كاتب كردي اللغة العربية موطنه ومفتاحها في جيبه

يتميز سليم بطريقة خروجه عن المألوف، وبهذا فهو يحتل مكانة خاصة بين الكتاب المعاصرين العرب. حتى أن محمود درويش سأله ذات مرة بإعجاب: "من أين تستمد خيالك؟" وأما أدونيس فقال عنه إنه: "يحمل مفتاح اللغة العربية في جيبه". الناقد الأدبي المصري محمود حسني يسلـط الضوء لقراء موقع قنطرة على الكاتب الكردي السوري سليم بركات، وأعماله المُصاغة بثروة لغوية رائعة ضخمة، مستندة إلى قصائد الكلاسيكيين العرب.

الكاتبة ، الكاتب: Mahmoud Hosny

سليم بركات كاتب كردي سوري وُلِد في عام 1951. وفي عام 1973 نشر مجموعته الشعرية الأولى - تحت عنوان "كلُّ داخل سيهتف لأجلي، وكلُّ خارج أيضًا". في تلك الأيَّام كان سليم بركات في سن الثانية والعشرين من عمره فقط، وكانت تبدو على ملامح وجهه أيضًا الدهشة الصبيانية. غير أنَّ مظهره البريء لم يمكن يُخفي مطلقًا الذكاء الكامن لدى هذا الشباب الكردي. وكتابه هذا منح المشهد الشعري العربي الكاسد في تلك الفترة دفعةً قويةً، حتى أنَّ الشاعر المعروف أدونيس قال حول سليم بركات: "هذا الشاب الكردي يحمل مفتاح اللغة العربية في جيبه".

إذًا لقد دخل سلم بركات وهو في بداية العشرين من عمره المسرح الأدبي ولفت الانتباه إليه حتى في تلك الفترة من خلال لغة شعرية كانت متمرِّدة بأسلوب جذَّاب يغلب عليه طابع الجموح. وقوته اللغوية هذه أنتجت ونقلت قدرةً لم تكن معروفة حتى ذلك الحين - وحتى في بيروت، التي كانت تعتبر في فترة السبعينيات عاصمة الحداثة العربية الجديدة.

كانت موضوعات سليم بركات الكردية غير مألوفة بالنسبة لقرَّائه العرب، وهذا ينطبق بالتأكيد على القراء الغربيين. وأسلوبه في الكتابة حول صدام التاريخ والجغرافيا والقصة والأساطير يُمثِّل لخيالنا تحدِّيًا كبيرًا. وقصائده لا تخلو تمامًا من العناصر المألوفة، فهي تستند -في هيكلها ورؤيتها- إلى قصائد الكلاسيكيين العرب. بيد أنَّها وبأفضل معنى الكلمة  "معادة التشكيل". وجملها المُجَزَّأة على نحو غير مألوف تُشِعُّ بتوتُّر عصبي.

"Les Grottes de Haydrahodahus" by Salim Barakat (published in French by Actes Sud)
غلاف رواية "كهوف هيدراهوداهوس" المترجمة إلى الفرنسية: تمتاز نصوص سليم بركات المُصَاغة بشكل رائع بثروة لغوية ضخمة، ولكن على الرغم من ذلك تبدو وكأنَّها أتت مباشرة من روحه. إذ إنَّ لغته تبدو قادمة من قلب قاموس منسي منذ فترة طويلة وقد تم اكتشافه من قبله هو بالذات.

أعمال تأتي مباشرة من الروح

وسليم بركات - المعروف كثيرًا باسم "سَلِيْمُو" في اللغة الكردية - يشتهر بشعره وكذلك برواياته. وهذه الروايات مبنية على نحو متشابه وتمتد بخيالنا حتى إلى أبعد من ذلك. ويمكن وصفها بأنَّها ملحمية، ولكن ليس بالمعنى التقليدي للكلمة. ولغتها تعتمد على إيقاع اللغة الكلاسيكية، بيد أنَّها مع ذلك غير مبتذلة قطّ. وهنا يبتعد سليم بركات تمامًا عن الطبيعي أو المألوف، ولا يقبل بأي حلّ وسط.

تمتاز نصوص سليم بركات المُصَاغة بشكل رائع بثروة لغوية ضخمة، ولكن على الرغم من ذلك تبدو وكأنَّها أتت مباشرة من روحه. إذ إنَّ لغته تبدو قادمة من قلب قاموس منسي منذ فترة طويلة وقد تم اكتشافه من قبله هو بالذات.

وأغلب ما يميِّز سليم بركات هو طريقة خروجه عن المألوف. وبهذا فهو يحتل مكانة خاصة بين الكتاب المعاصرين العرب. وحتى أنَّ الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهو صديق مقرَّب من سليم بركات، سأله ذات مرة بإعجاب: "ما هو مصدر لغتك ومن أين تستمد خيالك؟" وقصيدة محمود درويش "ليس للكردي إلاَّ الريح"، وهي القصيدة الأخيرة من مجموعته "لا تعتذر عمَّا فعلت"، تتحدَّث حول سليم بركات.

يبدو أنَّ بركات لا يعيش فقط داخل اللغة العربية، بل يقودها أيضًا إلى مستويات جديدة: تحت قلمه تستيقظ البلاد والأم والحنين. وأعماله، بصرف النظر عن شكلها، مليئة تمامًا بـ"حرارة التمرُّد". وهكذا ملأ هذا الرجل خلال أكثر من أربعين عامًا من نتاجه صفحات كتبه بحواس مختلفة - بمعارك الحجارة والنباتات والحيوانات والمشاعر وبمدارات الكواكب.

