عشر سنوات على اعتداءات نيويورك........ إيران والطريق إلى المستقبل

في هذه المقالة يصور رجل الدين الإيراني المشهور حسن يوسف أشكيفاري كيف جرى استقبال الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في إيران، مؤكداً ضرورة التمييز بين عموم المسلمين والإرهابيين، وعلى أهمية إمعان النظر في أسباب الإرهاب وفي ماهية الأسلوب الناجح للوقوف في وجهه.

الكاتبة ، الكاتب: Hassan Youssefi Eshkevari



في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر من عام 2001، شاهدتُ، على شاشة التلفزيون، ومن داخل سجن إفين على وجه التحديد، انهيارَ برجي مركز التجارة العالمي (World Trade Center) في نيويورك. ومع أني شعرتُ آنذاك، بأني أشاهد، في تلك اللحظة، حدثاً مهماً، شيئاً غير مألوف، إلا أني لم أفكر في أن هذا الحدث، الذي كان قد تزامن مع بداية الألفية الثالثة، سيكتسب ما اكتسب من أهمية وأن أحداثاً جساماً وردود أفعال عظيمة الأبعاد ستترتب عليه، أحداثاً وردود أفعال سترسم صورة المشهد السياسي العالمي في العقد الأول من هذا القرن.
ردود الفعل في إيران

ما من شك في أن الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر قد خلف صدىً متبايناً في أرجاء العالم المختلفة. إلا أني أود، هاهنا، اقتصار حديثي على ردود الفعل في إيران فقط. إن الرأي العام الإيراني اعتبر هذه الاعتداءات، المباغتة والمثيرة للفزع، جريمة شنعاء وكارثة إنسانية، وبالتالي فإنه أدانها، في الحال، بشدة. وفي تلك الأيام، كانت مقاليد الحكم في إيران في عهدة حكومة محمد خاتمي الإصلاحية والمعتدلة، وكان البرلمان تسيطر عليه أغلبية مهتمة بالإصلاح والنهضة، وكانت الثقافة والصحافة والسياسة يهيمن عليها الشبان المثقفون ومدافعون عن المجتمع المدني، يطالبون بضرورة العمل على تحسن العلاقات مع العالم الغربي، بما في ذلك أمريكا أيضاً.

وكان الرئيس الإيراني من أوائل رؤساء الحكومات، الذين أدانوا فاجعة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في الحال. على صعيد آخر، كان أحد كبار القادة الدينيين، أعني آية الله منتظري، قد برر إدانة هذه المجزرة، انطلاقاً من المبادئ المتداولة في المؤلفات الدينية. كما شجب البرلمان الإيراني الهجوم على مركز التجارة العالمي. وبعد شيء من التردد، وبعبارات اتسمت باللف والدوران، شارك المحافظون والأصوليون، أيضاً، في إدانة هذا الهجوم. وبطريقته الخاصة، أدان زعيم الأصوليين الإيرانيين آية الله خامئني، أيضاً، الهجمات المروعة. وكانت الشبيبة الإيرانية، على وجه الخصوص، قد أعربت، بنحو لا مواربة فيه، عن عطفها وتضامنها مع الشعب الأمريكي ومع أسر الضحايا، الذين كان من بينهم مواطنون إيرانيون أيضاً. وبطقوس دينية رمزية، خرج البعض من الشباب إلى الشوارع مرتدين ملابس الحداد وحاملين بأيدهم الشموع رغبة منهم في الإعراب عن حزنهم على الضحايا وعن تعاطفهم مع الشعب الأمريكي. وإذا كانت هناك جماعة صغيرة، من الجماعات المتطرفة المعادية للغرب، قد ابتهجت، في ظل هذه الظروف، بما تعرضت له أمريكا من هجمات إرهابية، فلا ريب في أن هذه الجماعة ما كانت تستطيع الإعراب عن أفكارها ومشاعرها أمام الملأ.


خلفيات رد الفعل الإيراني على هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر

ضحايا هجمات إرهابية في بغداد
"إن ردود الفعل في إيران على احداث 11 سبتمبر تستمد قوتها من خلفيات تاريخية، ثقافية ودينية، متميزة"

​​

إن ردود الفعل في إيران تستمد قوتها من خلفيات تاريخية، ثقافية ودينية، متميزة، خلفيات أود، فيما يلي، التطرق إليها بشيء من الإسهاب.


