حزب العدالة والتنمية محركا للديمقراطية ومثالا لرؤية سياسية تصالحية

يرى أستاذ العلوم السياسية اليوناني في جامعة إيفليك التركية، أيونانيس جيرجورياديس، في مقالته التحليلية أن تجربة حزب العدالة والتنمية السياسية الناجحة بوصفه محركا لعجلة الديمقراطية وقاطرة الإصلاح في تركيا وإن تأخرت في بعض مراحلها تعد مثالا قويا للانسجام بين الإسلام والديمقراطية.

 طيب أردوغان، الصورة: ا.ب
ينظر إلى حزب العدالة والتمنية على أن ثمرة للإسلام السياسي الذي قاد عجلة الإصلاح الاقتصادي والسياسي

​​ كان صيف 2008 بالنسبة لتركيا صيفا ساخنا. ولم تكن إجراءات حظر "حزب العدالة والتنمية" شيئا جديدا، فمنذ تأسيس المحكمة الدستورية التركية عام 1962 تم حتى الآن حظر 24 حزبا سياسيا، ولكن الأمر يتعلق هذه المرة بحزب حاكم. والسبب الرئيسي وراء هذا الحظر هو الإدعاء بأن الحزب أصبح "بؤرة للأنشطة المضادة للعلمانية". وصدر الحكم في 30 يوليو / تموز 2008 بعدم الحظر، إذ قام ستة قضاة من ضمن أحد عشر قاضيا بالتصويت لصالح حظر الحزب، وبهذا لم يكتمل النصاب القانوني، حيث يلزم تصويت سبعة قضاة لصالح الحظر.

وخرج حزب العدالة والتنمية من المحكمة بإنذار وحرمانه من بعض التمويل والمساعدات المقدمة من الدولة. وبهذا أمكن في الآونة الأخيرة تفادي وقوع "الانقلاب القضائي التركي" الذي لاكته الألسنة. وعليه تفادى البلد أزمة كبيرة وإجراء انتخابات جديدة، وكذلك أيضا تم تفادي زيادة حدة الصراع بين قطاعات المجتمع ذات التوجه العلماني والقطاعات ذات التوجه الإسلامي. هذا القرار صادف أيضا قبولا حسنا لدى سوق المال التركية، ولقي الحكم القضائي ترحيبا من المجتمع الدولي وأنصار انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

حزب العدالة والتنمية إلى أين؟

لِمَ كل هذا الاهتمام بمصير هذا الحزب؟ لو قُدّر لهذا الحزب - الذي فاز بحوالي 47 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية عام 2007 – أن يحظر دون سبب مقنع لأصبحت الديمقراطية التركية أضحوكة الناس. وعلاوة على ذلك أصبح حزب العدالة والتنمية احدى القوى السياسية الهامة في قضية "دَمَقرطة تركيا" وكانت مواقفه مؤيدة للاتجاه الأوروبي منذ توليه السلطة عام 2002.

صورة رمزية
يرى العديد من المحللين والمراقبين أن تجربة حزب العدالة والتنمية السياسية تشكل نموذجا للأحزاب الإسلامية في العالم الإسلامي

​​ كما قام الحزب بتنفيذ برامج إصلاحية تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ تركيا الحديث، وأدت سياسته إلى اتخاذ المجلس الأوروبي في عام 2004 قرارا ببدء مفاوضات الانضمام. إذن فإن قُرب تحقيق الحلم الأوروبي لتركيا يرجع الفضل فيه بالذات إلى حزب ذات جذور إسلامية. ومنذ أن فرض هانتنجتون نظرية "صراع الحضارات"، يدور الجدل عن إمكانية وقوف الإسلام حائلا أمام الحكومات الديمقراطية في الشرق الأوسط. هذا الجدل ازداد حدة بعد الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 وبعد اجتياح الأمريكان للعراق عام 2003.

علمانية الدولة التركية

يرى البعض أن استحالة الفصل بين الدين والدولة لها مبررات في الإسلام تجعل قيام حكومة ديمقراطية في بلد مسلم غير ممكن، وفي حالة تركيا فالوضع يختلف بسبب برنامجها العلماني المتشدد. لقد بدأ أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، إصلاحاته الراديكالية بهدف "النهوض بتركيا إلى المستوى الحضاري الحديث"، إذ كان الإسلام يُعتبر أيام الخلافة العثمانية أحد الأسباب الرئيسية لضعف التطور. لهذا فينبغي أن يكون التجديد متماشيا مع المجتمع الغربي "اللاديني".

وتم وضع الإسلام كديانة تحت رقابة الدولة مباشرة، وتم حظر التيارات الإسلامية. وبهذا تطورت العلمانية وأصبحت من المبادئ الأساسية لتركيا. وعلى الجانب الآخر من الطبقة الوسطى - ذات التوجه العلماني والتي أيدت هذه الإصلاحات – لم تلق هذه الإصلاحات إعجابا كبيرا، ولم تُعْرض غالبية المواطنين عن الإسلام وظلوا مرتابين من طموحات أتاتورك التجديدية.

