فرص جديدة لأفغانستان والغرب والعالم الإسلامي

يرى الصحافي البريطاني من أصل باكستاني المعروف أحمد رشيد في مقتل بن لادن فرصة للغرب، إذ يتعين على الرئيس الأمريكي أوباما بعد خطابه الشهير في القاهرة أن يترجم وعوده إلى حقائق على الأرض من خلال تعزيز العلاقات مع العالم الإسلامي بشكل أكبر.



أخيرًا تم القضاء إذًا على الرجل الذي يُعدّ من أكثر المطلوبين في العالم – ولم يجرِ ذلك في حصنٍ صخريٍ حصينٍ في الجبال، إنما في منطقة محترمة للطبقة المتوسطة في بلدة جبلية هادئة في باكستان، عمد مؤسسوها في القرن التاسع عشر على بنائها على طريقة ونمط المجمعات السكنية في جنوب انجلترا. وهنا اتضحت ثانية طبيعة الهالة التي أحاطت بزعيم تنظيم القاعدة، حيث تقع الفيلا الواسعة التي لجأ إليها في بلدة أبوت أباد بمحض الصدفة بجوار أرقى أكاديمية عسكرية في باكستان وبمحاذاة سوقٍ شعبيٍ معروفٍ.

استأثر أسامة بن لادن على مدى ثلاثة عقودٍ بقلوب مسلمين في كافة أنحاء المعمورة، وكان لعنةً على جيوشٍ وأجهزة مخابراتٍ في كافة أنحاء العالم. وحين ذهب في مطلع ثمانينيات القرن الماضي إلى بيشاور في باكستان، وشرع بإقامة مخابئ للمجاهدين الأفغان في المغارات باستخدام آليات الحفر مستفيدًا من الملايين التي جمعتها عائلته من مشاريع البناء ، لم يكُن بمقدور أحدٍ أنْ يتوقّع أنَّ هذا السعودي النحيف الخجول لكن الجذاب سيكون من شأنه أنْ يغيِّر العالم. إلا أنَّ هذا بالضبط ما حدث.

في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر دفع وهم ديني بمؤيديه إلى قتل حوالي ثلاثة آلاف إنسانٍ دفعةً واحدةً، واستخف هو بعد ذلك بالولايات المتحدة الأمريكية ساخرًا منها بدعوتها للقبض عليه إن كان ذلك في مقدورها. وصار شِعار تنظيم القاعدة: "نحن نحب الموت أكثر من الحياة." واتسع تأثيره في الأوساط المتطرفة بحيث لم تفلح جيوش في كافة أنحاء العالم بإثباط إستراتيجية تنظيم القاعدة.

تركيبة القاعدة

الصورة د ب ا

​​إن حقيقة تمكـُّنه على مدى عقدٍ من الزمن من الإفلات من وحدات القوات الخاصة والمخابرات ومن الطائرات الأمريكية بدون طيار، هي حقيقة يعتبرها الجهاديون نوعًا من تسجيل رقمٍ قياسي. إذ بذلك كان واضحًا بالنسبة لهم: أن الله قد بارك قائدهم وحماه. وحتى بعد سقوط نظام الطالبان، حيث تفككت شبكة تنظيم القاعدة، ولم يعد بمقدور بن لادن قيادة التنظيم وإصدار أوامره، استمر تأثير تنظيم القاعدة في الاتساع في العراق وشمال أفريقيا وأوروبا، لا بل حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سعى ؛حفنةٌ من المسلمين أيضًا للاستشهاد. بيد أنَّ تنظيم القاعدة لم يعد قائمًا باعتباره حركةً أو منظمةً أو رؤيةً نامية. أما الذي انتشر بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، فكانت فكرة الموت شهيدًا وقتل أكبر عدد ممكن من غير المؤمنين.