أولاَ: إن المواطنين في إيران، ليس من طبيعتهم التطرف. فعندما نمعن النظر في الثلاث آلاف سنة من التاريخ الإيراني، نلحظ هذه السجية الإيرانية بكل جلاء، ونرصدها، عن كثب، من خلال المقارنة مع بلدان الجوار أيضاً. ففي الديانات الإيرانية القديمة، أعني الديانات التي سادت في الإمبراطورية الفارسية طيلة الفترة الممتدة من بداية إلى نهاية المملكة الساسانية، كان الموقف العام يرفض العنف ويُعلي من قيمة المحبة والاعتدال. فزرادشت وماني ومزدك كانوا قد حققوا أمراً، عظيماً فعلاً، بنشرهم هذه الأفكار والقيم. من ناحية أخرى، كان التعايش السلمي بين الشعوب المختلفة، في الإمبراطورية الفارسية العالمية الأبعاد، قد عزز روح التسامح واحترام الآخرين.

ثانياً: وبالإضافة إلى ما قلناه آنفاً، لعب، أيضاً، الفهم الشيعي للإسلام دوراً شديد الفعالية في مجال ما نحن في صدى الحديث عنه. ومع أن الإسلام كان، تأسيساً على السلطة الزمنية، التي مارسها النبي، على مدى عشرة أعوام، في المدينة، في القرن السابع، من أكثر الديانات العالمية الأخرى تأثيراً في الحياة السياسية، إلا أن هذه الحقيقة لا تغير شيئاً، من أن هذا الدين، كان، من حيث المبدأ، يدعو إلى السلام والتعايش السلمي. وعبر التاريخ، أيضاً، كان المسلمون يتصفون – برغم الغزوات والصراعات الداخلية، التي خاضوها في بادئ الأمر - بالتسامح من حيث المبدأ ومن حيث سلوكهم العام. وكانت صلات الوصل، بين الشيعة والتصوف الإيراني، قد ساهمت، أيضاً، في تعزيز هذا التطور. كما ساهم انتشار الأفكار الفلسفية في المجتمع الشيعي، بتعميق الميل إلى الاعتدال والحياة المسالمة في إيران.

ثالثاً: ويكمن العامل الآخر، في التعرف العميق على خصائص الحداثة والحضارة الغربية. وحتى وإن أخذنا بالاعتبار أن الإيرانيين تعرفوا على الثقافة الغربية في زمن متأخر، مقارنة بباقي مسلمي الشرق الأوسط والهند، إلا أنهم، أعني الإيرانيين، تقبلوا منجزات العالم الحديث، بصدر أكثر رحابة، وبنحو أكثر سرعة، مقارنة بباقي المسلمين. من هنا، فليس من محض الصدفة، أن تكون الثورة الدستورية - التي اندلعت في عام 1906، وقادت، في نهاية المطاف، إلى تأسيس نظام سياسي حديث - أول حركة سياسية-دينية تتكلل بالنجاح في الشرقين الأدنى والأوسط. وكانت هذه الحركة قد بلغت من الأهمية مقداراً، دفع المصلح رشيد رضا لأن يرحب بها ولأن يحث علماء الأزهر إلى ضرورة محاكاة العلماء الشيعة.


السلم في الموروث الإسلامي

الصورة ا ب
"لا نستطيع الوقوف على ماهية الحجج الشرعية، التي يسوقها الأصوليون والإرهابيون من المسلمين لتبرير تفجير القنابل والهجمات الانتحارية وقتل الأبرياء من الناس الآمنين"

​​أضف إلى هذا وذاك، أن الإسلام بحد ذاته، وبحسب كافة التأويلات أيضاً، يرفض رفضاً قاطعاً، قتل الأبرياء. فلا يوجد نص واحد يبيح سفك دماء الأبرياء. نعم، اندلعت بعض الحروب، في العصور المبكرة من تاريخ الإسلام، باسم الجهاد. وحقاً توجد في القرآن نصوص تدعو إلى الجهاد بالأساليب السياسية والعسكرية لمقاومة الأعداء والغزاة. بيد أن هذه الدعوة كان المراد منها أولاً مقاومة المسلحين والعساكر، وليس تهديد المواطنين في منازلهم وأوطانهم. وثانياً، كانت الحرب، أيضاً، تخضع لقوانين محددة، لقوانين كان الالتزام بتنفيذها من واجبات الأمور. فعلى سبيل المثال يأمر القرآن، في الآية رقم 61 من سورة الأنفال، بصريح العبارة: "وَإن جََنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا".

