار؟ أي نعم خلوا البلد للكفار كي تتهيئوا لإخراج الكافر من بلدكم الذي احتكم فيه، ذلك هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.

تكمن خطورة المدرسة السلفية، كما تشير مرافعة الألباني النصية الجامدة، في صلابة اعتقادها بأنها تنطق بالحق ولا تكترث بالسياق، ولأنها كذلك فهي تعبر عن ذاتها بقوة وسلطة دينية لا يضاهيها فيها أي اتجاهات أخرى في الإسلام التقليدي أو الحركي الحديث. كما أن أتباعها لا يترددون عن «النطق بالحق» كما يرونه مهما كان، حتى لو كان ما رأوه وهو ضرورة هجرة الفلسطينيين من أرضهم يقدم خدمة تحقق أكبر أحلام الصهيونية. ويرى غالبية أتباع المدرسة السلفية بتنويعاتهم المختلفة أن إسلام واعتقادات وتفسيرات غيرهم فاسدة كلياً أو جزئيا، وبناء على ذلك يتم تصنيف الآخرين إلى فسقة وفجرة وكفرة وفاسدي عقيدة وسوى ذلك. ليس هناك منهج أكثر تفتيتا لنسيج أي مجتمع وللبنية الجمعية لأي شعب ولوحدة أي وطن من هذا المنهج، فضلا عن ان يكون ذلك المجتمع والشعب والوطن تحت احتلال استعماري يحاول تعزيز وحدته للتخلص من ذلك الاحتلال.

في مقابل هذا المثال للمدرسة النصية السلفية لنتأمل مثالاً مختلفا تماما يمكن إدراجه في نطاق المدرسة السياقية التي تعتمد فقه الأولويات بالدرجة الأولى. في هذا المثال نستمع إلى سرد من الدكتور عبدالله النفيسي، الإسلامي الكويتي المعروف وذي الخلفية الإخوانية، بعضا من حديث له مع طيب رجب اردوغان بعد ان اصبح الأخير رئيسا للوزراء في تركيا (ولا يذكر النفيسي في أي سنة تم اللقاء، وإن كان الفيديو الذي يسجل فيه شهادته يحمل تاريخ أيلول (سبتمبر) 2011. تقدم مقولات اردوغان حسب هذه الشهادة تجسيدا لفقه سياق الأولويات وتفسر جزءاً من دينامية «الإسلام التركي» وانفتاحه، والتي ظل جوانبُ عديدة منه مُستعصية على كثير من الإسلاميين العرب وغير العرب. يورد النفيسي تساؤلاً مُحدداً وجهه إلى اردوغان ويورد الرد عليه، كما يلي:

«انت الان رئيس وزراء وبيدك كثير من النفوذ… وانا اتمشى في شوارع استانبول وأشوف المناظر المبتذلة التي تجرح الشعور الإسلامي فماذا انت فاعل بها؟… فقال: لا شيء. انا سأركز الآن على «شغلتين» (قضيتين) الشغلة الأولى الاقتصاد، كيف ننعش الاقتصاد التركي بحيث يتطلع إلينا المواطن التركي لأنه سيزدهر في ظل حكومتنا ويتطلع إلينا ونحن نضمن ولاءه المستقبلي. والشيء الثاني الذي سأركز عليه إعادة تركيا إلى العالم الإسلامي… والاتصال بالعالم الإسلامي. وأما ما تقول عنه من مظاهر فموجودة حتى في مكة أيام الرسالة المحمدية… ولذلك لم يبدأ بها الرسول بل بدأ بمهمات أكثر جسامة وأكثر أهمية. والكل يعرف (والحديث هنا للنفيسي) بأنه في مكة أنه كان هناك بيوت معروفه اسمها صاحبات الرايات وكذا لم يبدأ بهن صلى الله عليه وسلم، وانما بدأ في توكيد عقيدة التوحيد وتكوين النواة الإسلامية، الطليعة الإسلامية… فيقول اردوغان سوف ننهج هذا النهج». وهكذا تخلُص المدرسة السياقية في مقاربتها للواقع إلى نتائج وأولويات وتعاملات تفترق بشكل شبه تام عن تلك التي تظل المدرسة السلفية مهجوسة بها نتيجة تهميشها للسياق واولوياته.

إسلام فلسطيني ضمن إسلامات متعددة

سوف يرفض كثيرون حتى مجرد نحت واستخدام وصف «الإسلام الفلسطيني» على أساس المقولة النظرية بأن ليس ثمة إلا إسلام واحد. هذا الرفض «المبدئي النظري» لا ينفي الواقع المُعاش لتعددية الإسلامات في عالم اليوم (كما في تاريخ الإسلام والمسلمين الطويل). بشكل مُجمل ولاختصار نقاش ليس مجاله هنا، تتبنى هذه المقاربة مقولة إن الواقع والتاريخ والممارسة تشير كلها إلى اننا شهدنا تاريخيا ونشهد راهنا وجود إسلامات عدة وليس إسلاماً واحدا. في عالم اليوم تحديداً تبلور وعي وإدراك شعوب وكيانات مسلمة بذاتها على نحو جمعي مختلف ومتباين عن بعضها البعض، فنرى وعيا ذاتيا جمعيا بـ«إسلام ماليزي» و«إسلام سعودي» و«إسلام مغربي» و«إسلام سنغالي» و«إسلام اذربيجاني» و«إسلام تركي» و«إسلام امازيغي» و«إسلام إيراني» و«إسلام صيني» وغيرها كثير. تتوافق هذه الإسلامات على الجوهر العقدي، لكنها تتفارق في انتاج النمط الاجتماعي والتديني بما ينسجم مع سياقاتها. يتعقد السؤال حول الإسلام الواحد ذو المركزية الجغرافية عندما نستدعي الحديث النبوي ذا المركزية المفهومية الذي يقول «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» والذي تحولت مركزيته المفهومية إلى مركزيات حركية وحزبية، فاقمت من الاختلاف على تفسير نص هذا الحديث ومعانيه وانعكاساته. أثار ولا زال يثيرهذا الحديث جدلاً كبيرا يحوم جوهره حول «الفرقة الناجية» ومن هي وما هي صفاتها، وهل يؤخذ الحديث بحرفيته أم أن له تأويلات مغايرة. المهم هنا، وبعيداً عن الجدل الديني، هو التأكيد على أن هذا المدخل التعددي لفهم الإسلام من أبعاد عقدية وتفسيرية أُضيف اليه في العصر الحديث أبعادا جغرافية وإسلاموية حركية، الجغرافي ارتبط بـ«الدولة» الحديثة وكيانها واشتراطات هذا الكيان ومصالحه و«السيادة» التي هي عموده الفقري، والحركي ارتبط بتفسيرات الجماعات والتيارات والمدارس الفكرية الحركية الإسلاموية واحزابها.

