"ظاهرة قيس سعيّد": الفصاحة ومخاطبة العقول لا البطون...واستحضار فلسطين

أدى قيس سعيد الفائز في الانتخابات الرئاسية اليمين الدستورية ليعلن رئيساً جديداً لتونس.
أدى قيس سعيد الفائز في الانتخابات الرئاسية اليمين الدستورية ليعلن رئيساً جديداً لتونس.

ما زالت ظاهرة قيس سعيّد، الرئيس المنتخب، تسيل الكثير من الحبر في تونس وخارجها، فتفوّق مرشح من خارج عالم السياسة والأحزاب والمال والاعلام، على مرشحين من الوزن الثقيل لم يأت من فراغ بكل تأكيد. إسماعيل دبارة من مركز تونس لحرية الصحافة، يحاول تتبع أبرز ورقات قيس سعيّد الرابحة، في الورقة التالية.

الكاتبة ، الكاتب: إسماعيل دبارة

يواصل المحللون والمهتمون محاولاتهم لسبر أغوار "الزلزال" الانتخابي، الذي عصف بتونس، مهد الربيع العربي، بوصول أستاذ القانون الدستوري المتقاعد قيس سعيّد، إلى سدة الرئاسة بمجهودات ذاتية وعفوية بسيطة، سحقت مرشحي منظومات حزبية واعلامية ومالية ضخمة.

قيس سعيّد... فرادة الظاهرة

تتابع جهات عديدة "ظاهرة قيس سعيّد"، التي أحدثت تغييرا هائلا في المشهد السياسي التونسي، والعربي بوجه عام، بل إن سعيّد نفسه وصف انتخابه بأنه "ثورة جديدة".

ومردّ هذا الاهتمام المبالغ أنّ المنطقة على موعد وربما لأول مرة في تاريخها، مع وصول رئيس إلى السلطة بالصندوق قادما من أسوار الجامعة، فقيس سعيّد لا ينتمي لحزب سياسي عريق أو مُستحدث أسنده خلال حملته، ولا لعائلة سياسية أو ايديولوجية معروفة، ولا يملك تاريخا نضاليا ضدّ الديكتاتوريات المتعاقبة، وليست له اي خلفية عسكرية تجعله يحظى بدعم الجيش والأجهزة الأمنية وينال حمايتها، علاوة على بُعده عن دوائر المال والأعمال وجماعات الضغط المتنفذة، بل إنّ رئيس تونس الجديد أبدى احتقاره لكل تلك الطرق التي كانت دوما معبّدة أمام الرؤساء السابقين.

فرادة ظاهرة قيس سعيّد، التي تشبه "اللغز الغامض"، تتأتى أيضا من "هول النتيجة" التي لم يكن لأي كان توقعها، فقد أصبح أستاذ القانون الدستوري الفصيح رئيسا لتونس بحوالي ثلاثة ملايين صوت، منها مليون ونصف من خارج القاعدة الانتخابية للأحزاب، وهي أعلى نسبة شرعية في تاريخ تونس المعاصر، إذ أنّ حصيلته من التصويت تماثل حصيلة المصوتين لمجمل أعضاء كل البرلمان المنتخب حديثا.

وبغضّ النظر عن دواعي المصوتين، وتعدد مشاربهم وغاياتهم، وافتراض أنّ التصويت بهذه الكثافة في الدور الثاني للرئيس الجديد مردّه "تصويت مضاد" يقصي المرشح الثاني، أي نبيل القروي الذي يواجه تهما بالفساد وتبييض الأموال، فإنّ الرئيس الجديد كان من خارج المنظومة السياسية التقليدية، وقد كان بسيطا وعفويا في حملته الانتخابية، إذ لم يكن بحاجةٍ لأيٍّ من وسائل الاتصال الجماهيري المعروفة، ليقنع الناخبين بالتصويت له، ولم يصرف مليارات ولا ملايين ليقنع التونسيين بأنه الأجدر بالرئاسة.

إثر انتخاب الرئيس قيس سعيّد رئيسا للبلاد، انطلقت في تونس مبادرات شبابية وشعبية
تتابع جهات عديدة "ظاهرة قيس سعيّد"، التي أحدثت تغييرا هائلا في المشهد السياسي التونسي، والعربي بوجه عام، بل إن سعيّد نفسه وصف انتخابه بأنه "ثورة جديدة"، لأن أستاذ القانون الدستوري فاز بنسبة ساحقة من الأصوات 72.71 في المائة.

خطاب سياسي غير مألوف

الخطاب السياسي للرئيس التونسي الجديد يبدو فريدا، ورغم ان جلّ المتابعين يتهمونه بالغموض وعدم التفصيل والاكتفاء بالشعارات والعموميات، فإنّ الرجل تمكن من جعل الساحة التونسية تعيد طرح أسئلة كثيرة حيال قضايا الخطاب السياسي والتواصل والتعبئة الجماهرية والمشاركة والسيادة الشعبية.

ولئن هزمت ماكينة قيس سعيّد الشبابية التطوعية ماكينات ضخمة اعلامية وتسويقية، ومختصين في الدعاية والعلاقات العامة، فإنّ فصاحة الرجل واسترساله في استعمال العربية الفصحى بشكل آلي رتيب جعل خطابه مستساغا في أوساط العامة قبل النخبة.

وتمكن قيس سعيّد خلال حملته الانتخابية المتواضعة من رفع حجم الآمال والأحلام لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، رغم حرصه على عدم تقديم أي وعود على غرار بقية المرشحين، بما جعل سقف تطلعات التونسيين من الرئيس يتجاوز صلاحياته في نظام برلماني هجين.

ومع كل ظهور جديد، يُفتتن المزيد من الشباب والمتابعين بسحر هذا الرجل ونظافة يده وخطابه الصادق في نظرهم، وساعدته في ذلك اعترافاته الصريحة بأنه "لم يكن ثوريا ومعارضا للنظام السابق بالمعنى المتعارف عليه"، إلا أنه أكد أنه رفض الكثير من المناصب في العهد السابق، على غرار "مستشار" و"رئيس ديوان"، قائلاً في أحد حواراته الصحفية: "قلت لا، يوم كان البعض ممن يظهرون اليوم في وسائل الإعلام يتمنون الاقتراب من دائرة القرار".

ولئن أعجب البعض بهذا الوضوح والبساطة في توجهات قيس سعيد، إلا أن البعض الآخر انتقد هذه الطريقة في التفكير والتوجهات واعتبروها من مظاهر خطاب "الشعبوية"، الذي طبع حديثا المشهد السياسي في تونس وفي العالم.

اللامركزية...مشروع طموح ومغرِ

ما يميز قيس سعيّد منذ ظهوره الاول في التلفزيونات والاذاعات، هو دفاعه عن فكرة واحدة لم يغيرها طوال سنوات، وقوام قناعته تلك، أنّ النظام السياسي في تونس خاطئ ويتعين مراجعته عبر الاقتراع على الأفراد بدل القائمات. إذ يريد الرئيس الجديد أن تبنى الديمقراطية من القاعدة التي لها الحق في سحب ثقتها من النواب مما يعني تغييبا لدور شبه كلي للأحزاب، وذلك عبر انتخاب مجالس محلية صغيرة تعتمد على شخصية العضو وليس حزبه أو فكره. وسيختار هؤلاء الأعضاء بدورهم ممثلين إقليميين يختارون النواب.

وفي ظل هيمنة الساسة على فترة ما بعد بن علي، وهي فترة شهدت احباطات اقتصادية عديدة، فإن هذا النوع من اللامركزية يغري كثيرا من المواطنين الذين ثاروا في أنحاء البلاد ويرومون امساك دفة التغيير بأنفسهم وادارة مشاكلهم اليومية بعيدا عن وصاية المركز.

وتحرّك قيس سعيد منذ سنوات في كافة أنحاء تونس مروجا لفكرته، مستفيدا من نظرة العامة اليه "كرجل نظيف" ويقطن منزلا في حي شعبي متواضع، وسبق أن قال إنه "لا يحمل برنامجا تقليديا" ويرى أن مقولة "السلطة يجب أن تعود للشعب مباشرة" يتعين أن تتجسد عمليا عبر سن قوانين جديدة، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة حول غياب كتلة برلمانية في مجلس النواب الجديد، يمكن لقيس سعيّد الاستناد اليها لتمرير قوانينه الجديدة.

"حاول قيس سعيد الظهور بمظهر العقلاني، الذي لا يخاطب الغرائز ويتجنب التهييج واستحضار الخطاب الهوياتي، الذي يقسّم التونسيين منذ الثورة".

 

للمزيد: 

وفاة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي: مهندس التوافق في مهد الربيع العربي

مناظرات رئاسية تونسية غير مسبوقة في العالم العربي- "تنظيم مقبول وخواء في المحتوى"

 

يخاطب العقول

من الواضح أن رئيس تونس الجديد استغل بذكاء أخطاء خصمه نبيل القروي، الذي اشتهر على نطاق واسع باسم تهكميّ هو "نبيل مقرونة (معكرونة). واستخدم رواد التواصل الاجتماعي هذا الاسم للسخرية من المساعدات الغذائية، التي يقدمها القروي للمحتاجين طمعا في أصواتهم، لكن سعيّد لمح في كثير من المرات بأن لا يملك مساعدات ولا يقدم رشاوي ولا يستجدي الاصوات، بل إنه يخاطب ضمائر التونسيين وعقولهم.

 

وحتى في المواضيع ذات الجدل، والتي بدا فيها الرئيس الجديد متناقضا، فقد حاول الظهور بمظهر العقلاني الذي لا يخاطب الغرائز ويتجنب التهييج واستحضار الخطاب الهوياتي، الذي يقسّم التونسيين منذ الثورة. فهو يرى مثلا أن النقاش حول دور الإسلام في المجتمع نقاش "دون فائدة يلهي التونسيين عن مشاكلهم الحقيقية"، وهو يرفض صراحة المساواة في الميراث، وله في نفس الوقت مواقف محافظة رغم أنه محاط بأصدقاء من أقصى اليسار وبزوجة غير محجبة تعمل قاضية، حاول استغلال حضورها الى جانبه للردّ على دعوى تقول إنه "مرشح السلفيين والمتطرفين".

استحضار فلسطين

مازالت قضية فلسطين مركزية بالنسبة لأغلبية التونسيين، بل إن وهج القضية الفلسطينية يبدو في تونس لافحا أكثر من قضايا أقرب جغرافيا، مثل الأزمة الليبية والحراك الجزائري، وفي هذا السياق ألهب قيس سعيّد حماس الكثيرين عندما استحضر القضية الفلسطينية بشكل بارز في المناظرة التلفزيونية بينه وبين منافسه نبيل القروي، وخاصة عندما أعلن موقفه دون مواربة من قضية التطبيع مع دولة إسرائيل، واصفا إياها بـ"الجريمة والخيانة العظمى"، في حين احتاج منافسه لوقت أطول والكثير من التأتأة والغمغمة، قبل أن يعلن دعمه لتجريم التطبيع.

لم يعرف عن قيس سعيّد عندما كان يدرس بكلية الحقوق أنه كان مُسيسا، ولا منتميا لحركة قومية أو إسلامية أو يسارية، وهي حركات في غالبها تضع المسألة الفلسطينية في مقدمة اهتماماتها ونضالاتها. لكن من الواضح أنّ سعيّد يستفيد كثيرا من غياب هذه القضية عن الخطاب الرسمي العربي، إذ لم تعد فلسطين تتمثل أولويةً في الأجندات العربية منذ اندلاع الثورات العربية.