وحتى الخشية من مكر العدو وحيله لا يجوز أن تكون سبباً للخروج على أمر الجنوح للسلم في حالة جنوح العدو لها. على الصعيد نفسه، فلو أن جندياً عادياً منح الآمان للأعداء أثناء العمليات الحربية، لأي سبب كان، فما على رئيس الجيش المسلم غير الوفاء بهذا الوعد والالتزام بتنفيذه. إن هذا الواجب الديني يعبر عن جهد أكيد لضرورة المحافظة على السلم ونبذ الحروب. والأهم من ذلك، هو أن هذا الواجب فَرَضَ على المجاهدين، في كافة العملية الحربية، أن لا يسيئوا التصرف مع النساء والأطفال والرهبان ومعتنقي الديانات الأخرى، أي، وبعبارة أخرى، أن الواجب الديني كان يفرض عليهم أن لا يروعوا الأشخاص المدنيين، وأن لا يعرقلوا عليهم مزاولة الأعمال الزراعية. على صعيد آخر، فإن أحكام المستأمن في الإسلام تحمي، دائماً وأبداً، كافة بني البشر وجميع أتباع الديانات الأخرى، من تعرض حياتهم وأملاكهم للأذى. فقد ورد في القرآن - الآية رقم 32 من سورة المائدة - نص يقول بصريح العبارة: "مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَميِعاً".

وحتى في التأويل الأصولي للإسلام – وهو تأويل متخلف - ثمة قواعد تسري على دار الحرب ودار السلام. فهذه القواعد لا يجوز الخروج عليها في أي حال من الأحوال، ولأي سبب كان. وتأسيساً على كل ما أوردناه، لا يسعنا إلا أن نقول بأننا لا نستطيع الوقوف على ماهية الحجج الشرعية، التي يسوقها الأصوليون والإرهابيون من المسلمين لتبرير تفجير القنابل والهجمات الانتحارية وقتل الأبرياء من الناس الآمنين. فبالنسبة لهم لا توجد حدود للقتل. إنهم يقتلون الأبرياء، في المساجد وفي المنازل وفي الكنائس، بلا اهتمام بصفة الإنسان الذي يسفكون دمه. ولو قدم هؤلاء دليلاً نظرياً، واحداً على أدنى تقدير، يبرر سلوكهم، لعلم المرء ماهية المصادر الدينية، التي يحتجون بها. من هنا، وتأسيساً على ما ينتهج الإرهابيون المحسوبين على الإسلام، من سلوك غير مبرر، يرفض جل المسلمين، في العالم أجمع، هذه التصرفات. أضف إلى هذا أن علماء المذهبين السني والشيعي يدينون هذه الممارسات ويؤكدون أن هؤلاء الإرهابيين يقترفون ما حرمته الشريعة.

ومنذ أمد طويل، نبذ الشباب والمثقفون وقادة النضال السياسي، المتدينون منهم وغير المتدينين، في إيران، أساليب العنف وما عادوا يتعلقون بفكرة الثورة. إنهم يجهدون، بتحقيق أهدافهم الديمقراطية بأساليب مدنية، وبوسائل سلمية. إن الجهود، التي تبلورت في العقد الأخير من السنين، وتأسيس الحركة الخضراء في العامين الأخيرين، مثال صادق على هذه التوجهات السلمية.
ومع هذا، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، نفي أن أفراداً محدودي العدد من المسلمين الإيرانيين، لا يزالون يتبنون أفكاراً متطرفة تدعوا إلى استخدام العنف. ومن حقائق الأمور أيضاً، أن هؤلاء الأفراد يناصرون النظام الحاكم، وأنهم يحصلون من هذا النظام على الدعم المادي والفكري، الذي يحتاجونه لممارسة العنف. من هنا، فإن هؤلاء الأفراد لا يتورعون من ارتكاب أبشع الجرائم. حقاً، أنهم من الشيعة، لكنهم لا يختلفون أبداً عن أشباههم من الأصوليين السنيين في العالم العربي. فهم يقعون تحت تأثير الحركة الإرهابية في الدول المجاورة. من هنا، فإن المرء كان مصيباً فعلاً حينما أطلق عليهم لقب الطالبان الشيعة أو تنظيم القاعدة الشيعي.


