إسلام حداثي أم حداثة إسلامية: من يملك الحق في تأويل الإسلام؟

مئذنة جامع كابيتان كيلينغ في بينانج، ماليزيا. بُنِي في عام 1801 من قبل سكان بينانج الأوائل الهنود المسلمون المستوطنون (قوات شركة الهند الشرقية)، وهو أكبر جامع في (مدينة) جورج تاون. تصوير: باسكال مانيرتس
مئذنة جامع كابيتان كيلينغ في بينانج، ماليزيا. بُنِي في عام 1801 من قبل سكان بينانج الأوائل الهنود المسلمون المستوطنون (قوات شركة الهند الشرقية)، وهو أكبر جامع في (مدينة) جورج تاون. تصوير: باسكال مانيرتس

النقاش حول الإسلام هو الشغل الشاغل لأوروبا، سواء كان الأمر يتعلق بالحجاب أو الاندماج أو الثقافة الألمانية كثقافة أساسية في المجتمع أو الاحتفاء بنقاد الإسلام الشعبويين مثل غيرت فيلدرز. غير أن الناس ينسون أحياناً خلال هذا النقاش أن العالم الإسلامي يواجه جدلاً مماثلاً، حسبما يرى كريستيان ماير.

الكاتبة ، الكاتب: Christian H. Meier

في القرن الواحد والعشرين أصبح كل شخص على ما يبدو يعرف ما هو الإسلام – ولهذا تحديداً فإن النقاشات تزداد عدداً وتتزايد حدةً. فعندما يتناقش السويسريون أو الألمان حول قضايا الاندماج أو حول العلاقة بين الإسلام وحقوق الإنسان والديمقراطية فإنهم يغدون بذلك –عن وعي أو عن غير وعي – جزءاً من الصراع المحتدم في العالم كله حيث يتنازع كل طرف على الحق في تأويل الإسلام.

منذ فترة طويلة والصراع حول سلطة التأويل لم يعد محصوراً في قلب العالم الإسلامي، وإنما قد امتد ليصل إلى هامشه وإلى الغرب. بكلمات أخرى: لم تعد ماهية "الإسلام" موضوعاً ينفرد الجامع الأزهر بالقاهرة في الكلام عنه أو تتخصص فيها حلقة البحث الشيعية الفقهية في مدينة قم الإيرانية، كلا، لقد أصبح الإسلام مادة للنقاش في جبال أفغانستان ومساجد نيويورك وفي شبكة الإنترنت. كما بات – بالطبع أيضاً – محور تعليقات الصحف الأوروبية.

هذا الصراع حول الإسلام – إذا أردنا استخدام كلمة "صراع" – اكتسب أبعاداً غير متوقعة عبر العولمة ووسائل الإعلام. غير أن هذا الصراع يخفي من ورائه قلقاً عميقاً تشعر به الأمة الإسلامية: من له الحق في التحدث باسمها؟ ومن يشير إلى الطريق الصحيح؟ من يحدد عقيدة المسلمين؟

انقسام واستقطاب

الصورة د ب ا
حمام دم: خلال صلاة الجمعة في نهاية شهر مايو / أيار العام الماضي هاجم متعصبون مسجدين بمدينة لاهور شرقي باكستان، وراح ضحية الهجوم ما لا يقل عن 80 شخصاً.

​​يربطون في أحيان كثيرة بين القرن الحادي والعشرين وإحياء الدين، وإذا طبقنا هذا على الإسلام فلابد أن نتحدث عن عملية انقسام واستقطاب. فهناك المصلحون الشجعان الذين لا يأخذون بحرفية المصادر الدينية بل يحاولون تأويلها حسب روح النص. وهناك المحافظون من ذوي اللحي الرمادية، وهؤلاء لديهم تعليمات تفصيلية يستمدونها من السنة النبوية عن كل حركة وكل فعل يقوم به الإنسان. وهناك المحرضون الذين يفضلون تأويلاً للإسلام يحض على الفعل، وهم يجعلون من المسلمين الآخرين هدفاً محبباً لنقدهم.

