الحكم ''المخفف'' لمبارك- صدمة للمصريين وتكريس للنظام السابق

جاء الحكم الذي أصدرته محكمة جنايات القاهرة بحقِّ الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك ووزير داخليَّته حبيب العادلي ونجليه جمال وعلاء وباقي رموز نظامه ضعيفًا لا يلبِّي طموحات المواطنين المصريين ورغبتهم في القصاص من الطغاة. هذا الحكم يثبت أنَّ النظام القديم ما يزال قائمًا مثل ذي قبل، كما يرى الباحث والخبير الالماني ماتياس زايلر في هذا التعليق.

الكاتبة ، الكاتب: Matthias Sailer



حكمت المحكمة يوم السبت الماضي على الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ووزير داخليَّته سيئ السمعة حبيب العادلي بعد قضية استمرت عشرة أشهر بالسجن المؤبَّد لكلّ منهما، وأمَّا باقي المتَّهمين من أعوان حسني مبارك وحبيب العادلي في قيادة الأجهزة الأمنية ونجليه فقد تمت تبرئتهم من التهم المنسوبة إليهم. ولكن هذا الحكم على مبارك لا يستند إلى أساس قوي ومن الممكن استئنافه. زد على ذلك أنَّ هذا الحكم غير مقنع في حدِّ ذاته، ولذلك من المعقول جدًا وصفه بأنَّه حكم سياسي. ولذا فقد دعت جماعة الأخوان المسلمين وجماعات المعارضة غير الإسلامية بعد النطق بهذا الحكم بقليل إلى الخروج في مظاهرات.

وفي المقابل لم تستمر الفرحة بمحاكمة طاغية مصر السابق ووزير داخليَّته إلاَّ قليلاً، حيث اتَّضحت بعد ساعات قليلة جميع عيوب هذا الحكم وهذه المحاكمة وكذلك عيوب النظام القضائي المصري. فهل يمكن للمصريين بعد الآن أن يثقوا في القضاء والنيابة العامة؟ ثمة شكوك كثيرة؛ وذلك لأنَّ النائب العام تم تعيينه من قبل المتَّهم (مبارك) وكذلك الحال أيضًا مع معظم قضاة المحاكم المصرية العليا، بالإضافة إلى أنَّ مبارك بالذات لم يكن على الإطلاق حتى يوم السبت في سجن حقيقي، بل أمضى معظم هذا الوقت في مستشفيات عسكرية فاخرة. وكذلك يظهر بوضوح مدى تأثير السياسة على المحاكم المصرية من خلال الحكم المشكوك فيه والذي صدر بحقِّ بعض العاملين في منظَّمات غير حكومية غربية تمكَّنوا تحت جنح الظلام من مغادرة البلاد فجأة أثناء سير القضية وذلك بعد أن استقال القضاة المختصون.

حرس النظام القديم

د ب ا
السجن المؤبَّد لفرعون العصر - كتب ماتياس زايلر "لم تستمر الفرحة بمحاكمة طاغية مصر السابق ووزير داخليَّته إلاَّ قليلاً، حيث اتَّضحت بعد ساعات قليلة جميع عيوب الحكم والمحاكمة وكذلك عيوب النظام القضائي المصري".

​​وكذلك تمثِّل اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية المصرية التي تم تأسيسها من قبل المجلس العسكري الأعلى مثالاً جيِّدًا؛ إذ إنَّ هذه اللجنة مكوَّنة هي الأخرى من قضاة تم تعيينهم من قبل حسني مبارك كما أنَّها استبعدت أثناء التحضير للانتخابات الرئاسية عشرة مرشَّحين من هذه الانتخابات في ظروف مشكوك فيها. وسمحت في المقابل لأحمد شفيق الذي كان آخر رئيس وزراء في عهد مبارك بالمشاركة في الانتخابات، على الرغم من وجود قانون أقرَّه البرلمان ينصّ على استبعاد كبار المسؤولين السابقين في نظام مبارك من المشاركة في الانتخابات.