تعدد الإسلامات ليس جديداً، فقد شهد التاريخ الإسلامي تعدد الخلفاء والأمراء والأمصار في آن واحد، وكل منهم ادعى بأنه «خليفة» المسلمين الشرعي والأحق بالبيعة والاتباع. بيد أن الجديد في تمثل «الإسلامات» الحديثة ينطوي على عناصر غير مسبوقة، أولها ان شرعية «الدول الإسلامية» الراهنة لا تقوم إلا بدرجات ثانوية على الدين أو الشريعة أو الادعاء بالخلافة وإمارة المسلمين، وتقوم بالدرجة الأولى والأساسية على مبدأ «السيادة» المُكتسب داخليا من خلال السيطرة على الجغرافيا والشعب، وخارجياً من خلال الاعتراف الدولي بهذه الدولة أو تلك واعتبارها عضوا في الأمم المتحدة. بعد شرعية السيادة تحتل «الشرعية الوطنية» التي تطورت وتعززت في «الداخل الوطني» مع عقود الاستقلال موقع الدرجة الثانية في شرعية الدولة. الشرعية الوطنية تُشير إلى أن الدولة هي تعبير وتجسيد عن الهوية الوطنية التي تم تصنيعها وقولبتها أصلا في بوتقة الدولة الحديثة، فالدولة الأردنية مثلا تمثل الهوية الأردنية وتكتسب شرعيتها من هذا التمثيل، وكذلك الدولة الموريتانية تتحصل على شرعيتها من خلال تمثلها للهوية الموريتانية، وكذا سائر الدول العربية والإسلامية. مع احتلال شرعية السيادة والشرعية الوطنية الموقع المتقدم في تأسيس وتعزيز الكيانات تتأخر الشرعية الدينية للدولة العربية أو المسلمة الحديثة إلى الدرجة الثالثة، وهي التي قد تتضمن الادعاءات بتمثيل الإسلام أو تسعى لتضمينه في الدستور أو تبني خطاب يدعي شرعية إسلامية إلى هذه الدرجة أو تلك. هذا الموقع المتأخر للشرعية الدينية في سلم شرعيات الدولة الحديثة، يُشير إلى مدخل مهم آخر لفهم تعدد «الإسلامات الوطنية» الحديثة بكونها خاضعة للتشكل وإعادة التشكل من قبل ديناميات أكثر قوة وتحكما وهي تُقولب هذه الإسلامات الوطنية بما يخدم هيمنة الشرعيتين الاوليتين: شرعية السيادة والشرعية الوطنية. لنتأمل كيف تتقولب وزارات الأوقاف وهيئات القضاء والافتاء ضمن إطار كل دولة، وكيف تشتغل كل هذه الاشكال الدينية لخدمة شرعية سيادة الدولة وتعزيز شرعيتها الوطنية بوعي ام بدونه. في المقابل، ليس هناك أي سيرورة مُعاكسة نرى من خلالها سيادة الدولة الحديثة (العربية والإسلامية) وشرعيتها الوطنية مُكرستين لخدمة شرعيتها الدينية أو تعزيزها أو منحها الأولوية.

كيف تطورت الإسلامات في سياقاتها الخاصة بها، وكيف تفترق عن بعضها البعض وكيف نتجت وضمن أية سيرورات ولماذا تباينت؟ الإجابة المُسهبة عن هذا السؤال تقع خارج هذه المقاربة، لكن يكفي هنا التأمل في آليتين أساسيتين وراء بروز إسلامات عدة وتباينها: الأولى متعلقة باشتغال السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتنوعة على إنتاج أنماط متعددة وأحيانا متباينة من التدين، بما يرافق ذلك من أنماط وتوجهات مختلفة من الفتوى. والثانية وهي الأهم بالنسبة إلى هذه المقاربة متعلقة بالآليات المباشرة وغير المباشرة التي من خلالها عملت تلك السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية على توظيف الدين لخدمة الاولويات الملحة على هذا المجتمع أو ذاك. بتوصيف آخر ملخص، السياقات الاجتماعية المختلفة أنتج كل منها إسلامه الخاص به أولاً، ثم وُظف هذا الإسلام في خدمة ما تراه من أولويات مجتمعية ضاغطة.

