سكاكين الغدر تنتصرُ على محابر العلماء وسيوف المقاومين

ثقافيا وتوثيقيا، تعكس رواية "وادي الحطب" الجدل الموريتاني حول التاريخ الشفهي والمكتوب لموريتانيا وشعبها، وانشدادات ذلك الجدل بين تاريخ يكتبه "نبلاء البيظان"، وآخر يطالبُ به المهمشون والسود والطبقات الدنيا.

الكاتبة ، الكاتب: خالد الحروب

تاريخياً وسياسيا، لا يمكن اعتبار هذا النص تأريخا لرد فعل و«عدم مقاومة» الموريتانيين للاستعمار الفرنسي، ففي ذلك ظلم لآلاف الشهداء والأبطال الذين سُجلت مآثرهم في مدونات التأريخ الشعبي والشفهي أولاً، ثم الرسمي ثانيا. تُسجل الرواية ووقائعها وتصويراتها وخيالها ما كان يحدث في صف «الخونة» والمتعاملين مع الاستعمار، لا ما كان يقع في صف المقاومين.



فنيا وروائياً، يقدم الشيخ أحمد البان مؤلف «وادي الحطب» تجريبا مُبدعا في إثارة توتر عميق بين اللغة والحدث، ظل يتطور في انفصال صاخب بين الاثنين حتى النهاية. يتكثف ذلك في دراما تصوغ صدامات ادعياء النبالة مع المهمشين في مساحة تناقض مُصاغ بإبداع، بين عراقة وجمال تصاوير اللغة، وبشاعة ما تصف من ثلاثية استعباد وطبقية واستعمار، نسجها الغدر والاحتقار والخنوع. جزالة السبك، وسلاسة التوصيف، ورشاقة الجمل، طوعت ما قد يستغلق من وعورة أسماء الناس والأماكن والأشياء على من هو قليل معرفة بالمناخ الموريتاني، ولعبتْ اللغة في هذا العمل الصادم وظيفة المِثال العالي مُنتَجاً من تاريخ وثقافة «المحظرة» الموريتانية.



يطوي القارئ فصول الرواية مُحتارا، شغوفا، مُحباً، ناقماً، مصدوماً، متأملاً، وفي النهاية مُحبطاً إذ تنتصر سكاكينُ اللاهثين وراء المشيخات، على محابر علماء المحاظر وسيوف المقاومين. انقبضتْ، على الأغلب، قلوبُ قراءٍ كثر وهم يقلبون الصفحات الأخيرة من الرواية، وميلان ميزان البطش والظلم والإجحاف والخديعة والعنصرية يزداد انحدارا. لم يتبدَ في أفق الختام أي ملامح لتعديل أنصبة البشاعات وهي تطحن ما تبقى من رجاء.



إمعانا في تكريس التناقض، أوكلَ الراوي للمسحوقين والمنبوذين أو للنساء في مجتمع «وادي الحطب» مهمات المروءة الحقيقية، بينما صلَبَ «الأسياد» وشيوخ القبائل ومُدعي المجد على شواهدَ النذالة. ظل قلبُنا معلقا مع «امبيريك» العبد المُسترق والمخطوف طفلا من قبيلته الافريقية، ومع «لمعيدل» أكثر رجال المجتمع شهامة وجسارة ونقاء، و … المهمش طبقيا، ومع «تربة فال» الزوجة الجميلة، وذات الروح النقية إذ أذهلَ عقلها غيابُ زوجها. هؤلاء من بقوا على الحياة، لكن داستهم أقدام الغادرين. قلة من النبلاء كانوا أيضا في صف النقاء، وظلوا مُقادين بالمروءة مثل، شيخ المحظرة «لمرابط ولد اتلاميد» وتلميذه النجيب «لمرورح». الأول قُتل غدرا بعد أن أوهمنا النص بأن رايات المقاومين تتجه لتسير خلفه، والثاني وهو القيّم شبه الأخير على المروءات المغدورة لم يسمح له الراوي بأن يلتقط عهد شيخه المخدوع، ليفلح الأرض التي أجردت.