ومع ذلك لم تكن هذه الظروف كافية، حيث اتَّضح أثناء سير القضية أنَّ بعض رجال المخابرات قاموا بإتلاف تسجيلات فيديو كان من شأنها أن تساهم في الكشف عن ملابسات قتل أكثر من ثمانمائة متظاهر قتلوا في بداية العام الماضي. أضف إلى ذلك أنَّ النائب العام المختص بهذه القضية اشتكى مرارًا وتكرارًا من أنَّ الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية التي ما يزال يسيطر عليها بعض الموالين لحسني مبارك لم تتعاون مع المحكمة وبالتالي لم يتم توفير الكثير من الأدلة. وكذلك الشهادات التي تم تقديمها أمام النيابة العامة وكان من شأنها أن تدين رموز النظام السابق، تم إلغاؤها من دون أي تردّد أمام المحكمة من قبل الشهود الذين من المحتمل أنَّه تم التأثير عليهم.

ولكن لقد كانت أيضًا لائحة الاتِّهام في حدِّ ذاتها ناقصة وضعيفة، حيث انحصرت القضية في محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين الذين قتلوا في الفترة بين الخامس والعشرين والحادي والثلاثين من شهر كانون الثاني/يناير 2011. ولم يدخل ضمن هذه المحاكمة أي من أعمال العنف الوحشية الممنهجة والتعذيب والأعمال التعسّفية التي مارستها قوَّات الأمن بحقِّ المواطنين قبل هذه الفترة وبعدها. ولذلك لم تكن توجد منذ البداية لدى السلطات المختصة أية نية جادة لمعاقبة المسؤولين عن هذه القضايا. وبناءً على ذلك فإنَّ النظام القديم لم يرحل في الحقيقة قطّ، بل على العكس من ذلك حيث أثَّر كثيرًا في هذه القضية لصالح المتهمين.

تبعات الحكم

د ب ا
من أجل "ثورة جديد باسم الشهداء" - خرج مساء يوم السبت الماضي نحو عشرين ألف متظاهر إلى ميدان التحرير في القاهرة للاحتجاج على الحكم ببراءة نجلي حسني مبارك وستة من كبار ضبَّاط الأمن في نظامه.

​​وكلّ ذلك يعكسه الآن هذا الحكم الذي طعنت فيه النيابة العامة وكذلك هيئة الدفاع. وفي هذا الصدد قال المحامي والناشط الحقوقي أمير سالم لصحيفة الأهرام المصرية إنَّ "حيثيات هذا الحكم تحمل براءة مبارك والعادلي في النقض". والمهم في هذا الحكم أيضًا أنَّه لم تتم إدانة حسني مبارك والعادلي بقتل المتظاهرين، بل لمجرَّد أنَّهما لم يوقفا أعمال العنف. كما أنَّ النيابة العامة وفي غياب الأدلة الكافية على إصدار أمر إطلاق النار على المتظاهرين أكَّدت أنَّ مبارك والعادلي كانا بسبب وظيفة كلّ منهما على الأقل على علم بهذه الأحداث. ولذلك يبدو من غير المنطقي تمامًا الحكم ببراءة ستة من معاونيهما. وإذا كان مبارك والعادلي قد علما بهذه الأحداث فهل يعقل يا ترى أنَّ الضبَّاط الذين يتلقّون الأوامر وينفِّذونها ويعتبرون بالإضافة إلى ذلك بحكم وظائفهم أقرب إلى الحدث لم يعرفوا بهذه الأحداث؟