أثَّر الإسلام بكونه منظومة من القيم الدينية والدنيوية في بنية وتكوين مجتمعات البلدان التي دخلها، وفي نفس الوقت تأثر الإسلام نفسه بالسياقات التاريخية والاجتماعية لتلك البلدان، وأعاد انتاج ذاته وفق البيئات المُختلفة. ومن خلال التأثير والتأثر والتكيّف على مدار قرون تماهى الإسلام مع الثقافات المحلية بشكل عضوي، بما منحه مذاقات مختلفة حسب الجغرافيا والبلدان والازمنة. وقد واجهت المسيحية نفس هذه السيرورة حيث تماهت التعاليم المسيحية مع العادات والتقاليد المتباينة وانتجت مذاقات والوان مختلفة من المسيحية (الاوروبية، والافريقية، والآسيوية، والعربية، والأمريكية اللاتينية، وهكذا). وتختلف البوذية الصينية أيضا عن البوذية الهندية وكل منهما يختلف محليا عن البوذية البورمية أو التايلاندية. أتباع كل واحد من هذه المعتقدات يجادلون بأن المبادىء الأساسية للمعتقد هي واحدة، لكن هناك تلاوين وتباينات محلية مختلفة الدرجة وتطال عموما الشكل العام والتمظهرات الخارجية وليس الجوهر. في المُجمل إذا، تشير السيرورات التاريخية وشواهدها إلى أن المجتمع وتدافعاته واحتياجاته وأولوياته هي التي تستدعي النص وتتفاوض معه وتأخذ منه ما تريد من عناصر بالحجم والدرجة التي تريد، وتؤخر أخذ عناصر اخرى لا يلح عليها سياق الواقع. في هذه الحالة والتي يبدأ فيها اتجاه العلاقة من الواقع ويذهب نحو النص تنتج لدينا حالة فيها إسلام مخصوص مُعتدل (الإسلام المغربي، أو الإسلام الاندونيسي، الخ). في الحالات التي يكون فيها اتجاه العلاقة بين الإثنين معاكسا، أي يبدأ من النص ويذهب نحو الواقع، وحيث يعمل النص على احتلال الواقع ويسيطر عليه من دون اية اعتبارات ظرفية فإننا نلحظ انتاج حالات إسلام مخصوصة متشددة وأكثر انغلاقا (الإسلام السعودي-الوهابي، الإسلام الايراني-الخميني).

في ضوء النقاش أعلاه، نواجه فلسطينيا، السؤال التالي: هل هناك إسلام فلسطيني متميز يأخذ بالاعتبار آليات السياق وانتاجه لنمط دين معين، وآليات توظيف السياق للدين بغية خدمة الأولويات الملحة، وهل ما نراه راهنا في فلسطين أو بين الفلسطينيين من أنماط تدين أو أسلمه تتسق مع ضرورات وأولويات السياق الفلسطيني؟ وإذا كانت الإجابة سالبة بمعنى عدم وجود «إسلام فلسطيني» مُتميز الملامح وناتج عن السياق الفلسطيني ويخدمه بالشكل الأقصى فلماذا غاب هذا الإسلام من ناحية موضوعية، ولماذا تُلح الحاجة على وجوده من ناحية معيارية ووظيفية؟

الإسلام الحركي وتغييب الإسلام الفلسطيني

يغيب الإسلام الفلسطيني في الوقت الراهن بسبب وطأة ونفوذ تمثلات الإسلام الحركي، الإخواني والسلفي تحديداً، والذي تمدد وسيطر خلال العقود الأخيرة. ويرتبط هذا الإسلام الحركي في فلسطين وتمثلاته بشكل عضوي وعميق مع الإسلامات الحركية التي نشأت في المنطقة وسبقته، بل وأنتجته، ولهذا من المهم العودة إليها ومتابعة تطورها وكيف انتجت إسلاماً حركيا في فلسطين كما أنتجت إسلامات حركية في بلدان أخرى. وفي تتبع نشوء وتطور الإسلامات السياسية الحركية في المنطقة العربية تحديدا يمكن التفريق بين مجموعتين: «إسلام حركي مُؤسس» و«إسلام حركي تابع». المجموعة الأولى من الحركات الإسلامية الحركية هي «التشكيلات المُؤسسة» التي قامت وتطورت وفق شروط سياقها السياسي والاجتماعي الخاص بها، وكان نشوؤها مرتبطا عضويا وآليا بظروف ضاغطة أو ذات خصوصية مُتعلقة بالزمان والجغرافيا، وامتلكت هذه التشكيلات قوة فكرية ونفوذا تأثيريا أهّلها لـ«تصدير» افكارها ومنهجها وآلياتها. أما تشكيلات «الإسلام الحركي التابع» فهي بالمُجمل لم تتطور طبيعيا وعفويا نتيجة سياقاتها الخاصة بقدر ما كانت انعكاسا محليا لما نشأ ونمى في الخارج، أي لتطور المجموعة الأولى المُؤسسة، وتقليدا لها أو استيرادا لأفكارها، وحاولت تطبيق ما استوردته من أفكار في سياقاتها المحلية الخاصة فيها. لا يعني هذا عدم اشتغال السياقات المحلية المحيطة بالحركات والمجموعات التابعة أو إغفال أي دور لها، بل المقصود الإشارة إلى ثانوية دور تلك السياقات الذاتية مقارنة بدور التأثير الخارجي، وآليات «استيراد» أفكار واستراتيجيات الإسلام السياسي الذي كان قد تولد في بلدان «التصدير» وأنتج «التشكيلات المُؤسسة» الأولية. نحن إذن أمام سيرورتين من الإسلام السياسي، واحدة انتجت إسلاما سياسيا مُؤسِسا وسياقيا وثانية انتجت إسلاما سياسيا تابعا غير سياقي ـ مع التشديد على أن توصيفات «مُؤسس» و«تابع» في هذا السياق هي أوصاف موضوعية محايدة وليست معيارية أو حاملة لأية أحكام مُسبقة. وإزاء هذا الترسيم الثنائي يتموضع الإسلام السياسي الحركي في فلسطين وخلال الشطر الأطول من تجربته وأفكاره وممارساته في موقع التشكيل التابع.