نقلبُ الصفحة الأخيرة والرقيقُ ما زال مُسترقاً، والاستعمار ما زال سيداً، وخُدامِه من شيوخ القبائل ما زالوا راكعين له. الغدر والبشاعة انتصرا. لا مساحيق في هذه الرواية، ولا محاولة لتخفيف وطأة القبح. كلَحُ الوجوه ظل يزداد من البداية إلى النهاية.



نحن هنا في ناحية ما في الجنوب الموريتاني، في ما حدده البان بـ«وادي الحطب» الواقع في منطقة تامشكط، وكلاهما جزء من أفله، والزمن أربعينيات القرن الماضي، والاستعمار الفرنسي يتحكم في طول وعرض الصحراء وأهلها وقبائلها، شمالا نحو نواكشوط وشنقيط ثم المغرب، وجنوبا إلى مالي والسنغال وسواهما. ناس المكان تتوزعهم قبائل ومشيخات متصارعة، العرب «البيظان» هم الطبقة الأعلى اجتماعيا يعتاشون على أملاكهم من الإبل والماشية، والعبيد «السودان» هم الطبقة الأسفل، استرقتهم القبائل، إما عبر غزواتها على نواحي السود الافارقة، أو من خلال شرائهم. البيظان أنفسهم ينقسمون إلى أشراف وآخرين، ومنهم الـ»حراطين» و«لمعلمين» من أصحاب الصناعات اليدوية المتنوعة ـ والمرذولة.

قلة من النبلاء كانوا أيضا في صف النقاء، وظلوا مُقادين بالمروءة مثل، شيخ المحظرة «لمرابط ولد اتلاميد» وتلميذه النجيب «لمرورح». الأول قُتل غدرا بعد أن أوهمنا النص بأن رايات المقاومين تتجه لتسير خلفه، والثاني وهو القيّم شبه الأخير على المروءات المغدورة لم يسمح له الراوي بأن يلتقط عهد شيخه المخدوع، ليفلح الأرض التي أجردت.

 

"قلة من النبلاء كانوا أيضا في صف النقاء، وظلوا مُقادين بالمروءة مثل، شيخ المحظرة «لمرابط ولد اتلاميد» وتلميذه النجيب «لمرورح». الأول قُتل غدرا بعد أن أوهمنا النص بأن رايات المقاومين تتجه لتسير خلفه، والثاني وهو القيّم شبه الأخير على المروءات المغدورة لم يسمح له الراوي بأن يلتقط عهد شيخه المخدوع، ليفلح الأرض التي أجردت."

 

اللغة والحدث

«خطري» واحد من مقاومي «حكم النصارى» تختفي آثاره على نحو غامض في بدايات الرواية، واكتشاف مصيره حبكة النص، وحوله تدور الأحداث بما فيها انتظار زوجته «تربه فال» ولملمتها لخيوط اختفائه. ما يُعقد مهمتها أن شقيقها «إمهادي» هو المسؤول عن اختفاء زوجها، وهو أيضا متحالف مع «النصارى وأعوانهم» الذين نصبوه شيخا على القبيلة ينفذ إرادتهم، وصار «يستمد قوته من هيبة النصارى في قلوب العامة». حصل امهادي على ثقة الفرنسيين فعينوه «شيخ عامة» على بقية شيوخ بطون القبيلة الستة، وكان حريصا على المحافظة على ثقتهم به عبر التمادي في تنفيذ طلباتهم. يتحدث الناس أنه حصل على ثقة الفرنسيين عن طريق تزويدهم بكثير من المعلومات الدقيقة عن المقاومين، وعن ناهبي قوافل ومتمردين على الدارة الفرنسية، وهي المعلومات التي قادت إلى اعتقال كثير منهم. علاقته مع المستعمر الفرنسي كانت سبب خلافه الكبير مع «خطري» الذي ينظر له الناس باحترام كبير، ويرونه الأحق بتزعم القبيلة، ولهذا تعاون مع الفرنسيين على خطفه وإزاحته. «سلماتي» شقيق «خطري» يُشرع في البحث عن شقيقه في كل الاتجاهات، لكن قائد المنطقة الفرنسي «موريه كزافييه» الذي «ينحدر من مدينة تولوز، وقد ثلم عقده الرابع بسنتين أو ثلاث…» اكتشف ولع «سلماتي» بمنصب شيخ القبيلة، فحوله إلى لاهث آخر خلفها، ينافس «امهادي» في خدمة مصالح الفرنسيين. يتحول أبناء القبائل الكبيرة من مرشحين شرعيين للزعامة، إلى دمى يتلاعب بها القائد الفرنسي، إذ يطلب منهم الركوع أمامه، ويجبرهم على التعري، ويكسر كرامتهم حتى لا يرفع أي منهم بصره في عين القائد. هؤلاء هم معسكر القُبح.