ولكن الأمر يبدو معقدًا أكثر، إذ لم يتم طبقًا لهذا الحكم الكشف عن هوية المسؤول عن الهجمات الدموية التي تعرَّض لها المتظاهرون في شهر كانون الثاني/يناير 2011. وليس هناك أي جهاز قضائي غير منحاز وسليم ويعمل أيضًا حسب الدستور ومن الممكن أن يكون عاجزًا إلى هذا الحدِّ عن الكشف عن هوية أي من الجناة. وحتى الآن لم تتم وحتى على المستوى الأدنى في القضايا الأخرى إلاَّ محاكمة خمسة فقط من رجال الشرطة البسطاء بأحكام تقضي بسجنهم لفترات قصيرة بسبب العنف الذي اقترفوه في تلك الفترة. ولذلك إنَّ هذه المحاكمات تمثِّل رسالة خطيرة موجَّهة إلى الأجهزة الأمنية ومفادها أنَّه "لن يحدث لكم أي شيء حتى لو قتلتم ومارستم التعذيب".

وتعدّ النتائج المترتبة على هذا الحكم كبيرة ومن المحتمل أنَّ المجلس العسكري كان يريد من خلال مثل هذا الحكم إيجاد حلّ وسط يعرض من جهة رؤوس النظام السابق المشهورين على أنَّهم هم المجرمون لكي يخلق من خلال ذلك انطباعًا لدى المواطنين يفيد بأنَّ النظام وجهاز القضاء الحاليين يعملان من أجل العدالة. وحتى الآن أكَّدت على ذلك التغطية الإعلامية الخاصة بالتلفزيون الرسمي؛ إذ تم تصوير المظاهرات التي بدأت مساء يوم السبت الماضي احتجاجًا على هذا الحكم على أنَّها احتفالات تعبِّر عن فرحة المتظاهرين بالحكم. ومن ناحية أخرى من الممكن للمجلس العسكري أن يضمن لضبَّاط الأمن من خلال حكم البراءة هذا بقاء نطاق عمل الأجهزة الأمنية واسعًا مثلما كان في السابق وعدم اضطرار أي شرطي في الشارع إلى الخوف من احتمال محاسبته في آخر المطاف على الإفراط في استخدام العنف وبناء على ذلك فإنَّ النظام ما يزال قائمًا.

المرشحون الرئاسيون

د ب ا
حكم المحكمة جاء أيضا صادما فيما يتعلق بتبرئتها لأبناء مبارك من تهم منسوبة إليهم

​​ومن جانبه حاول أحمد شفيق استغلال هذا الحكم لصالحه، إذ قال: "لا يجوز لنا التعليق على أحكام القضاء كما أنَّ هذا الحكم يظهر أنَّه لا يوجد أحد فوق القانون". وفي الواقع ستُظهر الأيَّام القادمة إن كان هذا الحكم سيفيد شفيق في النهاية أم أنَّه سيضره أكثر وإن كانت استراتيجية الحلِّ الوسط التي يتَّبعها المجلس العسكري ستثبت نجاحها. وبعد النطق بهذا الحكم خرجت جماعة الأخوان المسلمين مع جماعات المعارضة غير الإسلامية إلى ميدان التحرير. وكذلك خرج إلى ميدان التحرير العديد من مرشَّحي الرئاسة الخاسرين الذين احتفلت بهم حشود المتظاهرين الثائرين وحملوهم على الأكتاف.

وكان من بين هؤلاء المرشَّحين كلّ من المرشَّحين اليساريين حمدين صباحي وعلي خالد، وكذلك المرشَّح الإسلامي المعتدل عبد المنعم أبو الفتوح بالإضافة إلى مرشَّح جماعة الأخوان المسلمين محمد مرسي. ويعدّ مثل هذا الاختلاط الضيِّق بين السياسيين الذين يكافحون من داخل المؤسَّسات والمتظاهرين في الشارع أمرًا جديدًا ومن الممكن على الأقل أن يخلق الأمل في إمكانية توحيد المعارضة المصرية المنقسمة لكي تخرج منتصرة من الانتخابات الرئاسية على هذا النظام العسكري الحاكم.

 

ماتياس زايلر
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012