احتل صدارة «الإسلام الحركي المُؤسس» تشكيلان أساسيان هما «الإخوان المسلمون» المصريون والسلفية الوهابية السعودية. حالة «الإخوان المسلمون» كانت وليدة السياق الخاص بها منذ التأسيس في نهايات عشرينيات القرن الماضي، وظلت متفاعلة مع ذلك السياق ومُستجيبة له ومُنخرطة فيه، وكان ذلك أحد اهم أسباب نجاحها وتصاعد نفوذها منذ عقد التأسيس وحتى الآن. واحد أوجه النجاح ذاك تجسد في تصدير فكرتها إلى البلدان العربية وتأسيس فروع للإخوان المسلمين (إسلام حركي تابع) في بلدان مجاورة منها فلسطين، وهي فروع لم يحظ أي منها خلال عقد التأسيس بنفس الفاعلية أو النجاح الذي شهده التشكيل المُؤسس، وذلك بسبب الاغتراب الجزئي لهذه الفروع عن سياقاتها المحلية أو عدم تطورها عفويا ضمن تلك السياقات. ظل التنظيم المُؤسس طاغيا على الفروع فكريا وسياسيا وقياديا. ومع مرور عقود من الزمن وبرغم انخراط كل فروع الإخوان المسلمين فيما أشبه بتنظيم عالمي، إلا أن السمة المصرية لم تفارق الحركة المؤسسة الأم، وظل المرشد العام للإخوان المسلمين في العالم مصريا حتى عندما توافقت كل تنظيمات الإخوان على عضوية «التنظيم الدولي» لسنوات عديدة قبل أن يتم حله بشكل نهائي. فلسطينيا، تأسس فرع للإخوان المسلمين بعد زيارات متعددة من إخوان مصر لفلسطين في القدس في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، كما أُنشأت انوية وممثلين لهم في مدن فلسطينية عديدة. وبرغم هذا الحضور المُبكر للإسلام الحركي في القدس إلا أنه غاب عن الساحة السياسية والنضالية في العقود التالية، والسبب في ذلك غلبة تكوينه التابع فكريا ومفهوميا للخارج، والذي أنتج انقطاعا عن أولويات السياق الفلسطيني التحرري إذ انغمس في مسألة الدعوة الدينية والأسلمة الاجتماعية مُقلدا التنظيم الأم المُؤسس. ولم يبرز الإخوان المسلمون الفلسطينيون في المشهد الوطني النضالي بشكل حقيقي الا بعد تحول الجماعة إلى حماس في أواخر 1987 وتبني المقاومة، وهو التبني الذي منح شرعية محلية ووطنية وسياقية للإسلاميين الفلسطينيين وزحزح مواقعهم من مربع «التابع» إلى مربع «المؤسس».

«الإسلام الحركي المُؤسس» الثاني هو «الإسلام السياسي السعودي (الوهابي السلفي بتنويعاته المختلفة)» والذي تطور أيضا ضمن سيرورة داخلية تعود جذورها إلى التحالف التأسيسي بين رجل الدين محمد بن عبد الوهاب ورجل السياسة والقبيلة محمد بن سعود في نهايات القرن الثامن عشر، وظل مُستمرا إلى وقتنا الراهن. أهمية هذا «النموذج» تمثلت في قوته المفهومية التي منحت شرعية لنظام الحكم في السعودية، ثم في الخليج بعامة، وفي تمثلاته وتنوعاته السلفية الفرعية التي تطورت وانتشرت وتم تصديرها إلى الجوار والخارج. في عقود لاحقة تطور الإسلام السلفي بعيدا عن الوهابية المتحالفة مع أنظمة الحكم، وأنتج جماعات وحركات شديدة التنوع ومختلفة التوجهات، وأكثرها حضورا كان القاعدة وداعش. لكن وبالتوازي مع الحركات العنيفة تطورت سلفية فكرية مسلكية نصية مُتولدة عن السلفية الوهابية الأم، وانتشرت في البلدان العربية (من الأعلى للأسفل) ولم يكن نشوؤها سياقي النزعة، لكنها اتسمت بسلطتها الفكرية والنصية. ازداد نفوذ المدرسة السلفية الفكرية في طول وعرض العالم العربي والإسلامي، وادعت أنها تمثل «الإسلام العقدي النقي» وشنت حملات فكرية واتهامية متواصلة ضد كل جماعات الإسلام السياسي الأخرى، مُتهمة إياها بتشوه عقائدها. استفادت الجماعات السلفية من دعم مالي شبه رسمي وتبرعات قادمة من دول الخليج وانشأت مؤسسات وشبكات وبنية اجتماعية ودينية ساهمت في نشر نمط تدينها. لكن كل التشكيلات السلفية خارج السعودية والخليج يمكن إدراجها في صنف «الإسلام الحركي التابع» الذي استورد ثقافة دينية من خارج السياق المحلي. والنقطة الأخيرة هذه مهمة وتساعدنا في تأمل وتحليل الفضاء الديني في قطاع غزة على وجه التحديد والذي تطور في حقب الخمسينيات والستينيات والسبعينيات في اتجاهات أنماط تدين اخوانية، ثم اتجه نحو أنماط تدين سلفية منذ حقبة الثمانينيات فصاعدا بسبب التأثير السلفي المستورد إلى القطاع عن طريق خريجي الجامعات السعودية والتبرعات والمؤسسات والجمعيات الدينية التي بنيت عن طريق المساعدات السعودية والخليجية. والشيء المُلفت للانتباه في تحولات الدين والتدين والسياسة في قطاع غزة تحديدا هو سيرورة «سلفنة الإخوان وحماس» وهي السيرورة التي تشير إلى التحول الكبير الذي وقع في الثقافة الدينية لدى الإخوان المسلمين وحركة حماس، والانتقال من ثقافة الإخوان المسلمين المصريين إلى ثقافة الإسلام السلفي السعودي. فضلا عن انتشار أفكار المدارس السلفية وتأثيرها على قطاعات اخوانية عريضة، يمكن ملاحظة بعض مظاهر هذا التحول إلى الثقافة السلفية الوهابية في مستويات لبس النقاب في قطاع غزة في أوساط المتدينات أو بعض ملابس الرجال ايضا، وهي تأثيرات سلفية وليست اخوانية الأصل. يُضاف إلى ذلك الموقف من الموسيقى والاغاني ومصافحة النساء والاختلاط وغيره من مسلكيات كان الموقف الإخواني ازاءها اقل تشددا من الموقف السلفي. مثلا، ورد في كتابات عدة أن عمر التلمساني، المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر في أواخر السبعينيات، كان يستمع إلى أم كلثوم ويطرب لها، وصرح في أحد اللقاءات بأنه كان يعزف على العود ويحب الاستماع إلى الموسيقى. وفي ثمانينيات القرن الماضي وفي لقاء حضرته شخصيا في الجامعة الاردنية مع الدكتور عصام العريان، وكان أحد أهم القيادات الإخوانية الجامعية والنقابية آنذاك، قال إ ن النقابات المهنية والطلابية التي يسيطر عليها الإسلاميون في مصر تنظم رحلات سياحية محلية مختلطة يشارك فيها الشباب والفتيات، ولكن ضمن الأطر الأخلاقية التي يحترمها الجميع كما شدد. هذه المواقف (والرحلات) لا يمكن تخيل حدوثها في الأطر الحركية الإخوانية الغزاوية تحديدا والفلسطينية عموماً والتي «تسلفنت» ثقافتها مع الزمن.