جذور الإرهاب

الإرهابي محمد عطا في نيويرك
"صار المرء على بينة بأنه لا يستطيع بالعتاد الحديث وبالجيوش النظامية التقليدية، كسب المعركة الدائرة ضد الأيديولوجية الإرهابية"

​​لقد قيل وكُتب الكثير حول هذه الظاهرة الجديدة وحول أفضل السبل لردعها والقضاء عليها. ولكن، وطالما واصل أصحاب الشأن غض الطرف عن تقصي ودراسة الأسباب الاجتماعية والسياسية، التي تتولد عنها هذه الظاهرة، فلا ريب في أن المرء لن يتوصل، إلى أفضل السبل لردع الإرهاب، وسيُكتب الفشل، بالتالي، على ما ينفذ من استراتيجيات. إن المعركة الحربية، الدائرة ضد الطالبان والقاعدة منذ عشرة أعوام والحرب على الإرهاب في الشرق والغرب، فشلت في تحقيق أهدافها. وعملياً، يقر حلف الناتو، بأن الأهداف، التي كان يريد تحقيقها، في صراعه مع الطالبان، قد باءت بالفشل في أفغانستان. من هنا، صار المرء يمني نفسه بالحفاظ على الوضع الراهن. وبالتدريج، صار المرء على بينة بأنه لا يستطيع، بالعتاد الحديث وبالجيوش النظامية التقليدية، كسب المعركة الدائرة ضد الأيديولوجية الإرهابية.

ويبدو ليَّ أن الخطأ، الذي اقترفه التحليل الغربي عامة والسياسيون الغربيون على وجه الخصوص، في سياق دراستهم للوضع، كان يكمن في أنهم أصروا على أن جذور الأصولية والإرهاب تضرب في الإسلام والأفكار الدينية. فهم دأبوا على التقاط آيات قرآنية ونصوص من السنة والشريعة، ليستشهدوا بها - بعيداً عن السياق الذي وردت فيه - في جدلهم مع الإرهابيين. وإذا عثروا في القرآن على آيات تتعلق بالجهاد، فإنهم يقترحون حذفها من القرآن. وبحسب هذا النمط من التفكير، يكمن الحل في طبع ملايين النسخ من القرآن خلواً من الآيات الداعية إلى الجهاد، بزعم أن موافقة المسلمين، على هذا الحذف، يعني اقتلاع الشر من جذوره والقضاء التام على عمليات الإرهاب، التي يمارسها الإنتحاريون والجهاديون.


العوامل الاجتماعية

ولكن، وعند إمعان النظر، يتبين بجلاء، أن هذه الظاهرة المدمرة، ما هي، في المقام الأول، سوى مشكلة اجتماعية، تسببت في نشأتها مجموعة عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية. وتأسيساً على هذا التقييم، تظل هذه الظاهرة قائمة، طالما ظلت قائمة العوامل المسببة لها. وطبعاً، تعلب العوامل الشخصية والثقافية، التي يعزوها البعض إلى الدين، دوراً مهماً في نشؤ الإرهاب والتطرف الإسلامويين. وغني عن البيان، أن الواجب يحتم، أيضاً، رصد هذه العوامل والتصدي لها. بيد أن التصدي لها لا يحقق الهدف المتوخى، ما لم يقر المرء بأن الإرهاب والتطرف يعكسان مشكلة اجتماعية، وأنهما، بالتالي، من صنع عوامل موضوعية.

ابن لادن الصورة ا ب
"الدين ليس سوى الثوب، أو القناع، الذي يتستر به المتطرفون على كافة الأفكار الأخرى، المستقاة من مصادر أخرى ذات أهداف سياسية شديدة الخصوصية"