تحوَل تنظيم القاعدة إلى مجموعاتٍ هلاميةٍ مكوَّنةٍ من فرقٍ صغيرةٍ، إلا أنَّ هذا لم يقلـِّل من تهديدها (الذي ما زال مستمرًا إلى اليوم)، لأنه من شأن مقاتلٍ واحدٍ متسلـِّحٍ بعبوةٍ ناسفةٍ في ميدان التايمز في نيويورك التمكـُّن من إعادة الرعب وسفك الدماء كما حدث في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وعلى الرغم من اضمحلال المكانة القيادية لبن لادن منذ فترة طويلة، إلا أنه بقي بالنسبة للكثيرين رمزًا للاستشهاد والدمار لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ العالم الإسلامي.

وفي خضم الفوضى التي أحدثها أسامة بن لادن في العالم الإسلامي جرى تقسيم المسلمين إلى متطرفين ومعتدلين، وهذا أمرٌ لم يحدث بهذا الامتداد من قبل قط. وتابع في إحداث شرخٍ ديني عندما وصف ملايين من المسلمين المؤمنين بالزنادقة، لأنهم لم يقاسموه فكرة الإسلام المختزل على الجهاد المقدس. وأدت آراؤه المتطرفة إلى انتشار الرعب في صفوف الحكام الإسلاميين الاستبداديين، بحيث لم يتجرأ أحدٌ منهم على مجابهته فترة طويلة من الزمن. أما واقع حال العالم العربي اليوم فيقول إنَّ الجيل الشاب لا يخرج إلى الشوارع في سبيل الجهاد، بل في سبيل الحرية والديمقراطية. ولا يجوز هنا أن ننسى أنَّ أسامة بن لادن لم يستطِع بالرغم من مساعيه التي استمرت فترة ثلاثين عامًا أن يحصل على الدعم في العالم العربي، ما أدى إلى رفض كل المسلمين تقريبًا لرؤاه بخصوص الجهاد العالمي.

إرث بن لادن

الصورة ا ب
الثورات الشعبية العربية وجهت رسائل قوية ضد فكر القاعدة

​​


لكنْ على الرغم من ذلك سيُلقي إرثه بظلاله على جيلٍ تالٍ بأكمله في العالم الإسلامي. وسوف نسمع من أتباعه قريبًا، فمن المرجح وقوع أعمالٍ انتقاميةٍ في المستقبل القريب، وبالأخص عبر هجماتٍ انتحاريةٍ في أفغانستان، وفي باكستان والشرق الأوسط. كما أنَّ أفكاره بخصوص الجهاد لن تختفي ببساطة، لأن عددًا وافرًا من المجموعات الهامشية ما زالت تحملها وتؤمن بها. وحتى إنْ توقفت سطوة هذه الأفكار السياسية، إلا أنها ما زالت تؤثر في المجتمعات الإسلامية وتنشر التعصّب على نحو واسع إزاء المسيحيين واليهود والأقليات الدينية الأخرى وحتى ضد تياراتٍ ضمن الإسلام كالصوفيين على سبيل المثال.

ومع ذلك يبقى مقتل بن لادن فرصة للعالم أجمع، ولا بد للرئيس الأمريكي باراك أوباما الآن من أنْ يفي بوعوده التي أطلقها في خطاب القاهرة وأنْ يشرع في تشييد الجسور نحو العالم الإسلامي. أهم شيء في هذا السبيل هو أنْ يبذل الأمريكان جهدهم لإبرام اتفاق سلامٍ عادلٍ بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كما يتوجّب على الغرب في الوقت نفسه أنْ ينفتح على المجتمعات العربية الجديدة التي تنشأ على أنقاض الدكتاتوريات القديمة ويتعامل معها من موقع الصديق. إنَّ مقتل أسامة بن لادن سوف يجعل فتح محادثات سلام بين طالبان والحكومة في كابول والولايات المتحدة الأمريكية أسهل. فالآن بعد مقتل بن لادن لم تعد طالبان مدينة بعد لتنظيم القاعدة.