خلاصة ما سبق تشير إلى أن الإسلام الحركي المُستورد، الإخواني والسلفي، همّش فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني عقودا طويلة وأجل الانخراط في «الحرب» وانخرط في معارك مسلكية ومظهرية طويلة على حساب النسيج الاجتماعي، وقدم مسوغات دينية لتهميش الانخراط في مواجهة إسرائيل. في الحالة الإخوانية امتد ذلك التهميش إلى أربعة عقود وهي التي تلت تأسيس الإخوان المسلمين الفلسطينيين وانتهت مع بروز حماس سنة 1987، وكان المسوغ هو ضرورة إعداد الأجيال المؤمنة قبل خوض المعركة مع العدو. في الحالة السلفية تواصل التهميش إلى يومنا هذا منذ بروز الانوية السلفية الأولى في المشهد الفلسطيني مع أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وعبر مسوغات قريبة من تلك الإخوانية، منها أولوية تطهير المجتمع وأسلمته، وأضيف إليها إيلاء قرار إعلان الجهاد إلى «ولي الأمر». حالة حزب التحرير في فلسطين قدمت نموذجا مشابها وإن كان مختلفا من زاوية انتمائه إلى صنف «الإسلام الحركي المُؤسس» وليس التابع، بكونه تأسس في فلسطين، لكن المفارقة في حالة هذا الحزب أن نشوءه وأفكاره المُؤسسة قفزت عن السياق الفلسطيني تماما، واتجهت نحو «الأمة» وهكذا فقد أهمل الحزب ايضا فلسطين وقلب الأولويات واعتبر أن الأولوية الأهم هي استعادة الخلافة الإسلامية، وأحال إلى الخليفة المنتظر مهمة تحرير فلسطين. وهكذا نلحظ ومن خلال تهميش السياق الفلسطيني وتقديم أولوية تقليد الإسلام الحركي المُؤسس في الخارج (وخاصة تطهير المجتمع والانخراط في الأسلمة) كيف أن الإسلام الحركي في فلسطين ظل تابعاً لمقولات وأفكار وآليات خارجية لا تخضع للأولويات الفلسطينية ـ مواجهة الاحتلال وإنجاز التحرير.

معالم الإسلام الفلسطيني

انطلاقا من النقاش السابق، يمكن الانتقال خطوة إلى الأمام نحو محاولة تعريف الإسلام الفلسطيني المنشود وتحديد معالمه الرئيسة. وعليه، يمكن القول بأن الإسلام الفلسطيني هو الذي يضع أولوية السياق الفلسطيني الاجتماعي الوحدوي والاحتلالي – التحرري فوق أية أولويات دينية أخرى، ويعمل على تحويل التدين العادي، وتحوير التدين المسيّس، وتأويل النص الديني، لتكون هذه جميعا في خدمة مشروع التحرر من الاحتلال والصهيونية، وفي خدمة تقوية النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتكريس الهوية الفلسطينية مقابل محاولات محوها، وتعزيز صمود الشعب والافراد الموجودين فلسطين، وتقوية انتماء الشعب والافراد الموجودين خارج فلسطين وربطهم بها. هذا التعريف يعني ان نتعقل الإسلام الفلسطيني ونتعرف على سماته الأهم من خلال تموضع فلسطين والشعب الفلسطيني في القلب من حركته وديناميته وتفاعلاته. الإسلام الفلسطيني يقيس الأمور والحوادث ويعالجها بناءً على قاعدة فقهية تنطلق أولا وأساسا من السياق الفلسطيني الذي هو سياق تحرري من الاحتلال الاستعماري ونيل الحرية، وبما يستلزم ذلك من بنية وطنية مُوحِدة وليست مُفتِتة، والدين الذي يطرحه الإسلام الفلسطيني هو الدين الذي ينخرط في هذا السياق التحرري ويخضع له ويخدمه. في تفصيل هذا التعريف يمكن الاجتهاد في طرح بعض مكونات ومعالم الإسلام الفلسطيني، أدناه، وهي ليست حصرية بطبيعة الحال ومفتوحة للجدل والنقاش والاضافة:

المعلم الأول ـ الفقه السياقي. المحرك المفهومي والفقهي للإسلام الفلسطيني بشكل عام وأولي هو الفقه السياقي والمصلحي الذي يتفاعل مع الواقع وأولوياته بشكل أساسي ويؤول النص لخدمته، ويرفض الرؤية السلفية المُنقادة بعماء وراء النص المُصمت المتجاوز والمتعالي عن الواقع. علماء الدين الفلسطينيون عليهم مسؤولية وطنية ودينية للاشتغال في هذه المساحة وتأصيل فقه الأولويات الفلسطيني، وهذا كله يحتاج إلى إغناء ورعاية وابداع.

المعلم الثاني ـ حق البقاء وحق العودة: الإسلام الفلسطيني تقوده في داخل فلسطين بوصلة تعزيز «حق البقاء» وتقوده في أوساط الشتات الفلسطيني بوصلة تعزيز «حق العودة» والارتباط بفلسطين. معنى ذلك، أن نمط التدين والفتاوى وردات الفعل الدينية وغيرها من تمظهرات الدين يجب أن تخدم هاتين البوصلتين: البقاء والصمود في الداخل، وحق العودة والارتباط في الخارج. الإسلام الفلسطيني ضد الفتاوى وأنماط التدين التي تفاقم من ضنك عيش الفلسطينيين وتُساهم في خلق بيئات طاردة ومنفرة خاصة في أوساط الأجيال الشابة التي تتطلع أصلا للهجرة إلى خارج فلسطين. وفي أوساط الشتات، يرفض الإسلام الفلسطيني الفتاوى الدينية والسلوكيات التي تعمل على تجزئة الجاليات الفلسطينية وخلق غيتوات منفصلة عن بعضها البعض. إن معيار وطنية الإسلام الفلسطيني والمسيحية الفلسطينية على حد سواء هو العمل والانضباط وفق هاتين البوصلتين المذكورتين.