​​ولكن، وإذا ما أصر المرء على مكافحة الإرهاب بالوسائل القديمة، وواصل الاعتقاد أن إجراء أي تغيير في الأولويات خطأ بين، فلا ريب في أن مصيره سيكون الاندحار في نهاية المطاف. إن على المرء أن يأخذ بالاعتبار أن الأصوليين، والجماعات، التي تمارس العنف والعمليات الإنتحارية الإرهابية على وجه الخصوص، ما عادت تخضع، في العالم أجمع، لسيطرة المؤسسات الدينية التقليدية وما سوى ذلك من مرجعيات، من قبيل الجوامع وعلماء الدين المُقَلَدِين. فهم لا يعترفون، أصلاً، بما يفتي به علماء الدين، اعتقاداً منهم أن القادة الدينيين قد تحالفوا مع العدو الغربي، أو أنهم، وبفعل موقفهم المحافظ، يلتزمون الصمت، على أدنى تقدير، إزاء الهيمنة الأجنبية وحيال أعداء الإسلام. وبعبارة أخرى، يعتقد الأصوليون والإرهابيون أن هؤلاء القوم من رجال الدين ليسوا سوى خونة لا يجوز الاعتداد برأيهم أبداً. لا بل إنهم يذهبون مدى أبعد، فيزعمون أن هؤلاء العلماء قد ارتدوا عن دينهم وأن الواجب يقتضي تنفيذ حكم المرتد بحقهم (لاحظ أن الجماعة، التي اغتالت الرئيس المصري السابق أنور السادات كانت تنتسب إلى هذه الجماعات أيضاً).

وليس صدفة، أن نرى من سابق الزمن وحتى اليوم الراهن، (أعني منذ أسس حسن البنا حركة "الإخوان المسلمون" في الإسكندرية في عام 1928 وحتى قيام أسامة بن لادن بتكوين منظمة القاعدة)، أن كافة قادة ومؤسسي الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية، لم يكونوا علماء دين أصلاً، لا بل أن الكثيرين منهم قد تخرجوا من الجامعات الغربية. فعلى سبيل المثال، تخرج، زعيم "التكفير والهجرة"، شكري مصطفى، من الجامعة بشهادة مهندس، ونال عباس مدني، زعيم "الأمل الإسلامي" في الجزائر، شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد. ومهما كانت الحال، الأمر البين هو أن أغلب أولئك الشباب ممن يقومون بالهجمات الإرهابية في الغرب (ومن بينهم التسعة عشر شاباً، الذين نفذوا الهجوم في نيويورك) قد كانوا يقيمون في الغرب أو أنهم كانوا قد تثقفوا بالثقافة الغربية وما كانوا يرتبطون، لا تنظيمياً ولا روحياً، بأية مؤسسات دينية تقليدية. وإذا ما برز، من حين لآخر، أحد رجال الدين الثانويين، ودعا، في هذا الجامع أو ذاك، إلى التطرف، فليس ثمة شك في أننا، هاهنا، إزاء حالة استثنائية، لا تشكك، بأي حال من الأحوال، بصدقية القاعدة العامة.


التستر بثياب الدين

ولهذا السبب، أكرر بشدة، إن الجماعات المتطرفة، التي لا تدعوا إلى العنف فقط، بل وتدعوا إلى ممارسته أيضاً، لا تعير أذناً صاغية إلى ما تقوله المبادئ الدينية وإلى ما يقدم الزعماء المتخصصون بالعلوم الدينية من نصائح وإرشادات. إن الأمر الأقرب إلى الحقيقة، هو أن هذه الجماعات تخضع إلى التأثير، الذي تمارسه عليهم بيئاتهم الاجتماعية وروابطهم العائلية. وبهذا المعنى، فإن الدين ليس سوى الثوب، أو القناع، الذي يتسترون به على كافة الأفكار الأخرى، المستقاة من مصادر أخرى ذات أهداف سياسية شديدة الخصوصية. بيد أني لا أريد الزعم، أن هؤلاء القوم ليسوا مسلمين؛ فما من شك، في أن الكثيرين منهم، متزمتين في إيمانهم بالدين. إن كل ما نريد قوله، هو أن القوم، والشباب منهم على وجه الخصوص، لا يعرفون دينهم حق المعرفة، وأنهم يخضعون لمؤثرات اجتماعية معينة، وأن هذا الأمر وذاك، أعني عدم معرفتهم بأصول دينهم وتعلقهم بالتطرف، يجعلهم، في نهاية المطاف، فريسة سهلة لجماعات سياسية تستخدمهم مطية لتنفيذ مآربها السياسية غير الشرعية. إلا أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال، أننا ندعو إلى العزوف عن إمعان النظر في النظريات الدينية والمبادئ الموروثة. وكيفما كانت الحال، فبحسب وجهة نظري الشخصية، تلعب العوامل، المدرجة أدناه، دوراً مهماً في بلورت التطرف الإسلامي؛ فهذا النوع من التطرف ظاهرة حديثة العهد، بكل تأكيد:


