معايير مزدوجة في تفسير القانون الدولي وحقوق الانسان

تُعد عملية برشلونه منذ منتصف التسعينات أهم مدخل للاتحاد الأوروبي للإنفتاح على بلدان حوض المتوسط. السلام والتجارة والمجتمع المدني هي الأهداف المركزية لهذه العملية. حوار مع أستاذة القانون الدولي في جامعة محمد الخامس آسيا بن صالح علوي

آسيا بن صالح علوي ورومانو برودي، الصورة: موقع الاتحاد الأوربي
آسيا بن صالح علوي ورومانو برودي

​​

ما هي الفوائد التي جلبتها عملية برشلونه لدول شرق وجنوب حوض البحر المتوسط؟

آسيا بن صالح علوي: النتائج التي تحققت حتى الآن لم تكن مقنعة بدرجة كافية. كما أن خيبة الأمل حول العملية ربما جاءت معادلة في حجمها للآمال التي عقدت عليها عند انطلاقها عام 1995. إن انعدام التوازن وقصور المبادرة والبيروقراطية وتباطؤ التنفيذ بالإضافة إلى أمور أخرى عوامل تعيق عملية برشلونه من تحقيق الآمال المعقودة.

ولا ينبغي في هذا المضمار التعامل بناء على معايير مزدوجة، ولا يحق، كما هو الحال عليه حتى الآن، تفسير القانون الدولي وحقوق الإنسان على نمط انتقائي. على الرغم من ذلك فوجود العملية جيد بحد ذاته. لكن من الضرورة مراجعة العملية على نحو جذري لكي يكون بوسع الدول المشاركة الاستفادة الكاملة من الإمكانيات المتوفرة والتعامل بالشكل السليم مع المتطلبات القائمة.

إنه لأمر جيد فالعملية تعطي دفعات هامة للإصلاحات السياسية والاقتصادية. لكن التحسينات اللازمة من أجل التجاوب مع متطلبات منطقة التجارة الحرة في حوض المتوسط وزيادة القدرة التنافسية لدولنا فقد أهملت على نحو كبير لحد الآن.

عملية برشلونه عقدت أهدافا لها في مجالات ثلاثة هامة: السلام والتجارة والمجتمع المدني. ما هي أهم هذه المجالات من جانب الرؤية العربية؟

بن صالح علوي: هناك شعور واسع الانتشار بأن للعملية في المقام الأول توجها أمنيا متفقا مع المتطلبات الأوروبية. لكن الضرورة تحتم رؤية الروابط القائمة بين هذه المجالات الثلاثة. وكثيرا ما ينظر إلى العلاقة القائمة بين الأمن والتنمية بمقدار أدنى من أهميتها الحقيقية. بسبب هذه العلاقة تحتل لدينا في العالم العربي المسائل الاجتماعية والاقتصادية مركز الأولوية.

كان من الضروري أن تتخذ إجراءات مرافقة من أجل تفادي استمرار إضعاف صدمة إجراءات التحرر الاقتصادي للتركيبة الاجتماعية التي وقعت بعد عقدين من إجراء التكيّف الهيكلي تحت طائل ضغط شديد.لكن هذا التوقع لم يدخل حيز التنفيذ.

من الناحية النظرية تلعب المسائل التنموية دورا مركزيا في السياسة الأمنية الأوروبية. ما هي رؤية الرأي العام العربي لذلك، هل هي محض بلاغة لغوية أم سياسة مبنية على المصداقية؟

بن صالح علوي: التنمية هي أساس البنية القوية للأمن والاستقرار لأن التنمية تجعل السكان قادرين على تبوء دور لهم داخل المجتمع. وعلى الرغم من الطابع البلاغي للاتحاد الأوروبي فإنه لا يخطو خطوات جدية نحو هذا الطريق. وهذا ما تدل عليه ردود فعل "الشارع العربي" الذي ينتقد البلاغة الأوروبية انطلاقا من انطباعه بأن أوروبا تتبنى في الدرجة الأولى مصالحها ومصالح الأطراف الغنية.

وفي الواقع ليس للرأي العام أي تحسس بميكانيكيات عملية برشلونه الخاصة بدعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية. في نفس الوقت ما زال ينظر إلى أوروبا على أنها تتحمل مسؤولية تجزئة العالم العربي ووقوع المأساة الفلسطينية. ويتم في أسوأ الاحتمالات اتهام أوروبا بمسؤولية قيام إسرائيل ودعم هذه الدولة دون قيد أو شرط.