في معسكر النبل، هناك «العالية» الابنة الوحيدة ل «خطري» و»تربة فال» غزالة صحراء بريئة وجميلة، تعشق فتى المحظرة «لمرورح» الوسيم حافظ الشعر وبارع الإنشاد، وفارس النص المُنتظر. الاثنان كانا أمل القراء في مستقبل مختلف تنعطف فيه الرواية نحو مسار فجر جديد ـ لم يأتِ. معهما شيخ «محظرة الأنحاب» وهو «لمرابط ولد اتلاميد» الرافض لسيطرة الكفرة الفرنسيين، والمُبتعد عن كل ما له علاقة بهم. يعلّم طلبته كراهية هؤلاء الأغراب في المحظرة، التي يذهب إليها خيرة فتية القبائل وعمرها أزيد من قرن، وخرّجت قضاة فضلاء تداول الناس قصصا عنهم، وكيف أجبر بعضهم أمراء حسان على الإذعان لأحكامهم. من «نبلاء» الرواية أيضا «امبيريك» المُسترق الزنجي الذي ظل وفيا لـ»خطري» و»تربة فال» وكان قد جيء به إلى مضارب القبائل بعد خطفه وهو صغير.



خلال رحلات البحث عن «خطري» يمر «سلماتي» و«أمبيريك» بمضارب إحدى القبائل المعقود فيها عُرس يرقص فيه الناس، وينضم «أمبيريك» للراقصين بحركاته الجنونية السحرية، فيسلب عقل وقلب زنجية مُسترقة. تظل تسكن قلبه بعد أن يغادر… عشق لا أمل فيه! في ذلك العرس وغيره يدفعنا الشيخ احمد البان للتأمل في عادات وتقاليد تتجاور فيها التناقضات. نقرأ وصف «السهرة» بعد عقد القران: «انتهى لغط لحظات العقد الأولى لتبدأ السهرة الفنية، تحلق أولئك البدو بطريقة فوضوية، الرجال والنساء يلتصق بعضهم ببعض حسب خريطة الغرام، يجلس الرجل إلى جنب معشوقته أو زوجته، لا فرق، ففي عرصات الأعراس يرتفع الحرج. يرتفق العشيق جنب معشوقته، يقترب منها لكن دون ملامسة، أن فن المسافة البدوي، حالة من الاحتشام الموحي بالفسوق…».

القبائل والمشايخ

لكن ما نأمل أن يكون معسكر نبل، تدوس أطرافه مواريث العنصرية والعادات. ويفجعنا بخضوعه إلى صلابة التراتبية الاجتماعية، سادة، شيوخا، علية القوم، عبيدا، صناع حرف، حتى «لمرابط ولد اتلاميد» شيخ المحظرة الموقر يصادق على هذه التراتبية ويبررها دينيا، وينصح «لميعدل» صانع سكاكين الخشب والمُنتمي إلى طبقة من يعملون بأيديهم (بخلاف السادة ممن يملكون الإبل والمواشي ويعتاشون منها) ويقول له: «إن الصانع التقليدي إنسان خُلق قدراً لحرفة معينة، وإن الله خلق عباده بهذه المراتب، وعلى هذه الطبقات، وحين يتطلع صاحب مرتبة إلى أعلى منها يكون قد اعترض على قدر الله في الأرض، وفي ذلك ما فيه من سوء الأدب مع جلّ جلاله، فكما أن شريف النسب يزري به أن يمتهن حرفة الصانع، فكذلك يزري بالصانع أن يتطلع إلى مرتبة الشريف… إن الصانع التقليدي كماله في النقص، ونقصه يوم يرنو إلى الكمال».