أولاً: الاستعمار الغربي

بالرغم من أن الاستعمار والمستعمرات، بالصيغة الكلاسيكية، ما عاد لهما وجود في الزمن الحاضر، إلا أن التئام الجروح القديمة سيستغرق زمناً طويلاً. حقاً لا يستطيع جيل اليوم الراهن، وبنحو مخصوص الجيلان الثاني والثالث من أجيال الشبيبة، التي ترعرعت في البلدان الغربية، استعادة ذكرى تلك الأزمنة. إلا أن وعي آبائهم في الهند ومصر وسوريا ولبنان وتونس والمغرب والجزائر والعراق، على سبيل المثال وليس الحصر، بالملابسات التاريخية، يمد هؤلاء الشبان، بلا انقطاع، بما خلف الاستعمار وراءه، من نتائج مؤلمة. فمنذ تأسيس البريطانيين شركة الهند الشرقية عام 1605، وبدء بريطانيا في تعزز مساعيها للهيمنة على الهند والشرق، ومنذ احتلال نابليون لمصر في عام 1798، أي منذ اندلاع المساعي، التي تكللت بالهيمنة الاستعمارية على الهند والبلدان العربية، خضعت كافة البلدان الإسلامية، على مدار مائتي عام، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، لسلطان الغرب، أعني لسلطان البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين والهولنديين والإيطاليين. ومع اعترافنا بوجود شيء من التغيير في الأسلوب والمظاهر في السياسة الاستعمارية، غلا أن هذا التغيير لا ينفي، طبعاً، حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تهيمن، في اليوم الحاضر، على جزء من العالم الإسلامي فحسب، بل وتحتل بعض أجزائه أيضاً. وفي الواقع، فإن هذا الحدث التاريخي، ليس أمراً هيناً، يستطيع ضحاياه شطبه من الذاكرة الجماعية. من هنا، لا غرو أن ترجع أصول، أغلب الإرهابيين المسلمين، إلى باكستان وأفغانستان.


ثانياً: التخلف الحضاري

 الصورة دويتشه فيله حسن يوسف أشكيفاري
"إننا جميعاً صرنا على علم أكيد، بأن المسافات، التي تفصل بين ربوع المعمورة قد تقلصت إلى مقدار، صار فيه الأمن والسلام، نعمة إما يتمتع بها الجميع أو لا يتمتع بهما أحد من الأمم والشعوب"

​​إن من الحقائق المسلم بها، هو أن الجهل والفقر والتخلف، أي وبعبارة واحدة التخلف الحضاري، قد شكل، في كافة أرجاء المعمورة، السبب الرئيسي للتطرف ولاستخدام العنف وللسلوكيات الإجرامية. ولهذا السبب ثمة علاقة متينة بين الجريمة من ناحية والفقر الثقافي والاقتصادي والسياسي من ناحية أخرى. إن ارتفاع نسبة الجريمة، في المناطق الهامشية من المدن الكبرى، برهان ساطع، يؤكد صدقية وجهة النظر هذه. وتعاني أغلب البلدان الإسلامية، تقريباً، من وطأة تخلف يسود في كافة المجالات والمناحي. ومع أن أكثرية هذه البلدان تسودها أنظمة علمانية، وليس دينية، في المنظور العالم، ومع أن النخبة السياسية في هذه البلدان تتسم بتوجهاتها الغربية منذ زمن طويل (ومنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1924 على وجه التحديد)، إلا أن الأمر الملاحظ، أيضاً، هو أنه لم يتحقق في هذه البلدان (لأسباب مختلفة من بينها هيمنة الأنظمة الدكتاتورية على مقدرات هذه البلدان)، التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المنشود. إن مواطني هذه البلدان سيظلون، دائماً وأبداً، على وعي تام بمقدار التفاوت العظيم السائد بين شمال وجنوب الكوكب الأرضي. ويُحَّمِل هؤلاء المواطنون الأوربيين والأمريكيين، تبعة وضعهم المزري، ويتهمون بالعجز الحكومات والنخب السياسية، المهيمنة على مقدرات أوطانهم، وينظرون إليهم جميعاً، نظرة كلها كراهية وريب.