بعد سقوط نظام طالبان في عام 2001، قام تنظيم القاعدة بتمويل الحركة وتابع تدريبها. إلا أن قادة طالبان الأقدم كانوا قد ضاقوا ذرعًا بغطرسة الجهاديين العرب منذ فترة طويلة. وتريد طالبان استعادة وطنها خالٍ من الأجانب، بمن فيهم الأمريكان، كما أنَّ مصالحهم لا تقتضي ارتكاب هجمات على السفارات أو محلات السوبر ماركت في العواصم الغربية. وجديرٌ بالذكر في هذا الصدد أنَّ حركة طالبان الأفغانية لم تشارك حتى الآن أبدًا في الجهاد العالمي.

رؤية مستقبلية

أحمد رشيد، الصورة ا ب
"نحن أمام نقطة تحول، ويكمن العامل الحاسم في اغتنام الغرب والعالم الإسلامي للفرصة المتاحة أو عدم اغتنامها"

​​واليوم أصبح بالنسبة لطالبان أسهل بكثير أنْ تقطع علاقاتها بتنظيم القاعدة وأنْ تتفاوض باعتبارها حركةً أفغانيةً وليس باعتبارها جزءًا من الجهاد العالمي. ولا بدَّ لحلف شمال الأطلسي وللدول المجاورة من اغتنام الفرصة والعمل سياسيًا وعسكريًا، لكي يتفاوض الرئيس حميد كرزاي مع طالبان وينهي الحرب المستمرة منذ ثلاثةٍ وثلاثين عامًا. وأيضًا يتعيّن على باكستان، البلد الذي أصبح مرتعا للتطرف والتعصب، أنْ يغتنم الفرصة لتغيير وجهة سياساتها. وقد أظهر موقع مخبأ أسامة بن لادن مرة أخرى حدة الانقسام القائم في صفوف الجيش الباكستاني ووكالات الاستخبارات الباكستانية. لقد كان بن لادن بطلاً بالنسبة لبعض الباكستانيين، بسبب مقاومته للغرب وبسبب نقص الأبطال في باكستان. وربما يملك قادة باكستان الآن الشجاعة على تحطيم الأساطير المحيطة ببن لادن وعلى إظهار أنه كان سياسيًا طفيليًا دعا إلى الهجمات الانتحارية وشارك في تأسيس حركة طالبان باكستانية وحرّض على التعصّب في بلدٍ كانت أوضاعه الداخلية قبل وصوله إليه على ما يرام إلى حدٍّ بعيدٍ.

نضالٌ من أجل الاستقلال تبع استعمارَ المجتمعاتِ الإسلاميةِ من قِبَلِ الغرب. وبعد هذا النضال جاء الركود والطغيان. وظهر اسم أسامة بن لادن في مرحلة كان المسلمون يبحثون فيها عن طريقة للخروج من هذه التناقضات، بينما أراد هو أنْ يُرجعنا إلى غياهب الماضي البعيد. ينبغي على المسلمين اليوم إيجاد مخرجٍ من طريق التطرّف المسدود. فأبطال المتطرفين لقووا حتفهم أو هم ينازعون الروح، كما أفلست أيديولوجيتهم. ومن واجب قادة المجتمع المدني الإسلامي إزاحتهم بشكل نهائي إلى الهامش لكي يتسنى لنا مجددًا الذهاب إلى المساجد والمعابد والكنائس وممارسة معتقداتنا بحريةٍ ومتابعة حياتنا (كما قال مؤسس باكستان محمد علي جناح في عام 1947. والشباب العربي اليوم يطالب أيضًا بهذا). نحن أمام نقطة تحول، ويكمن العامل الحاسم في اغتنام الغرب والعالم الإسلامي للفرصة المتاحة أو عدم اغتنامها.

 

أحمد رشيد
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011

 

أحمد رشيد، صحافي بريطاني من أصل باكستاني وكاتب ومراسل لباكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى.