قاتل خائن لوطنه

قلة ضئيلة فقط من العاملين في أجهزة الإعلام التركية كانوا يشاطرون هرانت دينك في السابق أفكاره وآراءه السياسية إلا أنهم اتفقوا الآن على التنديد بالجريمة التي وقع ضحيتها هذا الصحافي المرموق. انتيه باور تلخص فيما يلي ردود الفعل المختلفة للصحف التركية الصادرة في الأيام الأخيرة.

"رصاصة العدو جاءت بمردود عكسي لمن أعد لها، فتركيا متحدة في تقييمها لهذا الحدث". نشر هذا العنوان الرئيسي في جريد "حريت" التركية الواسعة الانتشار بعد يوم واحد من اشتراك 100000 شخص في تأبين الصحفي الأرمني هرانت دينك الذي لقي مصرعه قتلا قبل أيام في استانبول.

أما في جريد "مليت" فقد كتب المعقب الصحافي فكرت بيلار وشعور الارتياح ينتابه " لقد أثبت الشعب التركي مجددا بأنه يرفض القتل والسياسات الدموية وتشكيل الجبهات واستخدام السلاح".

رصاصات قاتلة مسددة ضد تركيا

هاتان المقولتان تعكسان بوضوح التوجه الرئيسي العام للصحافة التركية فيما يختص بتقييم جريمة القتل التي وقع هرانت دينك ضحية لها. كان هذا التوجه الرئيسي قد صدر في الأصل عن رئيس الحكومة طيب إردوغان في أول تعقيب رسمي جاء بهذا الشأن. فقد قال رئيس الحكومة إن نيران الرصاص القاتلة قد استهدفت تركيا بكاملها.

بدأت أكبر أجهزة الإعلام التركية تسخر مقتل هرانت دينك للتشديد والتأكيد على وحدة الوطن مجددا، مع العلم أن هذا الصحافي أجبر في السابق على المثول أمام القضاء كما أن نفس أجهزة الإعلام المذكورة عمدت إلى الطعن به واتهامه بالخيانة في حق الوطن بسبب ما صدر عنه من تصريحات حول القتل الجماعي الذي تعرض له الأرمن.

بغض النظر عن التوجه الإعلامي العام المشار إليه والإجماع في تنديد كافة الأطراف بالعنف الذي وقع فقد اتضح بناء على الكتابات المختلفة الصادرة في الصحف عن مقتل هرانت دينك وحول ردود الفعل على ذلك التفاوت والاختلاف إزاء الخلفية الفكرية للكتاب وكيفية تقييم كل منهم للصحافي هرانت دينك ولإشكالية الأقليات في تركيا على وجه عام.

تهديد لحرية التعبير عن الرأي

عبر الصحافي مليح بيكديمير في الجريدة اليسارية اليومية "بيرغون" التي كان هرانت دينك يعمل بها عن استيائه من الأحداث الأخيرة التي وقعت ، فكتب قائلا "أنتم تقولون إن هذا الرصاص قد أطلق على حرية التعبير عن الرأي. أما في واقع الأمر فقد أطلق الرصاص على أدمغتنا التي أفرزت هذا النمط من الأفكار، أما أفكاركم فلم تمس". هذا ولم يفصح الكاتب المذكور عمن يقصدهم بالتحديد في مقاله.

بناء على افتراضات عصمت بيركان رئيس تحرير جريدة "راديكال" ذات التيار اليساري الليبرالي فإنه يتصدر مع الكاتب أورهان باموك الذي نال جائزة نوبل قائمة الأفراد الذين توعدت جهات معينة بقتلهم. كما هاجم عدد كبير من المعلقين الصحافيين الحكومة لكونها لم توفر لهرانت دينك حراسة إجبارية بهدف حمايته علما بأنه كان قد تلقى عدة تهديدات بالقتل في حين عمدت الحكومة في هذه الأثناء إلى وضع حراسة على كل من بيركان وباموك.