المعلم الثالث ـ الاستيعاب والتعددية: الإسلام الفلسطيني تعددي ومنفتح ويتضمن كل الممارسات الشعبية المتوارثة التي حفظت تقاليد فلسطينية سمحة وعززت علاقات الناس بعضهم ببعض من جهة، وعلاقتهم بالأرض والتاريخ من جهة اخرى، ومن ذلك الطرق الصوفية وأية ممارسات دينية أخرى. هذا الاختلاط بين ما هو شعبي وديني وطقوسي يحافظ على التواريخ الصغيرة التي هي في غاية الغنى والأهمية ولعبت وتلعب دوراً مركزيا في تثبيت السردية الفلسطينية الكبرى وتعزز الطبيعة العضوية لارتباط الشعب والأفراد بالأرض. حملات الإسلام السلفي النصي على تلك الممارسات خلال العقود الماضية أسهمت في تفكيك المجال الديني وتذريته والانقطاع عن مواريث تؤكد على تواصلية الوجود الفلسطيني في الأرض، وعملت على تخليق حالات من الحيرة الشعبية وفقدان البوصلة والولاءات.

المعلم الرابع ـ التعايش مع عدم التدين: الإسلام الفلسطيني مُعتدل ومتعايش ليس فقط مع المسيحية والمسيحيين، بعفوية ومن دون تكلف وادعاء، بل وأيضا مع غير المتدينين، يعترف ويتعايش مع العلمانيين الفلسطينيين ولا يتهمهم في فلسطينيتهم ووطنيتهم، ولا يفتح معارك مسلكية معهم. هناك شرائح عريضة من الشعب الفلسطيني غير متدينة وهذه الشرائح الغالبة لا يشكك الإسلام الفلسطيني في جوهر انتمائها لفلسطين وهويتها الفلسطينية بسبب عدم تدينها، فالتدين أو عدم التدين هو ممارسة فردية يجب ان تُحترم في الحالتين. والإسلام الفلسطيني يتعايش مع الحالات كلها ويحتضنها وإن كان ليس مطلوبا منه قبول أو تشريع ممارسات غير المتدينين، لكنه لا يتوقف عندها ولا يعتبرها مركزية ولا يشن حروبا عليها.

الحوادث الثلاث وموقف الإسلام الفلسطيني

حتى لا يظل النقاش محصورا هنا في الإطار التجريدي لنحاول مقاربة الحوادث الثلاث المذكورة في مقدمة هذه المُقاربة من خلال نمط الإسلام الفلسطيني المُتخيل والمُقترح، على خلاف ما شهدته تلك الحوادث من تعامل هيمن عليه نمط الإسلام السلفي النصي. في المثال الأول، تهنئة المسيحيين، الإسلام الفلسطيني لا يطرح هذه المسألة أصلا، ويرفض حتى مجرد ابراز هذا الموضوع كأمر يستدعي النقاش، لأنه يرى هذه التهنئة ومشاركة المسيحيين أعيادهم ممارسة تاريخية متواصلة وعفوية. والإسلام الفلسطيني هو استمرار لذلك التاريخ الثري والمشرق في سيرورته الأعرض، حيث تروي كتب التاريخ شواهد لا تحصى حول صور التعايش الديني العفوي المجتمعي والتي كانت تتفعل خصوصا في أوقات الأزمات، ومنها مشاركة المسلمين والمسيحيين في الحروب ضد الصليبيين مثلا، أو خروج المسيحيين واليهود مع المسلمين في صلاة الاستسقاء عقب فصول الجفاف في بلاد الشام ومصر، فضلا عن المشاركة في الأعياد والاحزان وسوى ذلك. فقه أولويات الإسلام الفلسطيني يعمل على تعميق العلاقة بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين، فضلا عن تبادل التهاني والمشاركة في الأعياد والمناسبات، لأنه يرى أن كينونة الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية هي المُستهدفة من قبل المشروع الصهيوني ودولته الاستعمارية. وقد اثبتت الاحداث ان الصهيونية وإسرائيل بإمكانهما التعايش والتطبيع مع صور متعددة من الإسلام (المُهادن) وأتباعه من المسلمين (بل واجتراح ما يُسمى بالدين الابراهيمي الذي يريد تخليق علاقة جديدة بين العرب والمسلمين وإسرائيل تتجاوز فلسطين وتشرعن وجود الدولة اليهودية إلى الأبد وعبر مقولات دينية «ابراهيمية»). تفتيت الفلسطينيين إلى مسلمين ومسيحيين ومحو «الهوية الفلسطينية» بكونها الكيان الجامع للطرفين يقدم خدمة كبيرة للمشروع الصهيوني وإسرائيل. وعلينا أن نتذكر أن الاستعمار البريطاني في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كان حريصا على تدمير أي كيانية فلسطينية أو أي تبلور لهوية فلسطينية وطنية، وكان يدعم ويقوي الجمعيات والهيئات التي تتخذ مسميات دينية، إسلامية أو مسيحية، لأن ذلك يساهم في تذرية فلسطين وسكانها، واعتبارهم منتمين لجغرافية عربية وإسلامية أو مسيحية واسعة محيطة بفلسطين، وبإمكانهم هجرة فلسطين والعيش مع إخوانهم المسلمين والمسيحيين في الأماكن المجاورة. معنى ذلك أن تعميق الهوية الدينية للفلسطينيين قد يكون على حساب هويتهم الوطنية الفلسطينية، وفي نفس الوقت فإن التشديد على الهوية الوطنية لا يتناقض مع الانتماء لمحيط إسلامي أوسع ولا يعني أبدا إضعاف التواصل معه. ما هو مهم هو نفي الخطاب والممارسة التي قد تؤدي إلى إضعاف الهوية الوطنية وبما يخدم العدو ويصب في طاحونة أهدافه. عندما تكون هذه الهموم والقضايا هي التي تقود الرأي الديني وتشكل بوصلة الإسلام الفلسطيني فإننا نصل إلى نتيجة مختلفة تماما عن تلك التي يصل إليها اتباع الإسلام الحركي النصي السلفي وجولاته الدائمة في بطون الكتب التراثية ليستل منها فتاوى ومقولات لم يعد لها علاقة بسياقات ومجتمعات المسلمين، فضلا عن المجتمع الفلسطيني، في الوقت الراهن.

