كيف تحول لبنان من سويسرا الشرق إلى دولة فاشلة؟

امرأة تحصي نقودها في لبنان.
امرأة تحصي نقودها في لبنان.

انزلق لبنانيون إلى الفقر في بلد كان يوصف بسويسرا الشرق الأوسط وكانت دول الخليج تستثمر فيه وتودع بمصارفه المليارات. فكم صارت رواتبهم؟ استقصاء بيرغيت سفينسون من بيروت وطرابلس لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Birgit Svensson

طفلة صغيرة تجلس في أسفل الدرج المؤدِّي إلى مكتبة ومقهى برزخ في شارع التسوُّق الشهير في بيروت -أو بتعبير أكثر دقة الشارع المشهور سابقًا- شارع الحمراء. وذلك لأنَّ النجوم الموجودة على رصيف المشاة في هذا الشارع -والتي تذكِّرنا بشارع سانسيت بوليفارد في لوس أنجلوس- أصبحت باهتة اللون تمامًا مثل كلّ لبنان. وميرا تتسوَّل من أجل الطعام، وليس من أجل المال أو الشوكولاتة، مثلما يفعل الأطفال غالبًا في الشرق الأوسط.

ميرا طفلة عمرها ستة أعوام وجائعة وهي ليست الوحيدة هنا. يُعلِّق ألكسندر على هذا المشهد -بعد وصوله إلى مقهى برزخ وطلبة قهوة إسبريسو- قائلًا: "الناس يزدادون فقرًا باستمرار ولا أحد يفعل أي شيء حيال ذلك".

وحتى جنود الجيش اللبناني يُقال إنَّهم لم يعد لديهم ما يكفي من أجل الحصول على طعام. ولم يعد بإمكانهم شراء أي شيء براتبهم الشهري البالغ خمسين دولارًا أمريكيًا في الشهر. بينما كانوا يحصلون قبل ثلاث سنوات على ألف ومائتي دولار. وقد تبرَّعت دولة قطر الخليجية بطرود غذائية للجنود اللبنانيين في عيد الميلاد.

 

مرفأ طرابلس - لبنان. Hafen von Tripoli; Foto: Birgit Svensson
وصلت قبل عيد الميلاد 2022 بفترة قصيرة إلى ميناء طرابلس، على بُعد ساعة بالسيارة عن بيروت في شمال لبنان، سفينةُ شحن محمَّلة بالحبوب وتم تفريغها بسرعة. وارتفعت هناك سحبٌ من الغبار. وقال عمَّال الميناء إنَّ هذه السفينة قادمة من أوكرانيا وعلى متنها شحنة من القمح. لقد تصدَّرت سفينة "رازوني" في شهر آب/أغسطس 2022 عناوين الأخبار كونها أوَّل سفينة تغادر ميناء أوديسا الأوكراني بعد خمسة أشهر من بدء الحرب متوجهةً إلى لبنان من أجل تجنُّب خطر حدوث مجاعة هناك. ويبدو أنَّ الصفقة بين روسيا وأوكرانيا بوساطة من الأمم المتَّحدة وتركيا من أجل شحن الحبوب إلى خارج أوكرانيا ما تزال تعمل بشكل جيِّد وقد ساهمت في التخفيف إلى حدّ ما من أزمة الغذاء في لبنان.

 

وكانت تُشاهَد في بيروت شاحنات عسكرية محمَّلة بـ"حزم الرعاية" الموزَّعة من أمير الدوحة. ويقال أيضًا إنَّ هذه الطرود الغذائية تم توزيعها في طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان - البلد الذي تحوَّل إلى مأوى الفقراء بعد أن كان سويسرا الشرق الأوسط في السابق.

استيراد الحبوب من أوكرانيا

وصلت قبل عيد الميلاد بفترة قصيرة إلى ميناء طرابلس، على بُعد ساعة بالسيارة عن بيروت في شمال لبنان، سفينةُ شحن محمَّلة بالحبوب وتم تفريغها بسرعة. وارتفعت هناك سُحُبٌ من الغبار. وقال عمَّال الميناء إنَّ هذه السفينة قادمة من أوكرانيا وعلى متنها شحنة من القمح. لقد تصدَّرت سفينة "رازوني" في شهر آب/أغسطس 2022 عناوين الأخبار كونها أوَّل باخرة تغادر ميناء أوديسا الأوكراني بعد خمسة أشهر من بدء الحرب متوجهةً إلى لبنان من أجل تجنُّب خطر حدوث مجاعة هناك.