إسرائيل والمأساة الفلسطينية

حسب ما أرى، لا أحد يشكك، في واقع الحال، بحقيقة أن المأساة الفلسطينية وتأسيس دولة يهودية في الشرق الأوسط، قبل 60 عاماً، قد كان عاملاً مهماً في نشأة وانتشار الأفكار الأصولية والممارسات المتطرفة في العالم الإسلامي. إن النظرة السريعة على التاريخ الحديث الذي مر به هذا الإقليم، منذ احتلال فلسطين في الحرب العالمية الأولى- وعلى ما تلا ذلك الاحتلال، من صراعات سياسية وعسكرية، دارت رحاها، في ثلاثة عقود من السنين، في هذه المنطقة من العالم، مع المستوطنين الصهاينة واليهود والغزاة - وحتى تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948، أي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، على وجه التحديد، نعم إن النظرة السريعة على هذه الوقائع والصراعات، تبين، بشكل لا لبس فيه، مدى الدور، الذي لعبته هذه التطورات، في خلق التطرف الإسلامي والعربي. وما من شك، في أنه لا يمكن حل معضلة الأصولية والأفكار المتطرفة في عدائها للغرب وإسرائيل، المنتشرة في الإقليم، أعني المنتشرة بين العرب والمسلمين، ما لم يتحقق سلام عادل، يضمن أدنى حقوق الفلسطينيين، ويلبي متطلبات تأسيس دولة فلسطينية مستقلة. وإذا كانت الدول الغربية، عامة، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، عاجزة عن استئصال شأفة النتائج الاجتماعية، التي تمخضت عن الاستعمار، فإن الواجب يقتضي منها، أن تحاولوا، على أدنى، العمل على تحقيق سلام عادل، ودائم، في فلسطين، وأن تمنع إسرائيل، من مواصلة العمل بسياسة بناء المستعمرات؛ وإلا سيفشل الحرب على الإرهاب فشلاً ذريعاً ولن يحقق الهدف المتوخى منه.


الطريق إلى المستقبل

لقد كانت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر كارثة عظيمة، لا تزال نتائجها ماثلة للعيان في نيويورك وفي العالم أجمع. وعلى ما يبدو، ستواصل النتائج المأساوية نشر تداعياتها وانعكاساتها على نمط حياتنا. من هنا، فإن الواجب لا يقتضي، إمعان النظر في الأسباب فقط، التي تدفع بعض المسلمين، إلى الانخراط في صفوف الأصولية الجديدة، وفي العوامل، التي تحفز إلى ممارسة الأعمال الإرهابية والإجرامية، التي تهدد حياة المواطنين في الشرق والغرب، بل يقتضي، أيضاً، تقديم عرض شامل ودقيق لهذه الأفكار والممارسات، وذلك بغية ردع هذه الظاهرة المدمرة بالوسائل المناسبة. إن التقليل من أهمية هذه المعضلة، لا يساهم في حلها، ناهيك عن أننا قد أمسينا، في اليوم الراهن، لا نقف وجهاً لوجه، أمام الأصولية الإسلامية فقط، بل صرنا نواجه، أيضاً، حركات أصولية أخرى، حركات أصولية دينية وغير دينية، أعني، على سبيل المثال وليس الحصر، حركات أصولية يهودية ومسيحية. إن أقل ما يتوجب على الدول الغربية المتقدمة فعله، يكمن، من ناحية، في العمل على الوصول في فلسطين إلى سلام عادل ومقبول من كلا الطرفين، ومن ناحية أخرى، في السعي، بنحو صادق، إلى تحقيق تقدم ملموس وتطور حقيقي في الشرق الأوسط، أعني عليها أن تبذل قصارى جهدها لتحقيق الحرية والديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان. إننا جميعاً صرنا على علم أكيد، بأن المسافات، التي تفصل بين ربوع المعمورة قد تقلصت إلى مقدار، صار فيه الأمن والسلام، نعمة إما يتمتع بها الجميع أو لا يتمتع بهما أحد من الأمم والشعوب.

 

حسن يوسف أشكيفاري

ترجمة: عدنان عباس
حقوق النشر: معهد غوته ومجلة فكر وفن

حسن يوسف أشكيفاري: رجل دين شيعي، دخل السجن بسبب تعلقه، بالآراء الليبرالية، وإيمانه بمبادئ النظام الديمقراطي.