ما هو تأثير النزاع بين إسرائيل وفلسطين وتأثير الإرهاب الدولي على مستقبل عملية برشلونه؟

بن صالح علوي: ينبغي حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني وتسوية المسألة الفلسطينية على نحو نزيه وعادل. ولا ينبغي في هذا المضمار التعامل بناء على معايير مزدوجة، ولا يحق، كما هو الحال عليه حتى الآن، تفسير القانون الدولي وحقوق الإنسان على نمط انتقائي.

الإرهاب لا زال حتى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ظاهرة يجب النظر إليها وفقا لمعطيات وأحداث معينة. كما ينبغي تحليل كل حالة من أجل مراعاة كافة ردود الفعل المناسبة بقدر الإمكان. أعتقد بأن الحرب الدائرة على مستوى عالمي ضد الإرهاب والتي تشنها حاليا دولة عظمى يزعم بأنها ترزح تحت طائل "صدمة" لها مردود عكسي كما أنها تزرع مزيدا من بذور الإرهاب.

من الخطأ وصف الحرب ضد العراق على أنها عمل تم في إطار "مكافحة الإرهاب"، بل على العكس فقد تسبب اجتياح العراق نفسه مجازا في فتح "علبة باندورا" أي في تفاقم الإرهاب. إذ إضافة إلى المقاومة الدائرة ضد الاحتلال وحالة الفوضى الناجمة عن هذا الاحتلال فقد أعطى غزو العراق لتنظيم القاعدة أرضية جديدة خصبة للكفاح المسلح.

كما أن اهتمام أجهزة الإعلام الأمريكية في هذا الصد يزيد من وقع هذا الإفراز. أما الجنود الأميركان الذين لا يمكن الوصول إليهم في العادة، فإنهم يكونون مستهدفين كرمز أمثل لكل أنواع الأحقاد القائمة ضد الولايات المتحدة.

كان الاتحاد الأوروبي ولا يزال منقسما على نفسه إزاء العراق. فبعض حكومات دوله تقف مع الولايات المتحدة فيما تتخذ دول أخرى موقفا معاكسا.

بن صالح علوي: عملية برشلونة تتطلب وجود رغبة وأداء إزاء تكريس أوروبا القوية والممتلكة لسياسة خارجية وأمنية متماسكة لكي تكتسب هذه العملية فاعلية وصلابة. فالموضوع يختص بأهمية لا تقل عن مدى مصداقية الاتحاد الأوروبي. والواضح أن الولايات المتحدة تخطط لمشاريع أخرى في إطار ما يسمى "الشرق الأوسط الأكبر" المصمم وفقا لمصالحها ورؤاها.

وعلى الاتحاد الأوروبي (علما بأن بعض دوله الأعضاء تبنت في قمة الدول الصناعية الثماني في يونيو صيغة مخففة تحت عنوان "الشرق الأوسط الأوسع وشمال أفريقيا") أن يحيد بوضوح عن السياسة الأمريكية. فأوروبا بحكم القرب الجغرافي واعتمادها على استيراد الطاقة في حاجة إلى تكريس الازدهار والاستقرار في حوض البحر الأبيض المتوسط.

وعلى الرغم من تصدع الوضع في الشرق الأوسط فربما آن الأوان للاتحاد الأوروبي بتبوء دور نشط هناك وعدم الاكتفاء بدور المانح المالي فقط. على الاتحاد الأوروبي أن يسعى بالتعاون مع الولايات المتحدة والدول المعنية إلى إيجاد مخرج من الكارثة المهيمنة على العراق والنزاع القاتل بين إسرائيل والفلسطينيين. ويمكن من خلال إعادة إحياء عملية برشلونه على نحو جدي خلق ديناميكية جديدة والإسراع في أداء الإصلاحات التي تطرح نفسها في المنطقة بإلحاح.كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي تقوية التزامه بالشراكة القائمة بين أوروبا وحوض المتوسط.

هذا يعني أن الاتحاد الأوروبي لا يقوم بتعزيز السلام على نحو كاف؟

بن صالح علوي: لا بد من معالجة جذور انعدام الاستقرار والأمن وأسباب ظهور التوترات بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. إذ ينبغي خلق نظام مشترك للأمن أو صيغة للتعامل مع التهديدات التقليدية وغيرها من المسائل المتعلقة بالسياسة الأمنية وكذلك خلق وسائل فعالة كفيلة بالوقاية من اندلاع الصراعات، وذلك بعد أن رفض في مرسيليا في نوفمبر 2000 "ميثاق السلام والاستقرار".