ويبدو أنَّ الصفقة بين روسيا وأوكرانيا بوساطة من الأمم المتَّحدة وتركيا من أجل شحن الحبوب إلى خارج أوكرانيا ما تزال تعمل بشكل جيِّد وقد ساهمت في التخفيف إلى حدّ ما من أزمة الغذاء في لبنان.

لا يزال الخبز في لبنان مدعومًا مثل ذي قبل وسعره في متناول الجميع. ومع ذلك، ينزلق المزيد من المواطنين اللبنانيين إلى براثن الفقر. إذ تشير التقديرات إلى أنَّ أربعين في المائة من اللبنانيين البالغ عددهم سبعة ملايين ونصف المليون نسمة يعيشون تحت خطّ الفقر بأقل من دولارين أمريكيين في اليوم ويعتبرون فقراء للغاية. ويُقال إنَّ ثلاثمائة ألف لبناني قد غادروا البلاد منذ بداية الأزمة للبحث عن عمل في الخارج وإعالة أسرهم، التي لم تعد قادرة على تغطية نفقاتها. وهذه هجرة عقول من الصعب على الدولة تحمُّلها لأنَّ معظم المهاجرين من الطبقتين الوسطى والعليا ومتعلمون جيدًا.

يعتقد كريستوف كليمان، وهو خبير سياسي يعمل في بيروت ومدير مؤسَّسة فريدريش ناومان الألمانية المقرَّبة من الحزب الليبرالي الألماني "الحزب الديمقراطي الحرّ" أنَّه من الواقعي القول إنَّ نصف الناتج المحلي الإجمالي اللبناني يأتي الآن من حوالات اللبنانيين المالية في الخارج إلى عائلاتهم في لبنان. لقد تزامن وصول كريستوف كليمان إلى لبنان مع بدء الانهيار الاقتصادي في عام 2019 بعد أن كشفت الاحتجاجات الجماهيرية النظام المتعثِّر وأجبرت الحكومة على الاستقالة.

ويشير كريستوف كليمان في تحليله إلى أنَّ هذه الأزمة الآن عميقة بشكل خاص، حيث بلغ التضخُّم والدين الحكومي وتراجع الأداء الاقتصادي ذروته. ويقول: "لقد انهار النظام المصرفي والمالي بشكل تام". وقد لاحظ كيف سحبت دول الخليج الغنية أموالها من لبنان وعملت بالتالي على تسريع الانهيار.

كان رئيسُ الوزراء السُّني آنذاك سعد الحريري قد بدأ التعاون مع حزب الله الشيعي. ولكن هذا التعاون لم يعجب السعودية. يقول كريستوف كليمان: "لكن هذا لم يكن السبب الوحيد. بل يعود السبب أيضًا إلى لبنانيين اقترضوا قروضًا مالية رخيصة في دبي واستثمروها في وطنهم لبنان بمعدَّلات فائدة مرتفعة". وتدفَّقت أرباح هذه الاستثمارات، التي بلغت مليارات، إلى خارج لبنان. ثم تم سحب الأموال بعدما لم تعد البنوك اللبنانية قادرة على تسديد الفوائد المرتفعة.

الطبقة الوسطى تغادر البلد

"الدولة مفلسة والخاسرون هم جميع الموظفين لديها"، مثلما يقول محمد ناصر، وهو محاضر يُدرِّس الفيزياء الطبية في الجامعة اللبنانية في بيروت. كان وضعه جيدًا قبل عام 2019، وكان يكسب أربعة آلاف وستمائة دولار في الشهر، وكان قادرًا بذلك على إرسال ابنه الأكبر إلى المدرسة الألمانية والتوفير من أجل شراء منزل، وكان لديه ستون ألف دولار في البنك.

 

 

منطقة مرفأ طرابلس - لبنان. Hafenviertel von Tripoli; Foto: Birgit Svensson
يشهد اقتصاد لبنان هبوطًا حادًا: يعتقد كريستوف كليمان، وهو خبير سياسي يعمل في بيروت ومدير مؤسَّسة فريدريش ناومان الألمانية المقرَّبة من الحزب الليبرالي الألماني "الحزب الديمقراطي الحرّ" أنَّه من الواقعي القول إنَّ نصف الناتج المحلي الإجمالي اللبناني يأتي الآن من حوالات اللبنانيين المالية في الخارج إلى عائلاتهم في لبنان. لقد تزامن وصول كليمان إلى لبنان مع بدء الانهيار الاقتصادي في عام 2019 بعد أن كشفت الاحتجاجات الجماهيرية النظام المتعثِّر وأجبرت الحكومة على الاستقالة. ويشير كليمان في تحليله إلى أنَّ هذه الأزمة الآن عميقة بشكل خاص، حيث بلغ التضخُّم والدين الحكومي وتراجع الأداء الاقتصادي ذروته. ويقول: "لقد انهار النظام المصرفي والمالي بشكل تام".