حزب العدالة والتنمية ثمرة تغير الإسلام السياسي

من الواضح أن ذلك قد حدث عام 1946 عندما طُبّق نظام تعددية الأحزاب، وحازت الأحزاب التي حادت عن طريق العلمانية الكمالية حُبّ الناس. لهذا أصبح خطر الأسْلمة ذريعة رئيسية لحظر الأحزاب ولِتدخل الجيش. مما لم تلتفت إليه النخبة ذات التوجه العلماني وجود قضية تجديد أخرى تسري في البلاد بالتوازي مع قضية التجديد الرسمية. ولم ترد النخب المثقفة التخلي عن الإسلام وانتقدت الإصلاحات الكمالية، واقترحت صيغة أخرى كبديل للتجديد التركي تربط بين القيم الإسلامية والغربية. واستفاد أعضاء الطبقة المسلمة الجديدة في الغالب من انفتاح تركيا على الاقتصاد العالمي في ثمانينيات القرن العشرين، لأنهم أدركوا المزايا الاقتصادية والسياسية الاجتماعية لعضوية الاتحاد الأوروبي.

صورة رمزية
"حزب العدالة والتنمية أدرك أن الاندماج في أوروبا يعتبر من أفضل مقومات التطور الاقتصادي والسياسي للبلاد"

​​ إن حزب العدالة والتنمية، الذي يُعتبر ثمرة تغير الإسلام السياسي، أصبح الممثل السياسي لهذه الاتجاهات. وبعد أن تم الإقلاع عن الشكوك في "أوروبا المسيحية" بدأ السعي في الانضمام للاتحاد الأوروبي. ذلك لأن المرء أدرك أن الاندماج في أوروبا يعتبر من أفضل مقومات التطور الاقتصادي للبلاد، وأن تحقيق شروط العضوية في الاتحاد تؤدي إلى دعم الديمقراطية. وفي نهاية الأمر قد يتحقق حلم تركيا القديم في أن تصبح جزءا من المجموعة الأوروبية للسلام والاستقرار والتعاون. وعليه فمن الممكن أن يصبح تطور الانفتاح الليبرالي أساسا لاحترام حقوق الإنسان بالكامل. وفي الوقت نفسه قد يساعد هذا التطور على التسامح بين طبقات المجتمع التركي، مثل المواطنين ذوي التوجه العلماني والاسلاميين أو الأتراك والأكراد أو العلويين وغير المسلمين.

مشروع النخبة العلمانية؟

وفي المقابل لم تستطع النخبة العلمانية ذات التوجه الغربي التقليدي التعامل مع سياسية حزب العدالة والتنمية المتغيرة ولم تقدم صيغة بديلة للاندماج في أوروبا، ومن الممكن رؤية هذا الإخفاق في كبرى الأحزاب المعارضة "حزب الشعب الجمهوري"، فبدلا من أن يصبح هذا الحزب في مقدمة عملية الاندماج التركي الأوروبي اتخذ موقفا مناهضا للاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى أن أصبح حزب العدالة والتنمية هو الوحيد الذي يؤيد العضوية في الاتحاد الأوروبي.

لقد قام "حزب الشعب الجمهوري" بالتعاون مع العناصر الرجعية العسكرية والمدنية، حيث أدرك هؤلاء أن توطيد الديمقراطية قد يؤدي إلى تقويض دورهم وامتيازاتهم. علاوة على ذلك بثّ حزب الشعب الجمهوري المخاوف بين الطبقة المتوسطة ذات التوجه الغربي، مما جعلها تزداد قلقا من احتمال اكتساب حزب العدالة والتنمية نفوذا أكبر. وكانوا يوجهون التهمة لحزب العدالة والتنمية أنه يخفي وراء التوجهات نحو الاتحاد الأوروبي والدمقرطة خطة أسْلمة تركيا. وفسروا أيضا ترشيح عبد الله غول للانتخابات الرئاسية عام 2007 بأنه خطوة في هذا الاتجاه، وأدى رد فعل حزب الشعب الجمهوري والبيروقراطية إلى فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات يوليو / تموز 2007. بيد أن حزب الشعب الجمهوري استمر في حملته التخويفية وتجاهل في ذلك الأخطار الجدّية للديمقراطية التركية، مثل تدخل البيروقراطية في عملية الدمقرطة وتواجد الجماعات الإرهابية العنصرية العلمانية كمنظمة إرغينكون Ergenekon. لقد أرادت منظمة إرغينكون زعزعة استقرار تركيا من خلال القيام بسلسلة من العمليات الارهابية والتحريض على انقلاب عسكري لتقويض محاولات الانضام إلى الاتحاد الأوروبي.