ما يجمع كل هؤلاء هو التصور المحدد لما يجب على المسلم أن يفعله أو أن يفكر فيه، وخاصةً فيما يتعلق بالأشياء التي يجب عليه أن يرفضها. إننا نجد على أحد الطرفين مجموعة تهدف إلى تحويل كل الصفات الإسلامية إلى مستوى ميتافيزيقي عام، وعلى الطرف الآخر النقيض هناك من يفرق تفرقة جامدة ومتعصبة بين العدو والصديق.

عواقب هذا التقسيم تصيب أول ما تصيب الأقليات الدينية والمرتدين، إذ أن الدفاع عن "الإسلام الحقيقي" يتم في المقام الأول على الهامش، والضربات التي استهدفت مسجدين تابعين للجماعة الأحمدية في لاهور في نهاية شهر مايو / أيار العام الماضي بيّنت على نحو دموي الوضع الشائك لهذه الجماعات التي يرفض البعض نسبتها إلى أمة الإسلام. وإذا عرفنا أن الدولة الباكستانية رفضت في عام 1974 الاعتراف بالجماعة الأحمدية التي تأسست عام 1889 كجماعة مسلمة فإن هذا يُظهر مدى هشاشة وضعها.

حروب التكفير

القرضاوي، الصورة د ب ا
اشتُهر الداعية السني و"المفتي العالمي" يوسف القرضاوي عبر البرنامج التلفزيوني "الشريعة والحياة" الذي تقدمه فضائية الجزيرة في دولة قطر التي اتخذها القرضاوي موطناً.

​​في الآونة الأخيرة أصبحت هناك تسمية للجماعات التي تُكَفِّر المسملين الآخرين، وهم "التكفيريون". ولم يعد نشاط التكفيريين منذ سنوات كثيرة مقتصراً على مجرد أقليات مسلحة. هناك من علماء الدين في الجامع الأزهر العريق من تعاون مع المتطرفين إذا دار الأمر حول تأديب المفكرين المُقلِقين، كما نرى مثلاً في حالة الكاتب فرج فودة الذي قُتل في عام 1992 أو في حالة الباحث والناقد نصر حامد أبو زيد الذي توفي مؤخراً والذي اُعتبر مرتداً عن صحيح الدين. بآرائهم حول الإسلام أو القرآن تحدى المفكران علماء الدين التقليديين ونازعاهم في حق التأويل، وهو ما أدى إلى إعلان خروجهما عن الإسلام.

لقد تفجرت في الآونة الأخيرة حروب تكفيرية حامية الوطيس بين الجماعات الراديكالية الصغيرة، وخلال هذه الحرب تقوم كل جماعة على شبكة الإنترنت باتهام الأخرى بالردة، غير أن تلك الحروب ليست سوى مظهر هامشي صغير غريب في تطور هو – عموماً – يتسم بالخطورة. وطالما ينجح الأصوليون المرة تلو الأخرى في إثارة اهتمام الناس عبر التأويل العقيدي الخاص بهم، دون أن يواجههم أحد بحسم، فإن الخطر يهدد ترابط المسلمين من الملل والنحل المختلفة. غير أن علماء الدين المشهورين من ذوي النفوذ الذين يمثلون التيار الرئيسي في الإسلام غالباً ما يُنظر إليهم باعتبارهم بوقاً للحكام من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنهم يتورطون في أفعال سياسية.

أما الفراغ الناشئ عن ذلك فقد ملأه آخرون بكل حسم وعزم: فمن ناحية هناك "الإسلاميون الهواة" مثل أسامة بن لادن وإرهابيي القاعدة، ومن ناحية أخرى هناك رجال الدين التلفزيونيون مثل يوسف القرضاوي. هذا الرجل المتجهم البالغ من العمر 84 عاماً يصدر فتاوى في برامجه التلفزيونية تشمل كل صغيرة وكبيرة في حياة ملايين من المسلمين، وهو أمر ربما يكون أكثر دلالة من أي شيء آخر على حالة الإسلام في العالم المعاصر. الأمة الإسلامية تبحث عن القيادة الروحية وتجدها في التلفزيون.

 

[embed:render:embedded:node:35571]

 

غير أن هذا التشبية ينطبق أيضاً على الغرب، ليس فقط بسبب حضور الإسلام المغترب أو لأن القرضاوي تحول منذ أمد بعيد إلى ما يشبه "المفتي العالمي" كما أطلق عليه أحد الكُتَّاب في كتاب صدر حديثاً بذات العنوان. إن تأثير الغرب أعمق من ذلك – وأقدم من ذلك، إذ إن المصلحين الدينيين الكبار من عصر النهضة العربي في القرن التاسع عشر كانوا متأثرين بالأفكار الغربية حول الدولة والدين والمجتمع.

عديدون منهم كانوا ينفرون نفوراً بالغاً من الممارسات الصوفية أو الشعبية للمسلمين لأنها كانت تتعارض مع رغبتهم في سيادة الفكر العقلاني. ولهذا منع محمد عبده مؤلفات الشيخ الصوفي ابن عربي الذي عاش في القرون الوسطى، أما تلميذه رشيد رضا فقد هاجم هجوماً عنيفاً الموالد والاحتفالات بالأولياء.

تسليط الضوء على التطرف

الصورة ويكيبيديا
الشيخ محمد عبده (1849 – 1905) منع مؤلفات الشيخ الصوفي ابن عربي الذي عاش في القرون الوسطى.

​​منذ ذلك العصر على أقل تقدير أضحت أوروبا عاملاً في تطور الفكر الإسلامي – دون أن يعي معظم الأوروبيين ذلك. هذا أمر ينطبق أيضاً على الموضوعات الجدلية الكبرى في الوقت الراهن، مثلاً قضية سلمان رشدي وروايته "آيات شيطانية"، أو النزاع حول الرسوم الكاريكاتورية: هذا الجدل يؤثر في الإسلام بقدر تأثيره في أوروبا. إن نظرة الغرب حاضرة دائماً في نقاشات المسلمين حتى وإن كانت الممانعة هي سمة الحضور.

لقد وصف المؤرخ المويتاني محمد المختار ذلك وصفاً صائباً عندما تعرض للنقاش الدائر حول النقاب، فحسب رأيه فإن القانون الفرنسي الذي يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة قد أثّر في النقاش الدائر في العالم الإسلامي: "لقد أدى القانون الفرنسي إلى حدوث حالة من التضامن بين المسلمين الذين لا علاقة لهم بالنقاب وبين مرتديات النقاب، لأنهم يرون في قوانين كهذه دليلاً إضافياً على كراهية الغرب للإسلام".

هذا التعامل مع الأفعال الغربية، سواء كانت أفعالاً حقيقية أو مُتخَيلَة، تحكمه آلية معقدة، أما نتائجه فلا يمكن التنبؤ بها مسبقاً على الإطلاق. أما الصراع حول سلطة الرأي في الإسلام فقد اكتسب بذلك بعداً جديداً. غير أن كل هذه النقاشات، سواء كانت إسلامية أو غربية، تعاني من المرض نفسه، إذ يتم في الغالب انتقاء المواقف المتطرفة من بين الآراء المتنوعة تنوعاً كبيراً، وهكذا يتم اختزال الإسلام في مواقف واضحة متضادة. هذا ما عبر عنه ذات مرة المفكر الإسلامي السويسري طارق رمضان عندما قال إن العالم الإسلامي غالباً ما ينظر إلى أشخاص مثله - يعتبرون أنفسهم مصلحين – نظرة دونية باعتبارهم عملاء للغرب أو مرتدين. وفي الوقت نفسه فإنهم في الغرب يُصنفون في خانة "الأصوليين".

 

كريستيان هـ. ماير

ترجمة: صفية مسعود

 

حقوق الطبع: صحيفة "نويه تسوريشر تسايتونغ" / قنطرة 2011

كريستيان هـ. ماير باحث في العلوم الإسلامية، وهو أحد المشرفين على إصدار مجلة "زينيت" المهتمة بشؤون الشرق.