في إحدى المقالات الصادرة عن بيركان يمعن هذا الكاتب في التفكير في نمط الحماية الجبرية التي قد تفرض على شخص ما دون طلب منه وعما إذا كان يتعين عليه الآن أن يدير ظهره لتركيا الآن قبل أن يحل به المصير الذي حل بهرانت دينك. لكنه يتوصل في آخر المطاف إلى الاستنتاج بأن عليه أن يبقى في البلاد.

الحديث يحوم حول المتآمرين والخونة

ارتدت جريد "حريت" الشعبية الواسعة الانتشار قناعا ليبراليا. ففيما قلب رئيس تحريرها ايتسكوك الوضع رأسا على عقب مظهرا قاتلي الصحافي هرانت دينك بأنهم من الأفراد "الذين خانوا وطنهم" عمد المعقب أمين كولازان المتسم بنزعة قومية متطرفة في نفس ذلك العدد إلى ترديد النظرية المحببة لديه، القائلة بوجود مخطط تآمري لفئات أجنبية ومشيرا إلى احتمال أن يكون الهدف من مقتل هرانت دينك هو طوي صفحات مصير العديد من الآخرين الذين وقعوا ضحية القتل لأسباب سياسية.

شدد أحمد شاهين في جريد "زمان" الإسلامية المعروفة بطرحها النزيه الجدي استنادا على وقائع تعود إلى عهد النبي محمد على أنه لا يحق للمسلم أن يعامل أحدا من غير دينه معاملة مبنية على التمييز العرقي أو أن يعمد إلى قتله لهذا السبب. لكن جريد "وقت" المعروفة بتيارها الشوفيني والإسلاموي المتطرف تعاملت مع حادثة القتل بروح الثقة المتناهية بالنفس. فقد صرح معلق هذه الجريدة سيردار ارسيفين بأن النظرية (التي ثبتت صحتها على أرض الواقع) القائلة إن مدبري جريمة القتل التي وقع هرانت دينك ضحية لها هم من القوميين المتطرفين التابعين لـ"حزب الوحدة العظيم" لا تعدو كونها محاولة لتدمير هذا الحزب الذي يجتذب "جانبا من الشباب المتحلي بديناميكية فائقة".

دولة الإنحراف

ساد أغلبية أجهزة الإعلام بعد الاغتيال الذي وقع هرانت دينك ضحية له اتفاق حول ضرورة كشف النقاب عن مدبري جريمة القتل هذه. هذا وقد ساور الصحف الظن بكون المسؤولين عن جريمة القتل ينضوون إما في صفوف القوميين المتطرفين أو الإسلامويين أو جماعات تابعة لـ"دولة الانحراف" وهو تعبير يرمز في تركيا لأتباع المافيا أو للمنتفعين من المحسوبية السياسية. أما الآن فقد بدأت الصحف الواسعة الانتشار تميل إلى ترجيح كفة نظرية جديدة أخرى:

على سبيل المثال كتب ايتسكوك في جريدة "حريت" يقول "المجموعات المريضة عقليا والتي تسكن في الضواحي الفقيرة للمدن باتت تشكل تدريجيا أشد دوائر الإرهاب خطرا داخل مجتمعنا. هذا الشأن ليس إذن سياسيا بل له طابع اجتماعي وثقافي. لهذا فالحاجة ماسة الآن للأخصائيين النفسيين".

انتيه باور
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2007

قنطرة

غياب صوت معتدل وإنساني
يعم تركيا الآن الذهول بعد اغتيال واحد من أشهر صحفييها من مواطنيها الأرمن. هذا الحدث المأساوي ألقى الأضواء على ملف حقوق الإنسان في تركيا وطريقة تعاملها مع الأقليات فيها. تقرير دوريان جونس من اسطنبول.

معاقبة التاريخ بالقوانين الجزائية
في نوافذ المتاجر في تركيا يشاهد المرء إعلانات كتب عليها: "قاطعوا البضائع الفرنسية". بدأ هذا الاحتجاج بعد أن وافق البرلمان الفرنسي على قانون لمعاقبة إنكار المذابح الجماعية التي اقترفت في تركيا بحق الأرمن إبّان الحرب العالمية الأولى. تقرير عمر إرزيرين