إن الحوار أمر حتمي، لكن عليه أن يكون شاملا وأن تكون لديه قنوات يعتمد عليها وميكانيكية أداء ذات مفعول عاجل. لكن هذا تماما غير متوفر على ما يبدو في النظام الراهن، الأمر الذي عكسته بوضوح الأزمة التي اندلعت بين المغرب وأسبانيا حول "جزيرة البقدونس" في يوليو 2002. وقد تمت تسوية هذا النزاع من خلال مساعي الوساطة التي قامت بها الولايات المتحدة وليس من خلال المفاوضات في إطار الشراكة المتوسطية.

هل قوّت عملية برشلونه ساعد المجتمع المدني؟

بن صالح علوي: من المؤكد أن هذا أضعف مجالات عملية برشلونه. فالثقافة على وجه خاص لا تحتل إلا دورا هامشيا. هذا مع أن الوضع العالمي المتأزم يتطلب عقد حوار جدي بين الحضارات والقيام بعدد من الإجراءات التي وصى عليها تقرير "المجموعة الاستشارية رفيعة المستوى المعنية بالحوار بين الشعوب والحضارات في منطقة أوروبا وحوض المتوسط". وكان رئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي قد أنشأ هذه المجموعة التي كنت أحد رئيسيها في يناير 2003 . وإني آمل بأن يضع ممثلوا المصالح ولا سيما المنظمات الخاصة بالمجتمع المدني هذه التوصيات محل اهتمامهم الجدي.

من هم الشركاء الأوروبيون الذين يقدمون لكم الدعم الأكبر؟

بن صالح علوي: على نحو خاص فرنسا وإيطاليا. كان لأسبانيا موقف ملتزم إزاء إدخال عملية برشلونه، هذا وإن تناقض أداؤها وتصورها الاستراتيجي في بعض الأحيان مع مجموعة مصالح نشطة على نحو يفوق العادة، كما هو الحال في قطاعات الزراعة وصيد الأسماك وصناعة النسيج. صحيح أن أسبانيا تسعى لتبوء دور أكبر في حوض المتوسط، لكنها تميل إلى النظر إلى الشركاء في حوض المتوسط على أنهم محض أطراف منافسة. نأمل أن تتبنى الحكومة الجديدة خطا أكثر توازنا.هذا وقد حاولت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أثناء توليها رئاسة الاتحاد دفع الشراكة المتوسطية قدما. لكن لقاءات رئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي المعروف بنزعته المتوسطية مع دول متوسطية ترأست بالتتابع الاتحاد الأوروبي أي فرنسا وأسبانيا واليونان وإيطاليا، لم تفرز للأسف كما كان الأمل معقودا إعادة إحياء لعملية برشلونه. فلا الشروط الدولية غير الملائمة ولا توسيع حجم الاتحاد الأوروبي قد خدمت الشراكة المتوسطية.

ما هو دور الدول الأعضاء الشمالية داخل الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد؟

بن صالح علوي: لقد حاولت بريطانيا تنشيط الاستثمارات في المنطقة، كما أن ألمانيا تبدي اهتماما خاصا في توثيق عرى التعاون مع العالم العربي. ومن مدعاة التفاؤل الكبير كون الدول الاسكندنافية تبدي اهتماما شبيها بذلك لاسيما السويد وفنلندا.

وعلى وجه عام فإن التكامل القائم بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد يحتل مرتبة عالية. هذا وتقدّم المفوضية الأوروبية معظم الاقتراحات في هذا الصدد كما أنها تلعب مؤكدا دورا متميزا. ويلعب البرلمان الأوروبي من جانبه دورا هاما في تعزيز الحقوق المدنية والمجتمع المدني في الجزء الجنوبي من حوض البحر المتوسط.

لكن هل سياسة الاتحاد الأوروبي متماسكة على وجه كاف؟

بن صالح علوي: الجواب هو بالنفي بصورة أكيدة. فعدم وجود سياسة خارجية وأمنية مشتركة على نحو حقيقي لا يتفق مع هذا التماسك. كما أنه يمنع الاتحاد الأوروبي من إعطاء مصالحه الطويلة الأجل ورؤاه الاستراتيجية مرتبة أعلى من الفوائد المباشرة التي توجد بصددها بطبيعة الحال آراء مختلفة.

وهناك تضارب كبير بين الطرح البلاغي للاتحاد الأوروبي وبين تصرف كل من الاتحاد الأوروبي نفسه ودوله الأعضاء. هذا ويعكس قطاعا الزراعة والهجرة القصور القائم في هذا التماسك. فكيف يمكن لأوروبا تعزيز استقرار الجزء الجنوبي من البحر المتوسط طالما تمسكت في آن واحد بسياسة الحماية في مواجهة صادراته الزراعية؟

إن القطاع الزراعي يحتل أهمية مركزية لا بالنسبة لاستقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فقط بل أيضا فيما يتعلق بالاستقرار السياسي للدول النامية. وفي حالة المغرب فإن أهمية الزراعة بالنسبة له تفوق نسبة أل 15 % التي تشكّل مساهمة هذا القطاع في الناتج القومي العام.

لقد تطرقت إلى الهجرة كذلك...

بن صالح علوي: إذا شئنا أن نواجه التحديات على الوجه السليم، رغم أن الأمر يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية وبمسائل الثقافة والهوية الخ.، فإن ذلك يتطلب بإلحاح وجود مدخل عالمي مشترك يتخطى سياسة الهجرة التي تتبناها الدول الأوروبية والتي تقتصر على طابع الإجراءات التقييدية البحتة.

المطلوب سياسة ملتزمة تتبنى مصالح أوروبا بهيكل عمر سكانها المتسم بالشيخوخة مما يجعلها في حاجة إلى عنصر الشبيبة للحفاظ على ازدهارها وقدرتها على توفير دخول التقاعد، وتراعي أيضا احتياجات الجنوب الذي يواجه المخاطر الاعتيادية التي تعترض المرحلة الانتقالية ويتعرض لخطر فقدان خيرة عمالته تعليما من خلال هجرتهم.

إن سياسة الهجرة الانتقائية المعطاة الأولوية آنيا تصعّد خطر هجرة العقول المفكرة. وإذا لم يتوفر مدخل متماسك وشامل ازدادت الهوة بين المتعلمين وغير المتعلمين وظلت الفروق قائمة بين الفقراء والأغنياء مما يكرّس استمرار الحلقة المفرغة المتعلقة بالفقر.

الاتحاد الأوروبي سوق ضخمة لكنه لا يشكّل قوة سياسية. هل تعتقدين بأن أوروبا ستطور لنفسها هوية سياسية ودبلوماسية مستقلة وستتبوأ دورا أكبر في السياسة الدولية؟

بن صالح علوي: إنني آمل ذلك. هذا وإن دلت الأحداث الأخيرة – الحادي عشر من سبتمبر، الحربان اللتان شنتا ضد أفغانستان والعراق- على عودة إحياء الخيار القومي للسياسة الخارجية الأوروبية. وهذا عامل إضافي يعرقل خلق سياسة أمنية أوروبية مشتركة، علما بأن هذا الخلق بحد ذاته صعب شائك. منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر يتحول النظام الدولي من سيطرة القانون الدولي (علما بأن ذلك يتم تطبيقه في إطار الأمم المتحدة على نحو انتقائي وضعيف) نحو عالم تتحكم فيه مصالح ورؤى دولة عظمى وحيدة وحروبها الوقائية.

إن السياسة الدولية في حاجة إلى ميكانيكية مراقبة تضمن تفادي وقوع حالة الفوضى العامة كنتيجة لأحادية القرار المتسم بروح المغامرة. هنا كان بوسع الاتحاد الأوروبي أن يلعب دور القطب المتسم بالمصداقية والقادر على تصحيح الخط. لكن السؤال يطرح نفسه عما إذا كان الاتحاد الأوروبي راغبا في تبوء هذا الدور أم لا.فالتجزئة الأوروبية حيال المسألة العراقية تعكر صفو الصورة بما لا شك فيه.

أجرى الحوار هانز ديمبوفسكي
حقوق الطبع مجلة تطور وتنمية

آسيا بن صالح علوي: أستاذة القانون الدولي في جامعة محمد الخامس في الرباط وعضو في منتدى روما. وقد عينها رئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي أحد رئيسي "المجموعة الاستشارية رفيعة المستوى المعنية بالحوار بين الشعوب والحضارات في منطقة أوروبا وحوض المتوسط"