الحادثة الثانية والمتعلقة بإقامة حفل فني في مقام النبي موسى والتوتر الذي أعقبها، يمكن مُقاربتها أيضا من منظور الإسلام الفلسطيني بطريقة مُختلفة تماماً. ابتداءً، كانت ردة الفعل الدينية القوية والغاضبة هي واحدة من تمثلات الإسلام النصي والسلفي الذي يسيطر على أجزاء مهمة وواسعة من الفضاء الفلسطيني. وقد تمثلت ردة الفعل تلك في طرد المشاركين وتعنيفهم وتشويه سمعتهم وتأليب الرأي العام ضدهم إلى درجة أن أجهزة السلطة الفلسطينية نفسها خضعت لذلك التأليب واعتقلت الفنانة الفلسطينية التي نظمت الحفل كما اشير سابقا. المنطق الذي اعتمد عليه مهاجمو الحفل اختصر المسألة كلها عبر عدة جمل تحريضية قصيرة وفعالة ومدمرة خلاصتها التالية: «حفل فجور وسكر ينظم في مسجد ومكان مخصص للصلاة». مثل هذه الأوصاف استثارت حفيظة الناس وأججت مشاعرهم الدينية، ولم يلتفت كثيرون لتفصيلات مُهمة تنفي أن الحفل نُظم في مسجد أو في مكان الصلاة. لكن لو فرضنا أن ما يسيطر على فضائنا الفلسطيني نوع آخر من التدين، تدين الإسلام الفلسطيني، والذي يرى الأمور ويموضعها من منظور وطني ويوسع من زاوية الرؤية لتوضحت أمامنا قصة أخرى، ولرأينا تعاملا يسوده روح الاستيعاب والتفهم أو حتى المعارضة لكن مع خطاب ومفردات مُختلفة تفرق بين المقام الواسع والمسجد المُحدد الذي هو جزء منه فقط. ولرأينا في قلب القصة كلها مسألة مواجهة التوسع الإسرائيلي الاستيطاني في منطقة أريحا والمناطق المجاورة لمقام النبي موسى. في تلك المنطقة الحساسة ليس هناك كثافة وجود فلسطيني وتحاول السلطة ويحاول كثير من الناشطين الوطنيين جهات مدنية متعددة إقامة فعاليات وأنشطة متواصلة في المنطقة لتكثيف الحضور الفلسطيني وتقليل احتمالات ضم الأراضي من قبل إسرائيل. ولا حاجة للقول بأن تواجد فلسطينيين أكثر في أراضي مناطق (ج) عموماً والمناطق المُستهدفة بالاستيطان يعزز من صمودها ويقلل من فرص استيطانها ومصادرتها. وهكذا فإن إقامة حفلات أيا ما كانت في جزء من الموقع السياحي غير المخصص للصلاة يصب في اتجاه تكثيف الحضور الفلسطيني في المنطقة برمتها وجذب شرائح مختلفة إليها، شبابية وغيرها. ومن هذا المنظور فإن الإسلام الفلسطيني سوف يرى أن تواصل هذه الحفلات والأنشطة في مقام النبي موسى هو المصلحة الحقيقية والتي تساعد في تثبيت الأرض لأصحابها. وما حدث خلال الهبة الدينية الكبيرة والغاضبة من ذهاب عشرات أو ربما مئات من المُستفزين دينيا للصلاة جماعة في المقام كان تعبيرا عن تحدٍ موجه إلى طرف وطني ولم يكن موجها إلى إسرائيل، بدليل أنه كان ظرفي ووقتي وانتهى في حينه. لا ينتفض الإسلام السلفي بنفس مستوى الغضب والشعبوية والتحشيد عند المساس بالأرض، لكنه ينتفض على مستوى عالٍ من تلك الحدة عندما يتم المساس بمسلكيات فردية أو جماعية يعتبرها أولويات.