حزب العدالة والتنمية كمحرك للديمقراطية

مدينة اسطنبول
انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي يشكل فرصة لتعزيز الحوار بين العالمين الإسلامي والغربي

​​ لكن المرء لا يريد أن ينسى أن حزب العدالة والتنمية قد ساهم في خلق جو سياسي مشحون بالشبهات، ومنذ 2004 أصيبت هِمّة الحزب الإصلاحية بالفتور والتورط في مسائل عنصرية تتعارض مع الاتحاد الأوروبي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. كما أن العجز في تحقيق تقدم تجاه حقوق العلويين وغير المسلمين يثير شكوكا حول إمكانية تطبيق حقوق الإنسان خارج الاهتمامات السّنية. ولم يقم حزب العدالة والتنمية بالتلميح بأن تخفيف القيود على المسلمين لن يؤدي إلى الإضرار بالأتراك العلمانيين.

وكان من الأخطاء التكتيكية الكبرى أن يركز الحزب بعد انتخابات 2007 اهتمامه على مناقشة موضوع الحجاب رغم أنه لم يُدخل هذه المناقشة ضمن الإصلاحات الدستورية الكبرى لتمكين حقوق الإنسان للأتراك جميعا. وعليه استطاع حزب الشعب الجمهوري تأجيج المخاوف من الخطط الإسلامية المستترة، وأعطت هذه المخاوف المدعي العام ذريعة للقيام بإجراءات الحظر ضد حزب العدالة والتنمية.

وعلى الرغم من كل عيوبه يبقى حزب العدالة والتنمية – لاسيما إذا وضعنا في الاعتبار عدم وجود حزب علماني بتوجهات أوروبية - المحرك الرئيسي للتغيير الديمقراطي. وبمساعدة أغلبيته البرلمانية الراسخة يمكن لحزب العدالة والتنمية دفع الإصلاحات الديمقراطية إلى الأمام، الشيء الذي قد يقرّب تركيا من عضوية الاتحاد الأوروبي ويزيل الشكوك المتعلقة بالنوايا الخفية على المستوى القومي. وبفضل نشأته كـ"حزب الرجل الصغير" كان حزب العدالة والتنمية مهيئا لتعبئة جمهور غفير من الأتراك لمساندة المشروع الأوروبي. إن إقناع الناس بقبول القيم الأوروبية الليبرالية الديمقراطية يعد من المهام الصعبة، بيد أنه لا يوجد حزب أكفأ من حزب العدالة والتنمية لهذه المهمة.

ومن الممكن أن يكون لنجاحه تأثيرٌ سياسيٌ على العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي. وأهم من ذلك أن نجاح حزب العدالة والتنمية يعد مثالا قويا للانسجام بين الإسلام والديمقراطية. ذلك أن الأحزاب ذات النشأة الإسلامية لا يمكن اعتبارها تلقائيا عدوة للديمقراطية، إذ أنه من الممكن أن تتخذ هذه الأحزاب لنفسها نظاما ديمقراطيا إذا وجدت تشجيعا واتخذت الأساليب السياسية لذلك. وأخيرا فإن قرار المحكمة الصادر في 30 يوليو / تموز 2008 يمكن أن يَحول دون وقوع انتكاسة قوية بشأن الجهود التي ترمي إلى المصالحة بين الإسلام والديمقراطية.

أيونانيس جيرجورياديس
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع: مجلة تبادل الثقافات/ قنطرة 2009

أيونانيس جيرجورياديس، مختص بالشؤون التركية وحصل على الدكتوراة من جامعة لندن في العلوم السياسية ويعمل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة إيفليك التركية.

قنطرة

حوار صحفي مع محمد مجتهد شبستاري (الجزء الثاني)
"يمكن التوفيق بين الإسلام والديمقراطية"
يعتبر محمد مجتهد شبستاري واحدا من أهم علماء الدين الشيعة. يتحدث شبستاري في الجزء الثاني من الحوار الصحفي المطول الذي أجرته معه فاطمة الصغير عن علاقة الديمقراطية بالإسلام وعن كيفية تأثير الثورة الإيرانية على فكره.

حوار مع المفكر السوري الطيب التيزيني:
"التطرف نتاج غياب الحريات والديمقراطية"
يري المفكر العربي المعروف الطيب التيزيني، أستاذ العلوم السياسية والفلسفية في جامعة دمشق، أن الحركات الإسلامية الأصولية تقطف ثمار غياب الحرية في العالم العربي. كما يرفض فرضية الصراع بين الأديان ويشدد على أن هذا الصراع يمثل في الواقع صراع هيمنة على الثروات النفطية في العالم الإسلامي. عفراء محمد حاورته في دمشق.

محمد شحرور:
لا أمل في إصلاح سياسي دون إصلاح ديني!
فرض المفكر الإسلامي السوري الدكتور محمد شحرور نفسه على الساحة الثقافية الإسلامية بقوة منذ صدور كتابه الموسوعي "الكتاب والقرآن ـ قراءة عصرية" الذي طرح فيه نظرة جديدة للإسلام من خلال المنهج اللغوي كما دعا فيه إلى فقه جديد في قضية المرأة المسلمة. وقد تعرض شحرور في الآونة الأخيرة إلى حملة إعلامية شديدة وصلت إلى حد المطالبة بمحاكمته بسبب ما اعتبر انتقاص من شأن الرسول ومن أحكام إسلامية وردت في القرآن والسنة. في الحوار التالي يطالب شحرور بإصلاح ديني جذري في العالم العربي