الصراع الخفي والعلني كان دوما بين «خطري» و»امهادي» كل منهما يرى نفسه الأجدر في زعامة القبيلة. «خطري» رأى في معاداة الفرنسيين «طريق الشرعية» لتلك الزعامة، و»امهادي» رأى في مهادنتهم والتحالف معهم الطريق الأقصر للمشيخة. في الوسط تتوزع آراء آخرين إزاء هذا المُستعمر بين رافض جذري وقابل «براغماتي». يتجادل أحد حلفاء «امهادي» مع شيخ المحظرة «لمرابط ولد اتلاميد: «يا امرابطنا، لولا مجيء هؤلاء الكفار إلى هذه الأرض لما كنا آمنين على إنسان ولا دابة … هذا يا امرابطنا هو رأي كثير من علماء هذه الأرض، أنت وحدك من لا يوافق هذه الرأي». واذا لم تفلح الإشارات إلى مزايا وخدمات الفرنسيين، فإن التهديد بإجرامهم قد يكون أشد أثرا، وهو ما فعله «امهادي» مُحذرا «لمرابط ولد اتلاميد» بأن غضب الفرنسيين قد يجر على «وادي الحطب» أقصى العقوبات بما فيها «التسييب» والذي يعني استحلال الناس من قبل الفرنسيين واغتصاب النساء. أحد اهم «الاختبارات» التي يختبر فيها الفرنسيون «فعالية» زعماء القبائل، وإثرها يمنحونهم الثقة أمام الناس أو حرمانهم منها، هو «الحصرة» وهي الوقت الذي تأتي فيه القبائل بكل ناسها إلى منطقة محددة لـ»حصر» ممتلكاتهم من الإبل والمواشي ولدفع الضريبة السنوية عليها للفرنسيين (مقابل الحماية).



نعلم أن «خطري» تم خطفه ثم سجنه بترتيب بين «امهادي» والفرنسيين، وتتعلق آمالنا بإنقاذ «خطري» عن طريق مناصريه، لنكتشف أن القائد الفرنسي تمكن من شرائه أيضا، فينكسر آخر أمل بوجود قائد نبيل للقبيلة. جميعهم يدورون الآن في فلك «كزافييه» ويحاول كل منهم التآمر على شقيقه أو ابن قبيلته لإرضاء المُستعمر. حتى «المحظرة» وهي رمز الرفض المطلق للفرنسيين، تفتح أبوابها لزيارة رسمية لـ«كزافييه» بعد أن قتل شيخها «لمرابط ولد اتلاميد» بالسم.



صحيح أن معظم طلبة «المحظرة» رفضوا استقباله، لكن مجرد دخوله كان كسرا لرمز المقاومة. و«كزافييه» هذا هو الذي يختم الرواية ويدفعنا لتجرع مرارتها عبر ملاحظات أخيرة يكتبها في مذكراته، مؤرخة في 15 يوليو/تموز 1946 (وهي اول إشارة إلى زمن الرواية) في الصفحات الأخيرة منها، يقول فيها: «يمتلك إنسان الصحراء قدرة فائقة على التأويل والبحث عن المخارج الشرعية لتصرفاته، ومن خلال خبرتي عرفت أنه يمكن أن يتنازل عن أي شيء مهما كانت صرامة مواقفه منه في السابق، وأنه سيجد تأويلا شرعيا لذلك. إنه يجعل من التأويل قميصاً زليخياً يغطي به عيني ضميره اليقظ، كي يفعل في غفلته ما يشاء. إنه يخاف ضميره لكنه خبير بالتحايل عليه».

 

خالد الحروب

حقوق النشر: خالد الحروب 2021

خالد الحروب كاتب وأكاديمي فلسطيني.