الحادثة الثالثة هي تعميم القضاء الشرعي في غزة بشأن منع سفر الشباب والفتيات من دون اذن ولي الامر. من المهم هنا نقاش العقل الديني الذي صدر عنه التعميم وهو العقل السلفي النصي وعقل الإسلام غير السياقي. هذا العقل تصرف كما تصرف نظراؤه من عقول دينية تحاول مقاربة حوادث فردية عبر تعميم فتاوى تطال الجميع، من دون ان يكون للسياق الوطني الخاص دور في تشكيل تلك الفتاوى. قطاع غزة يخضع لحصار مجرم من قبل إسرائيل، ويختنق الناس فيه اقتصاديا واجتماعيا على كل المستويات، بما دفع منظمات الأمم المتحدة لنشر تقديرات قاتمة تشير إلى عدم صلاحية القطاع للعديد من جوانب الحياة البشرية في الوقت الراهن. وهناك حالة من الإحباط العميق خاصة في اوساط الشباب ناتجة عن القهر الذي يتعاضد في تفعليه الحصار الخارجي مع الضغوط الداخلية لتدفع حشود العاطلين عن العمل من الشباب للبحث عن الهجرة بأي طريقة، وترتب على ذلك تصاعد مؤسف في حالات الانتحار. ضمن سياق كهذا يجب ان تتجه جهود الإسلام الفلسطيني (وكل الجهود الأخرى بالطبع) نحو تخفيف الضغوط الداخلية وليس مفاقمتها عبر إصدار الفتاوى المُتشددة اجتماعيا ودينيا. ويجب أن تكون بوصلة الإسلام الفلسطيني خلق الظروف المساعدة على التمسك بـ«البقاء» وليس خلق ظروف طاردة للناس وبيئة مُنفرة. بالتوازي مع الخنق الاقتصادي الناتج عن الحصار الإسرائيلي تتحمل مناخات التدين المُتشدد والمغلق في قطاع غزة مسؤولية تفاقم الإحساس بالاغتراب لدى شرائح شبابية واسعة تتحين الفرصة لمغادرة الوطن. عوضا عن ملاحقة الشباب الفلسطيني والمرأة الفلسطينية بالفتوى والمعالجة الابتسارية، الإسلام الفلسطيني يعمل على زرع الثقة في أوساط هؤلاء لتحمل مسؤولياتهم الوطنية، وتذكيرهم بأن الشباب وتحديدا من هم في فئة العشرين كانوا دوما رواد النضال الفلسطيني ورائداته، ويندرج في هذه الفئة العمرية معظم مؤسسي حركات ومنظمات العمل الوطني والإسلامي، وبالتالي فإن هؤلاء الشباب في حاجة إلى إطلاق طاقاتهم وليس إلى تدمير شخصياتهم واعتبارهم قُصَّرا ومُتهمين وحبسهم بالفتاوى والإجراءات قصيرة النظر.

ليست خلاصة

ان الإسلام الفلسطيني واولويته السياق الفلسطيني الراهن ومركزيته التلاحم الشعبي الذي هو رافعة النضال ضد الاحتلال وإنجاز التحرير، ليس أطروحة رغبوية بعيدة المنال، فقد ساد هذا الإسلام في فلسطين في حقب ماضية، وبالإمكان استعادته. والاقتباس التخيلي في مطلع هذه المقاربة وفيه يصعد بطريرك مسيحي على منبر المسجد الأقصى ويلقي خطبة، ويتبعه إمام الاقصى يقود القداس في كنيسة القيامة ليس بعيدا عن واقع كان وبالإمكان البناء عليه. فهذه الصورة الافتراضية المُبتغاة ما هي إلا استمرار لما حدث فعلا وواقعا في النصف الاول من القرن الماضي من تاريخ فلسطين خلال حقبة مقاومة الاستعمار البريطاني والصهيونية معا كما تخبرنا روايات تلك المقاومة:

«… ومما يُستدل على مشاركة المرأة (الفلسطينية) الفاعلة، في تلك الفترة، تلك المظاهرة الاحتجاجية، على زيارة مسؤولين بريطانيين، والتي قامت بها نساء فلسطين رغم الأمطار الغزيرة يوم الجمعة ١٥ إبريل العام ١٩٣٣م، والتي تحدين فيها أعين البوليس البريطاني المتربصة… سارت المظاهرة إلى مسجد عمر، وقامت سيدة مسيحية ولأول مرة في التاريخ بإلقاء خطبة من على منبر المسجد، وهي السيدة متيل مغنم، وحين واصل الموكب مسيرته إلى القبر المقدس، قامت سيدة مسلمة وهي السيدة طرب عبد الهادي، بإلقاء خطبة امام قبر المسيح، ما يدل على وعي عميق ورؤية ثاقبة للحركة النسائية المدينية في تلك الفترة..».

منذ عشرينيات القرن الماضي رسمت نساء ورجال القدس وفلسطين معالم الإسلام الفلسطيني مبكرا، في تأكيد على أنه ممارسة واقعة وليست خارج الحقيقة والتحقق، وبالإمكان العودة إليه واحتضانه برغم كل التحولات التي أحدثتها الإسلامات الحركية السلفية. وفي تاريخ قريب جدا أعادت انتفاضة القدس في أيلول (سبتمبر) سنة 2017 إحياء بعض معالم الإسلام الفلسطيني حين تشارك مسيحيو ومسلمو القدس، متدينهم وغير متدينهم، في الدفاع عن الأقصى ورأينا كيف «… تجسد التدين الوطني في صور مُذهلة أهمها الاندفاعات الشعبية المتواصلة التي تحلقت حول الحرم القدسي باعتباره رمزاً وطنياً جسد عدالة قضية فلسطين، وكشف عن بقاء ديمومة النضال لأجل تلك العدالة وسط الأجيال الشابة العريضة التي راهنت إسرائيل على أنها قد نسيت القضية وعدالتها. تجسد التدين الوطني في ألوف الشباب غير المتدينين الذين التحقوا بالصلوات الخمس وهم في سراويل جينز ممزقة وبعضهم بقصات «شعر المارينز» وبعضهم لا يعرف كيف يصلي اصلاً، وذلك كله في تعبير وطني لا يحدث إلا بعيداً عن سماجات القيادات الرسمية أو التدين المتعصب الذي لا يقبل هؤلاء الشباب في صفوفه. بل وأكثر من ذلك تجسد التدين الوطني مقدسياً في التحاق مسيحيين في صفوف الصلاة المقدسية يقفون كتفا بكتف إلى جانب مقدسيين آخرين تصورهم الكاميرات وتقلع بصورهم تلك عين السلاح الإسرائيلي الذي وقف مشلولاً أمام الإرادة الجماعية». نحن اذن لا نتحدث عن خيال بعيد التحقق، فأطروحة «الإسلام الفلسطيني» تحضر في ومضات عابرة لكنها سرعان ما تخبو تحت وطأة هجومات الإسلام الحركي متنوع المصادر والحمولات الفكرية. آن الأوان أن يعود لفلسطين إسلامها النابع من سياقها والحاضن لمجتمعها على قاعدة وحدة النسيج الوطني ووفق آليات وسمات يفرضها السياق الفلسطيني ذاته، ليصير ممارسة يومية وعفوية وليست مناسباتية أو افتعالية أو عابرة.

كاتب وأكاديمي فلسطيني