 

ولكنه يحصل الآن على أجر شهري يساوي مائة واثنين وخمسين دولارًا أمريكيًا، وقد تم تجميد مدَّخراته واضطر إلى إخراج ابنه من المدرسة الخاصة لأنَّه لم يعد قادرًا على دفع رسومها. ومحمد ناصر هو مجرَّد مثال من بين أمثلة كثيرة. وهذه تمامًا حال المعلمين والأطباء والقضاة والممرِّضات ومقدِّمي العناية والرعاية والكثيرين غيرهم في لبنان.

ومحمد ناصر مستعد أيضًا لقبول أي عمل في الخارج من أجل تأمين احتياجاته فقط. وذلك لأنَّ الجميع في بيروت يخشون من أن تفقد عملتهم المزيد من قيمها خاصةً وأنَّ سعر الليرة اللبنانية يشهد هبوطًا حادًا منذ أشهر.

لقد كشفت الأيَّام الأخيرة من عام 2022 عن مدى سوء الأزمة في لبنان. ففي الفترة بين عيد الميلاد 2022 ورأس السنة الجديدة 2023 لم تتمكَّن محطة الطاقة التابعة للبلدية والحكومة من توفير الكهرباء حتى لو لساعة واحدة فقط. وهذا ليس بسبب وجود حرب مثلما يحدث في أوكرانيا. وأمدَّت المولدات الناس بضوء قليل وشغَّلت السخانات الصغيرة، التي تحمي الناس من البرد والرطوبة. يدفع الناس من أجل ستة كيلو أمبير ما بين مائة وخمسين ومائة وثمانين دولارًا أمريكيًا في الشهر - وهذا يعادل متوسَّط ​​الأجر الشهري.

أعلنت الحكومة اللبنانية في البداية أنَّ بإمكان الناس أن يسحبوا من البنك في عيد الميلاد مبلغ ثلاثمائة دولار أمريكي، ولكن تم تخفيض هذا المبلغ لاحقًا إلى مائتي دولار. ومع ذلك فقد اصطف الناس في طوابير طويلة أمام أجهزة الصرَّاف الآلي. لم يكن هذا المبلغ هبةً من الحكومة في عيد الميلاد لمواطنيها المُتعثِّرين بل هو مال المواطنين الخاص المودع في حسابات المواطنين الشخصية، ولكن بسبب خوف الحكومة من نفاد النقد الأجنبي فقد تم منذ أشهر تجميد الحسابات المصرفية وإغلاق البنوك.

الفساد والمحسوبية

ومن أجل جعل البؤس واضحًا تمامًا فقد تم الإعلان قبل ليلة عيد الميلاد بيوم عن أنَّ عشيقة رياض سلامة -وهو محافظ البنك المركزي اللبناني البالغ من العمر اثنين وسبعين عامًا- قد أخرجت ما مجموعه تسعة عشر مليار دولار أمريكي من البلاد إلى حسابات في أوروبا بين عامي 2019 و2022. وبالإضافة إلى ذلك فقد اشترت ثلاثة عقارات باهظة الثمن في بيروت وكانت تحصل على راتب شهري قدره خمسة وعشرين ألف دولار.

ومثلما ذكرت صحيفة الأخبار اللبنانية اليومية فقد قامت في هذه الأثناء محكمة في بيروت بتجميد أموال عشيقة محافظ البنك المركزي اللبناني، الممثِّلة والمذيعة التلفزيونية ستيفاني صليبا، البالغة من العمر خمسة وثلاثين عامًا، وفتحت تحقيقًا ضدَّها.

غير أنَّ الزبائن الجالسين في مقهى برزخ بشارع الحمراء يعتقدون أنَّ حاميها القوي (رياض سلامة) سوف يجد طرقًا ووسائل لضمان خروج صديقته الشابة من هذه القضية من دون أية أضرار.