وأعمال سليم بركات الستة وأربعون تشمل واحدًا وعشرين مجموعة شعرية ومُذَكِّرَتين حول طفولته وشبابه ومجموعة من المقالات وكتابًا تعليميًا بالإضافة إلى اثنين وعشرين رواية. وأسلوبه لا يتمتَّع بمكانة خاصة في الأدب العربي وحسب، بل وحتى في الأدب العالمي المعاصر المُنتج في الخمسين سنة الماضية.

اللغة العربية - وطنه الوحيد

وُلِدَ سليم بركات في مدينة القامشلي شمال سوريا. ثم عاش في دمشق وبيروت ونيقوسيا واستقر أخيرًا في ستوكهولم. وفي هذه الرحلة الطويلة كانت اللغة العربية وطنه الحقيقي، الذي حمله معه دائمًا - والجزء الوحيد من وطنه، الذي لم يتركه قطّ. لا أزال أتذكَّر جيِّدًا عندما تمت ترجمة روايته "الريش" إلى اللغة الإسبانية. وحينها كتب مقدِّمة الترجمة الكاتب والمترجم الإسباني الكبير خوان غويتيسولو. لقد كتب حول الانطباع الذي تتركه لديه تجارب سليم بركات الأدبية:

إنَّ نثر سليم بركات، مثلما هي الحال عند خوسيه ليزاما ليما، يمثِّل هبة دائمة من الابداعات المنعشة والصور المُلْهِمة والاستعارات غير المتوقَّعة وشرارةً شعريةً وكلمات مُجنَّحة - مزيج هائل من الحلم والحقيقة، من أسطورة وتاريخ مرير لا يخضع لقوانين الزمان ولا حتى لقوانين المكان.

وليمة حقيقية

وبالإضافة إلى ذلك يكتب خوان غويتيسولو: "النصُّ يتحرَّك داخل نوع من الجغرافيا البصيرة، بين معالم عابرة ومُتغيِّرة: تظهر كردستان ألف مرة في الحلم، كنقيض للحياة في قبرص. تختلط الطفولة بعالم الكبار، والواقع بالخيال. "مِمْ آزاد"، الشخصية الرئيسية في الرواية، يتم تحويله: مرة إلى عصفور ومرة أخرى إلى ابن آوى. ويتحدَّث مع البشر وكذلك مع الحيوانات. سليم بركات يطلق لإبداعه العنان ليتجاوز حدود المعقولية".

ويضيف: "حتى وإن لا يُصَدِّق البعض ذلك: فإنَّ ثروة سليم بركات الإبداعية والإنشائية غير مستمدة من فولكنر ولا من غارسيا ماركيز. في أعماله نجد طبقات غير متناهية من الأساطير والخرافات وذكريات المآسي الماضية والحالية. وتحت سطح كلِّ ذلك يكمن تاريخ كئيب للمدينة التي ولد فيها".(*)

Cover of the Spanish edition "Las Plumas" (The Feathers) by Salim Barakat (published by Navona)
غلاف رواية سليم بركات "الريش" المترجمة إلى الإسبانية: يرى الكاتب محمود حسني أنَّ رواية سليم بركات "الريش" تعتبر بمثابة "مزيج هائل من الحلم والحقيقة، من أسطورة وتاريخ مرير لا يخضع لقوانين الزمان ولا حتى لقوانين المكان".

وفي الختام يكتب خوان غويتيسولو أيضًا: "بالنسبة لنا، نحن الذين نحب قراءة جميع الروايات العظيمة والقراءة مرارًا وتكرارًا، فإنَّ رواية ’الريش‘ تمثِّل وليمة حقيقية، يمكن مقارنتها بنوع خاص من الكائنات المُهدَّدة بالانقراض".

ونظرًا إلى هذه المقدَّمة وإلى نتاج سليم بركات الأدبي المدهش، يجب علينا أن نتذكَّر أنَّ بركات بلغ الآن عامه الخامس والستين؛ بعد أن أمضى العشرين عامًا الأخيرة من حياته في غابات سكوغاس السويدية المعزولة خارج ستوكهولم. ولكن على الرغم من هذه العزلة فقد وجدت أعمال سليم بركات طريقها إلى اللغة السويدية والإسبانية والكاتالانية والفرنسية والكردية والتركية.

ولهذا فمن المحزن أنَّ هذا الصوت الأدبي الفريد من نوعه ليس فقط في اللغة العربية -بل وحتى في جميع أنحاء العالم- لا توجد له حتى هذه اللحظة ترجمة لعمل كامل واحد في اللغة الإنكليزية، سواء من شعره أو سيرته الذاتية أو رواياته.

ومع ذلك فسليم بركات في مجتمع جيِّد: ولنتذكَّر فقط الصعوبات التي كان يواجهها جيمس جويس ومارسيل بروست وفوكنر وماركيز في نشر أعمالهم بلغات أخرى.

ولكن عدم نشر أعمال سليم بركات الأدبية باللغة الإنكيزية يجب أن يكون أمرًا مُحْبِطًا بالنسبة لقرَّاء اللغة الإنكليزية - التي تعتبر على أية حال اللغة الأكثر شيوعًا في العالم. إذ إنَّ عشَّاق الأدب العربي والتجارب الأدبية من جميع أنحاء العالم يستحقُّون في الواقع الوصول إلى أعماله الأدبية.

فهل يجب علينا في الحقيقة أن ننتظر حتى يحصل سليم بركات على جائزة نوبل قبل أن تتم ترجمة أعماله الأدبية إلى اللغة الإنكليزية؟

 

محمود حسني

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

ar.Qantara.de

 

(*) تُرجمت هذه الفقرة إلى اللغة الإنكليزية من قبل أندريه نفيس-ساهلي من أجل إحدى المراجعات النقدية في مجلة بانيبال.