لا سلام في سوريا بوجود الأسد

العفو الدولية: عودة اللاجئين السوريين في لبنان إلى سوريا سابقة لأوانها.
العفو الدولية: عودة اللاجئين السوريين في لبنان إلى سوريا سابقة لأوانها.

التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو الإقرار بانتصار نظام الأسد في الحرب السورية لا يعني نهاية الحرب، فالحرب تنتهي عند تحقيق السلام، والسلام لا يتحقق بوقف الحرب فحسب بل بزوال أسبابها. وبما أنّ سبب الحرب الأول والأساس هو وجود نظام الأسد الذي لم تتوقف حروبه على السوريين، أي أنّ بقاءه يشكّل في حد ذاته استمراراً للحرب. رؤية الكاتب طارق عزيزة لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : Tarek Azizeh

يشهد النقاش السياسي والإعلامي في ألمانيا، في الآونة الأخيرة، تصاعد أصوات تتحدث عن انتهاء الحرب السورية، وبالتالي ضرورة إعادة اللاجئين السوريين أو بالأحرى ترحيلهم. القائلون بهذا من الألمان ليسوا السبّاقين فيه، إذ إنه يأتي على أرضية كلام متكرر عن عودة "الاستقرار" إلى سوريا وأهميته، العبارة التي أضحت لازمة لا تخلو منها تصريحات أي من ممثلي الدول المعنية بالشأن السوري عند التداول في قضيّة هذا البلد.

وتزايدت وتيرة التأكيد عليها منذ وقت غير قليل، ولا فرق في ذلك بين حلفاء نظام الأسد وداعميه، وبين أولئك الذين ادّعوا الوقوف إلى جانب ثورة الشعب السوري وتطلّعاته المشروعة للحرية والكرامة.

لكن هذا لن يبدو غريباً ولا مفاجئاً، إذا أُخذ بالاعتبار أنّ "الاستقرار" يعدّ من الكلمات المفتاحية الأهمّ لفهم خطاب وسياسات وأهداف مختلف الأنظمة والحكومات، لاسيما المستبدّة منها، بما يعنيه من حفاظ على الأوضاع القائمة وتجنب خلخلة النظم أو تغييرها بقوّة الشارع.

وبالتالي شكّل السعي إلى تحقيق هذا الهدف أو الحفاظ عليه أو استعادته ذريعة وغطاء لتبرير أو إخفاء العديد من الجرائم والانتهاكات التي تُرتكب من أجله، بما يضمن مصالح دول على حساب شعوب دول أخرى. وتحت عنوان "الاستقرار" يمكن جداً عقد صفقات وشراكات وتحالفات مع أقذر الطغاة والمجرمين، فتتبدّل المواقف وتعيد الحكومات النظر في سياساتها وتُرمى المبادئ جانباً، إلى درجة يغدو من المقبول والمفهوم جداً أن يصبح العدوّ صديقاً والصديق عدوّاً والسفّاح "ضامناً للأمن والسلام".

على هذا النحو تزدهر الصفقات العلنية والسرّية بين عواصم عديدة على حساب دماء السوريين وخراب بلادهم، فيما النظام الذي هو سبب بلائهم يتشدّق بانتصاراته التي يسميها "إعادة الاستقرار". فوسائل الإعلام، تبثّ كلّ يوم إشادات متحدّثين رسميين يمثلون أطرافاً مختلفة بعودة "الاستقرار" إلى مساحات متزايدة من الأراضي السورية، معربين عن أملهم بأن ذلك سيدفع "العملية السياسية" قدماً، ومؤكدين أن هذا من شأنه تشجيع اللاجئين والنازحين على العودة إلى ديارهم، فضلاً عن أهميته من أجل الشروع بإعادة الإعمار.

مطالب مستمرة منذ عام 2011 لإزاحة بشار الأسد عن السلطة: الموقف الرسمي الألماني رافض لبقاء بشار الأسد حاكما لسوريا في نهاية عملية سياسية. ولكن هناك من السياسيين والخبراء من يرى أن الواقع يفرض مراجعة هذا الموقف، ولا بد أن يمر الأمر عبر روسيا.
مطالب مستمرة منذ عام 2011 لإزاحة بشار الأسد عن السلطة: الموقف الرسمي الألماني رافض لبقاء بشار الأسد حاكما لسوريا في نهاية عملية سياسية. ولكن هناك من السياسيين والخبراء من يرى أن الواقع يفرض مراجعة هذا الموقف، ولا بد أن يمر الأمر عبر روسيا.

إستمرار الحرب على الشعب السوري

لكن المفارقة تكمن في أنّ هذه التصريحات تتزامن مع استمرار قوات الأسد وحلفائه في حصد أرواح المزيد من السوريين، ما يعني أنّ الأحاديث الدبلوماسية والثرثرة الإعلامية التي تحاول تجميل تلك المواقف وتسويغها، تنطوي ضمناً على مباركة - أو في الحدّ الأدنى قبول وإقرار - "انتصار" سفّاح دمشق على شعبه، وأن ما يصفونه بـ"الاستقرار" ليس سوى نجاح قوّات الأسد مدعومة من إيران وروسيا في استعادة السيطرة على مناطق كانت في قبضة المعارضة منذ سنوات.

وبالتالي يجري النظر إلى هذه التغيّرات الميدانية، التي تصبّ بوضوح في مصلحة النظام على أنها بديل أفضل من حالة "الفلتان والفوضى"، التي سادت معظم تلك المناطق مع تطاول أمد الصراع. وساعد على ذلك بروباغندا "الحرب على الإرهاب"، إذ جعلت مهمة الأسد في سحق معارضيه أكثر سهولة ودعمت تسويق خدعة "استعادة الاستقرار".

 

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة

تحالف الأضداد في أوروبا (متطرفي اليمين واليسار والكاثوليك) لخدمة نظام سوريا

إنكار في أوروبا لجرائم نظام الأسد الديكتاتوري

أدلة رقمية دامغة ضد مجرمي حرب سوريا

 

جهاديون ضد الثورة السورية

وما من شكّ في أنّ فصائل الجهاديين المختلفة عملت ضدّ الثورة السورية أكثر بكثير مما عملت ضدّ الأسد، فأدت دوراً كبيراً في الوصول إلى الحالة الراهنة، لأن ممارساتهم وصراعاتهم والنماذج البائسة التي قدّموها رسمت صورة قاتمة دفعت بالكثيرين إلى تفضيل "الاستقرار" في مناطق النظام على فوضى الجهاديين والفصائل المتناحرة في المناطق الخارجة عن سيطرته.

ثمة مفارقة أخرى لا تقلّ أهمية عن سابقتها، وهي أن معنى "الاستقرار" في سوريا وفق ما تفهمه الحكومات والأنظمة يختلف إلى حد ّكبير عن الاستقرار، الذي ينشده السوريون ويتطلّعون إليه كشعب وأيضاً كأفراد تشغلهم تفاصيل الحياة، من الدراسة إلى العمل إلى العائلة وسواها من شؤونهم، بما يعنيه من شعور بالكرامة والأمان حيال حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهو ما كان معظم السوريين - ولا زالوا - يفتقرون إليه تحت حكم عائلة الأسد.

لعلّ البعض يجد في هكذا التمييز بين "الاستقرارين" ضرباً من المبالغة، لكنّ الردّ على هذا ممكن من خلال استعراض المحصّلة الكارثية التي أفضى إليها "الاستقرار" المديد لنظام الأسد الاستبدادي طيلة ما يقارب نصف قرن اتسمت فيه حياة السوريين باضطراب مزمن وقلق لا نهاية له لازَمَهم ووسمهم بطابعه على الأصعدة كافّة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية، إلا أنّه كان مخفيّاً تحت غطاء سميك من استقرار الرعب وانعدام الكرامة، الذي تشرف عليه وترعاه مخابرات الأسد وفرق الموت المرتبطة به. وبعد أن زلزلت الثورة "الاستقرار" الأسدي وخلخلته لبعض الوقت، رأينا التكلفة المهولة التي تطلّبتها عمليّة إعادة هذا "الاستقرار".

إن الثورات المضّادة التي ساعدت في إفشال ثورات الربيع العربي عموما ًوالثورة السورية على نحو خاصّ، هي في جوهرها عملية مقصودة واعية ومنظّمة، أراد من وقفوا وراءها الدفاع باستماتة عن استقرارهم الذي يعني احتفاظهم بالسلطة في بلدانهم واستمرار سيطرتهم على مقدّراتها. ولتحقيق هذه الغاية دعموا الأنظمة التي أرادت الثورات الشعبية الإطاحة بها، وساعدوها على استعادة سلطتها، أي "الاستقرار" خاصّتها، وفي مقدمتها نظام الأسد.

يبقى القول: إنّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار أو الإقرار بانتصار النظام لا يعني نهاية الحرب، فالحرب تنتهي عند تحقيق السلام،  والسلام لا يتحقق بوقف الحرب فحسب بل بزوال أسبابها. وبما أنّ سبب الحرب السورية الأول والأساس هو وجود نظام الأسد الذي لم تتوقف حروبه الباردة والساخنة على السوريين، أي أنّ بقاءه يشكّل في حد ذاته استمراراً للحرب، لأنه منذ نشوئه عبارة عن نظام حرب متواصلة على المجتمع، وعلى كل من يرفض الخضوع الكامل لسلطته التي لا تقيم وزناً لأبسط الحقوق والقيم الإنسانية.

وبعد هذا كله، هل ثمة من معنى لأي حديث عن السلام في سوريا ما دام هذا السفاح ونظامه فيها؟

 

 

طارق عزيزة

حقوق النشر: قنطرة 2019

*طارق عزيزة كاتب سوري من مواليد مدينة اللاذقية 1982، مجاز في الحقوق من جامعة دمشق – 2006. عملَ أستاذاً ومحاضراً في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ببيروت (IFPO)، وباحثاً في مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية. له العديد من المؤلفات، منها: "جبهة النصرة لأهل الشام" 2013، و"العلمانية" 2014، وعشرات المقالات والدراسات المنشورة في مجلات وصحف ومواقع إلكترونية عربية وأجنبية.

 

 

[embed:render:embedded:node:29582]