من المعروف أنَّ الاقتصاد والسياسة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا في لبنان. حيث يعمل نظام التمثيل النسبي الطائفي المُدمِّر -والذي يتم بحسبه تقاسم السلطة بين الطوائف العرقية والدينية- على تعزيز الفساد والمحسوبية. أرادت الحركة الاحتجاجية إنهاء هذا النظام وأن تتكوَّن حكومة تكنوقراط منتخبة في انتخابات ديمقراطية. ولكن المسؤولين السياسيين يريدون منع ذلك بكلّ السبل.

والبحث جارٍ حاليًا عن رئيس جديد بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق. ويمكن الافتراض أنَّ هذا الرئيس يجب أن يكون مرة أخرى مسيحيًا ومارونيًا. فبحسب نظام التمثيل النسبي الطائفي يجب أن يكون الرئيس مارونيًا ورئيس الوزراء سنِّيًا ورئيس مجلس النواب شيعيًا. ومن المستبعد إيجاد حلّ وسط.

تفاقم الوضع بسبب انفجار مرفأ بيروت

"لقد أدَّى انفجار مرفأ بيروت في شهر آب/أغسطس 2020 إلى سحب البساط تمامًا من تحت أقدامنا"، مثلما يقول نبيل حجار، وهو حلاق مكتوب على باب صالونه "كوافير هوت". ويضيف أنَّ سعر غسل الشعر وقصه يبلغ سبعة دولارات أمريكية، وهو سعر "لا يزال بإمكان الناس تحمله في هذا الحي".

 

أشخاص ينتظرون الحصول على بنزين أمام محطة وقود في لبنان. Schlangen vor einer Tankstelle in Rechaya, Libanon; Foto: Taghred Taalk
Schlangen vor einer Tankstelle im Libanon. Für viele Libanesinnen und Libanesen wird es immer schwieriger an Benzin zu kommen, um zur Arbeit zu fahren. Die Treibstoff-Knappheit ist ein Symptom der Wirtschaftskrise, denn das Land schlingert gefährlich nahe am Staatsbankrott entlang: Das libanesische Pfund, das seit dreißig Jahren an den Dollarkurs gekoppelt ist, hat ungefähr neunzig Prozent seines Wertes eingebüßt; die Weltbank spricht in ihrem neuesten Bericht, dem Lebanon Economic Monitor, von einer der schwersten Wirtschaftskrisen weltweit in der neueren Geschichte.

 

وفي الواقع، كان يجب على نبيل حجار أن يرفع أسعاره قبل فترة طويلة مقابل فنِّه الرائع في قص الشعر وذلك أيضًا نظرًا لأنَّ استهلاكه من الطاقة كبير، حيث يعمل المولد لديه بكامل طاقته. "ولكن بعد ذلك لن يأتي أحد إلى الصالون"، مثلما يقول هذا الرجل، الذي عمل ثلاثين عامًا في هذا الصالون، الذي أصبح ملكه منذ عامين فقط بعد أن اشتراه من صاحبه، الذي لم يعد قادرًا العمل فيه.

ويقول نبيل حجار إنَّه اعتقد في البداية أنَّ انفجار صوامع الحبوب كان زلزالًا. وعندما سمع صوت الانفجار الثاني فكَّر في حدوث هجوم إرهابي. وصالونه يبعد عن مرفأ بيروت بنحو ثلاثمائة متر على الخط الهوائي. ما تزال أنقاض الصومعة الضخمة ترتفع حتى اليوم -بعد أكثر من عامين- مثل نصب تذكاري في سماء بيروت، وقد انهار مؤخرًا قسم منها. ولا تزال الأنقاض مكوَّمة في جميع الجهات وهي تُذكِّر بالكارثة، التي أودت بحياة أكثر من مائتي شخص.

اضطر مؤخرًا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الاعتراف بأنَّ حملته من أجل إنقاذ لبنان لم تثمر بأي شيء. فقد بادر إيمانويل ماكرون في شهر آب/أغسطس 2020 إلى عقد مؤتمر مانحين لمساعدة هذا البلد المنهك. ولكن لم يتم حتى الآن إجراء الإصلاحات، التي دعا إليها هذا المؤتمر. وقد قال ماكرون قبل فترة قصيرة من عيد الميلاد: "القيادة (اللبنانية) يجب أن ترحل". ولكن يبقى من غير المعروف كيف يمكن للبنان أن يحصل على حكومة جديدة.

 

 

بيرغيت سفينسون

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de