ونشرت وزارة العدل الأميركية وثيقة ضمن بيانات عن عقود جماعات اللوبي المسجلة، وتظهر الوثيقة أن نبيل القروي دفع حوالي مليون دولار لشركة العلاقات العامة "ديكنز أند ماديسون" الكندية والتي يترأسها اسرائيلي، وذلك مقابل أن تمارس الشركة أدوارا إزاء حكومات الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى بغرض مساعدة القروي للوصل إلى رئاسة الجمهورية التونسية.

 

نصب تذكاري يخلد محمد البوعزيزي في ميدان رئيسي بمدينة سيدي بوزيد
إحياء أحلام الربيع العربي أم شعبوية على الطريقة التونسية: تمكن قيس سعيّد خلال حملته الانتخابية المتواضعة من رفع حجم الآمال والأحلام لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، رغم حرصه على عدم تقديم أي وعود على غرار بقية المرشحين، بما جعل سقف تطلعات التونسيين من الرئيس يتجاوز صلاحياته في نظام برلماني هجين.

 

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة

تونس - نتائج الانتخابات البرلمانية: حزب النهضة في المركز الأول وحزب قلب تونس الثاني

 زلزال سياسي تونسي قوامه العقاب بالصندوق

تونس - فوز أستاذ القانون قيس سعيد وقطب الإعلام نبيل القروي في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة

حزب النهضة على محك انتخابات تونس البرلمانية - العالم العربي يترقب تجربة "المسلمين الديمقراطيين

 

"من الواضح أنّ سعيّد يستفيد كثيرا من غياب هذه القضية عن الخطاب الرسمي العربي، إذ لم تعد فلسطين تتمثل أولويةً في الأجندات العربية منذ اندلاع الثورات العربية"

 ومن الواضح أنّ رفض التونسيين لوصول رئيس تحيط به شبهات فساد وتبييض أموال، وكذا شبهات تخابر مع إسرائيل، كان واضحا، خاصة وأن المرشح البديل يحمل صفات مقابلة قوامها معادة التطبيع ونظافة اليد. وحرص قيس سعيد خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب لحظة إعلان فوزه على تجديد تعهداته تجاه الفلسطينيين، مؤكدا أنه سيعمل على دعم القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وعبر عن أمنيته في أن يكون العلم الفلسطيني حاضرا جنبا إلى جنب مع العلم التونسي، ومازال من غير المعروف مدى تغيّر سياسات تونس الخارجية مع الرئيس الجديد الذي يوكل اليه الدستور صلاحيات ضبط الديبلوماسية وتعديل أوتارها.

قصارى القول، لم يأت فوز قيس سعيّد برئاسة تونس من فراغ رغم حجم الذهول الذي خلّفه، واستعمل الرجل طرقا "سياسية" غير تقليدية لكسف ثقة الناخب، لكنها طرق مختلفة جذريا عن مسالك الساسة الآخرين الذين جاء فوز سعيّد لينذرهم بالفجوة الشاسعة التي خلقوها بينهم وبين التونسيين الذين اختاروا القطع مع القديم نهائيا.

واللافت في كل ذلك، أنّ الشارع التونسي يسترجع مع قيس سعيّد شعارات الثورة وعناوينها بعد أن خفّ بريقها بفعل الأحداث والانتكاسات، فالرئيس الجديد يحرض على إعادة مصطلح "الثورة" للتداول السياسي والاعلامي الرسمي، بعد أن تمّت إزاحته لصالح معاجم "الانتقال الديمقراطي" و"التوافق السياسي" و"المصالحة الوطنية".

 

 

إسماعيل دبارة

حقوق النشر: قنطرة 2019

*إسماعيل دبارة صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة