أوليفييه روا: أسلمة الأحجار أسهل من أسلمة الأرواح

أول صلاة جمعة (24 / 07 / 2020) تقام في مبنى آيا صوفيا في إسطنبول بعد نحو 86 سنة، أثارت صورها ردود فعل عالمية عاطفية ومتنوعة. في هذا اليوم ووسط جدل دولي تقدَّم الرئيس التركي إردوغان صفوف المصلين صلاةَ جماعة، في الجامع المُعاد افتتاحه بالجزء الأوروبي من حاضرة تركيا المليونية. الصحفي إرين غوفيرجين سأل الباحث الفرنسي الشهير أوليفييه روا عن مغزى إعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، في الحوار التالي لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Eren Güvercin

سيِّد روا، ما الذي دفعَ الرئيس إردوغان إلى إعادة افتتاحِ آيا صوفيا للعبادةِ الإسلاميةِ؟ هل يتعلقُ الأمرُ بالدين فعلاً؟

أوليفييه روا: لم يكن مدفوعاً بالدينِ فعلاً بل كان مدفوعاً بالأيديولوجيةِ. لماذا يفعلُ ذلك الآن وليس قبل 20 عاماً عندما تولّى السلطة؟ بالنسبةِ له فإنّ ذلك رمز لسياسته المتمثلةِ في "العودةِ إلى النموذجِ العثماني" الذي سيطرَ على سياسته الخارجيةِ منذ رحيل أحمد داوود أوغلو.

ورغم ذلك، فإنّ هذه المرجعية العثمانية لا تُترجمُ إلى سياسةٍ داخليةٍ، وهي سياسة تقومُ إلى حدٍّ كبيرٍ على نسخةٍ محافظةٍ من القوميةِ. وهكذا فإنه "يستعرض" العودةَ إلى العثمانيةِ في ذكرى معاهدة لوزان، التي نظّمت الوضع الدولي الجديد للجمهوريةِ التركيةِ.

ما الذي يحاولُ التعويض عنه بهذا القرار؟

روا: التراجع المتزايد في شعبيته. كما أنه مجاملة لليمينِ القومي، والذي دائماً ما كان على أجندته موضوعُ تحويلِ آيا صوفيا إلى مسجدٍ. لقد خسرَ الانتخابات البلدية الأخيرة في إسطنبول وأنقرة، وتحوّل حزبه إلى منظمةٍ تديرها العشيرةُ والعائلةُ منذ رحيل العقولِ المستقلةِ مثل أحمد داوود أوغلو وعبد الله غُل وعلي باباجان.

ومن المفارقاتِ، فإنّ حزبَ العدالةِ والتنميةِ لم يسيطر قط على المجال الديني، مثل المساجدِ ومدارس إمام خطيب. إذ شكّلت حركة غولن الذراعَ الديني لحزبِ العدالة والتنميةِ لسنوات طويلة، وهي الحركةُ التي خانت إردوغان، وهذه الحقيقة جعلته أكثر ارتياباً.

كما لم ينجح في "أسلمةِ" المجتمع بشكلٍ معمّقٍ، ما عدا في بعضِ النقاطِ الهامشيةِ مثل حريةِ ارتداءِ الحجابِ، وزيادةِ الضرائبِ على المشروباتِ الكحوليةِ، وإعادة كتابةِ بعض النصوص المدرسية، وما إلى ذلك. فأداته الدينية الوحيدة هي "ديانت" (رئاسة الشؤون الدينية التركية)، وهي بيروقراطية -من بيروقراطيات الدولةِ- تفتقرُ إلى أي قدرةٍ على حشدِ الشبابِ أو إثارةِ إحياءٍ روحيّ ديني.

أوليفييه روا عالم سياسي فرنسي وخبير في الدراسات الإسلامية.  (photo: AFP/getty Images)
According to Olivier Roy, there has been no great popular enthusiasm for the transformation of Hagia Sophia into a mosque: “only a few thousand believers attended the prayers, while Greater Istanbul counts 16 million inhabitants, and I am unaware of popular demonstrations of support across the rest of the country, not to mention the Muslim world," says Roy.

كانت آيا صوفيا رمزاً هاماً للإسلامِ السياسي في تركيا لعقودٍ عديدةٍ. ومثل رئيس الوزراء السابق إربكان من قبله، زعم إردوغان مراراً وتكراراً أنّ "تحرير" آيا صوفيا حركةٌ مهمةٌ للإسلامِ السياسي في تركيا وأيضاً في العالم الإسلامي بأسره إن كان من المقررِ استعادة القوة السابقة...

روا: مرة أخرى، إنها رمز، وليست سياسة: أسلمةُ الحجارة أسهل من أسلمةِ الأرواحِ. يبدو أنّ الحماسَ الشعبي لتحويلِ آيا صوفيا إلى مسجدٍ كان ضئيلاً: لم يحضر الصلاة سوى بضعة آلافٍ من المؤمنين، بينما يبلغُ عددُ سكانِ اسطنبول 16 مليون نسمة، كما أنني لست على علمٍ بمظاهراتِ دعمٍ شعبيةٍ في بقية أنحاء البلدِ، ناهيك عن العالمِ الإسلامي.

انتهى حماسُ سردية الإسلامِ السياسي. ويمكنني مقارنتها بسرديةِ "الهوية المسيحية" في أوروبا ولا سيما في بولندا، حيث الأنماطُ الانتخابية قريبةٌ جداً من تلك التي في تركيا إردوغان: فقد خسرَ الشعبويون الدينيون المدنَ الكبيرة، والنخبةَ المثقفةَ والشباب. إنه مزيجٌ من الحنينِ والإكراهِ، وليس برنامجاً لحشدِ الشبابِ والمستقبلِ.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ تركيا أردوغان ليست منارةً للإسلامِ السياسي في الشرقِ الأوسطِ. فالرأي العام العربي لا يُؤمنُ بالسرديةِ "العثمانية"؛ إذ أنّ المظاهراتَ في شوارعِ الجزائرِ، والخرطوم أو بغداد تنادي بالديمقراطيةِ، وليس بتطبيقِ الشريعةِ.

وتتمتعُ "الرويات" التلفزيونية التركية بتأثيرٍ في الشرقِ الأوسطِ أكثر من خطاباتِ إردوغان. وبحسب معرفتي لم تكن هناك أي مظاهراتٍ في العالمِ العربي دعماً لإعادةِ افتتاحِ آيا صوفيا.

إذاً المشهد المحيط بإعادةِ تحويل آيا صوفيا ليس علامةً على القوةِ في واقعِ الأمرِ؟

روا: إنه علامة ضعفٍ. لقد خسرَ حزبه العديد من الأصواتِ، ولم يعُد فيه مفكرون؛ فرمزية "المفكرين الإسلاميين"، الذين كانوا مؤثرين في ثمانينيات وتسعينيات القرنِ الماضي، قد اختفت؛ والمعجزة الاقتصادية الحاصلة في العقد المبتدِئ بعام 2000 قد ماتت؛ وليس هناك أي علامةٍ على إحياءٍ ديني شعبي في تركيا.

كما سُحِقت الشبكاتُ الدينية غير الحكومية مثل حركة غولن؛ أما غيرها من الحركاتِ، مثل مختلفِ الطرق النقشبندية، فتتوارى عن الأنظار. بالمختصرِ، نشاطُ إردوغان ليس مدعوماً بحشدٍ شعبي، حتى إن كان ما زال يتمتعُ بقاعدةٍ انتخابيةٍ ثابتةٍ.

وهذا النوعُ من التصعيدِ الديني من شأنه أن يُفاقِمَ من عزلةِ تركيا في الشرقِ الأوسطِ. كما سيؤدي إلى إثارة غضب الاتحاد الأوروبي والروس والأميركيين، من دون حصوله على حلفاء جدد في الوقتِ الذي يعملُ فيه النشاطُ العسكري التركي في سوريا وليبيا وكردستان على إدخالِ البلادِ في المزيدِ والمزيدِ من المشاكلِ.

إِنْ نظرت إلى الشبابِ في تركيا، لا سيما في الأجزاءِ الأكثر تديناً ومحافظةً في المجتمعِ التركي، يمكنك رؤية مجموعتين: واحدة تؤيد بشدة الأيديولوجية التي تروجها بروباغاندا حزب العدالة والتنمية، بيد أنّ المزيد والمزيد من الشبابِ المتدينين يشعرون بخيبةِ الأملِ من النظامِ الاوتوقراطي والمحسوبيةِ التي يتبناها إردوغان...

 

 

روا: علينا أن ننظر إلى النزعةِ السائدة، ومن الواضحِ، أن "اللحظة" الإسلامية الشعبية قد مرَّت. أتاح الفوزُ الانتخابي الأولُ -الذي حققه حزبُ العدالةِ والتنميةِ- للناس المتدينين دخولَ الفضاءِ العام بوصفهم "مؤمنين"، بيد أنّ إضفاءَ الطابعِ البيروقراطي على الإسلامِ من قبل الدولةِ أبعدت معظم المسلمين الملتزمين.

إنهم لا يعارضون حزب العدالةِ والتنميةِ بالضرورةِ ومن الممكن أن يصوتوا لصالحه، بيد أنهم ارتدّوا إلى شكلٍ غير سياسي وأكثر خصوصيةِ في ممارسةِ الدينِ.

ومرة أخرى خسرَ إردوغان دعمَ الطرقِ الصوفيةِ. حتى وإن كانت الطرق الصوفية لا تتحول إلى المعارضةِ السياسيةِ، إلا أنها تنأى بنفسها عن السياسةِ، وهذا أمر جديد نسبياً في تركيا.

أعتقد أن المراقبين قد قللوا من شأنِ تأثيرِ انقلاب غولن وما تلاه من قمعٍ للتعبير الديني غير الحكومي. وربما نميلُ إلى التركيز أكثر من اللازمِ على التوتراتِ بين إردوغان والنخبة المثقفة حول مسألةِ حريةِ التعبيرِ، ونتجاهلُ ما يجري في أوساط الناس "العاديين" المتدينين المحافظين.

 

حاوره: إرين غوفيرجين

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:40876]