المغرب: عودة الدولة الأمنية

يعيش المغرب في السنوات الأخيرة على وقع ردة حقوقية لا تخطئها العين، بعدما عادت إلى واجهة الأحداث ممارسات سلطوية، اعتقد المغاربة أنها أضحت جزء من الماضي، فدستور عام 2011 تضمن قائمة من الحقوق والحريات، محصنة بضمانات قانونية ومؤسساتية، تحول دون طغيان عقل السلطة على حساب منطق الدولة. تحليل الباحث والكاتب محمد طيفوري لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Mohamed Taifouri

تعددت الصور المجسدة لتراجع الحريات العامة في المغرب وعودة الممارسات السلطوية، واختلفت أساليبها بحسب المجالات؛ من بلوكاج في السياسة، واحتكار في الاقتصاد، وتضييق على المجتمع المدني، وصولا لضبط سوق الصحافة والإعلام؛ بالإغداق على جوقة الموالين للسلطة.

واستمر مسلسل التراجع، بعد ترجيح صناع القرار للمقاربة الأمنية، في معالجة العديد من القضايا بالمشهد المغربي، مثل حراك الريف واحتجاجات جرادة وقضية الأساتذة المتعاقدين، مسقطين بذلك ما راج من إشاعات، مفادها أن الاختيار الأمني، في بعض الملفات كان خطأ من جانب الدولة، وأنها بانتظار اللحظة المناسب للتدارك والتصحيح.

أمعن المخزن في الاعتماد على القوة والعنف، لاستعادة ما تخلى عنه مكرها، واسترجاع هيبته التي فرط فيها، جراء ضغط الشارع أيام الربيع العربي. التقطت مختلف القوى من أحزاب ونقابات وهيئات مدنية هذه الرسالة، فتخلت هذه الهيئات عن أدوراها كل من موقعها، وتراجعت حدة اللغة النقدية في خطبها، وتقلص منسوب معارضة الدولة والحكومة والسياسات العمومية؛ قياسا لما كان عليه في السنوات الأولى ما بعد الدستور.

نهاية الربيع العربي في المغرب؟

في المقابل، أمعنت نخبة من الديمقراطيين (مثقفين، أكاديميين، حقوقيين، صحفيين، فنانين...الخ) على السير قدما في استثمار تلك البقية الباقية من هوامش الحرية، قصد مواصلة معركة الانتقال نحو الديمقراطية، ومواجهة الاستبداد وفضح الفساد والمفسدين، مستندة بالأساس على مقتضيات الدستور؛ وما رافقه من مكاسب وتراكمات تم تحصيلها خلال سنوات تنزيله.

أسدِل الستار على قوس الربيع العربي في نسخته المغربية، بعودة دار المخزن إلى عادتها القديمة. لكن ثلة من المشاكسين الحالمين، أو "المداويخ" (المخبولون) بتعبير وزير المالية الأسبق، يعكرون بحلم بناء دولة ديمقراطية، صفو مزاج خدام الدولة بين الفينة والأخرى، ما فرض على سدنة السلطوية البحث... يعيدهم إلى "رشدهم"، ويذكرهم بأن زمن الثورة ولى إلى غير رجعة.

 

 

ترهيب شخصيات تتمتع بمصداقية ديمقراطية

لم يجد هذه غير حائط الصحافة المستقلة لبث تلك الرسالة، أكثر من ذلك انتقى النظام بعناية أهدافه بعناية من بين هؤلاء. فاختارت شخصيات كانت بمثابة رموز طالما تحدثت باسم أنصار الديمقراطية، وكشفت عن اللعب القدرة لحلف الاستبداد، ومن يحومون في فلك السلطة.

ودرء لكل ما من شأن أن يسجل على النظام كتقييد لحرية الصحافة والإعلام، ويؤزم ترتيبه في ذيل قائمة مؤشر حرية الصحافة؛ 135عالميا و39 افريقيا، اهتدى إلى متابعة الأصوات المزعجة في قضايا جنائية ذات طابع "أخلاقي" أو بعد "أمني"، مستخدما صحافة التطبيل من أجل التشهير به، حتى قبل إدانتهم قضائيا.

كانت البداية مع الإعلامي علي أنوزلا، صاحب موقع "لكم" الإخباري، عندما فجر في يوليوز (تموز) 2013 قضية العفو الملكي على مغتصب الأطفال دانييل كالفان. بعد شهرين تحديدا، سيتابع الرجل؛ وفق مقتضيات قانون الإرهاب، لأنه موقعه نشر تقريرا عن شريط لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ذيله برابط لموقع صحيفة اسبانية تحدثت عن الموضوع.

كيّفت النيابة العامة العمل الصحفي، الذي يدخل ضمن سياق إخبار الرأي، بأنه إشادة بالإرهاب وتحريض عليه، وبما أن مواد جرائم النشر في قانون الصحافة لا تتيح لسلطة هامشا كبيرا للتأويل، فقد ارتأت أن تكون متابعة الصحفي وفق مقتضيات قانون الإرهاب، رغم حجب الرجل للموقع، وإصداره بيانا يؤكد فيه بأنه ضد الإرهاب.

ويقضي مدير موقع "بديل أنفو" حميد المهداوي محكومية مدتها ثلاث سنوات، بعدما تم توفيقه بالشارع العام بمدينة الحسيمة، وهو بصدد تصوير مسيرة بتاريخ 20 يوليوز (تموز) 2017. ووجهت إليه النيابة تهمة "عدم التبليغ على ما يمكن أن يمس بالأمن الداخلي للبلاد"، بعد أن تقلى اتصالا من مغربي مقيم بهولندا، زعم أن أسلحة أرسلت إلى زعماء حراك الريف. تهم ينفيها المهداوي عنه، مؤكدا أنه يؤدي ضريبة دعمه ومساندته العلانية لمطالب حراك الريف.

 

المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة 

دعابات وضجيج ومشاكسات...الشعبوية تزحف على المشهد السياسي المغربي

الزفزافي: رمز حراك الريف المغربي و"وريث" عبد الكريم الخطابي

القصر الملكي...ضابط الإيقاع الحكومي المغربي

 

وكانت جريدة "أخبار اليوم" المستقلة آخر المستهدفين؛ ضمن مسلسل عودة الدولة الأمنية، بعد الزج بالصحافي توفيق بوعشرين، مدير نشر اليومية في السجن لمدة 15 سنة، بعد متابعته بقائمة من التهم من قبيل الاتجار بالبشر واستعمال السلطة والنفوذ لغرض الاستغلال الجنسي.

لكن الثابت في حق هذا القلم المزعج، هو أن الاعتقال راجع لما يكتبه من افتتاحيات قوية وجريئة، بلغت مستوى تقديم النصيحة للملك، وإثارة غضب أجنحة عديدة في النظام؛ بسبب انتقاده لشبكات الفساد داخل الدولة، وحتى خارجها بعدما اشتكت دول عربيا من مقالاته.

 

أصدر العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر 2019 عفوا ملكيا عن الصحافية هاجر الريسوني، التي أدينت بالسجن عاما واحدا بسبب "الإجهاض" و"إقامة علاقة خارج إطار الزواج". وكانت قضية الريسوني قد أثارت انتقادات من جماعات حقوق الإنسان. وقالت هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، في وقت سابق: "هذه القضية تذكير صارخ بالحاجة الملحة إلى إلغاء القوانين المغربية التي تجرم ممارسة الجنس خارج إطار الزواج والإجهاض".
أصدر العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر 2019 عفوا ملكيا عن الصحافية هاجر الريسوني، التي أدينت بالسجن عاما واحدا بسبب "الإجهاض" و"إقامة علاقة خارج إطار الزواج". وكانت قضية الريسوني قد أثارت انتقادات من جماعات حقوق الإنسان. وقالت هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، في وقت سابق: "هذه القضية تذكير صارخ بالحاجة الملحة إلى إلغاء القوانين المغربية التي تجرم ممارسة الجنس خارج إطار الزواج والإجهاض".

 

استمرار الصحيفة في ذات الخط التحريري، وارتفاع منسوب انتقادها الأوضاع في المغرب، كان وراء اعتقال الصحافية هاجر الريسوني المنتمية لنفس الجريدة؛ بعد مغادرتها لعيادة طبية رفقة خطيبها السوداني، بتهمة الفساد والإجهاض. وهو ما نفاه طبيبها المعتقل في هذه القضية، وكذا التقارير الطبية التي خضعت لها الصحفية، مكرهة خلال فترة التحقيق، بأمر من النيابة العامة.

أدينت هاجر بسنة سجنا نافذة؛ بعد متابعتها في حالة اعتقال رغم توفر ما يكفي من الضمانات بتمتيعها بالسراح خلال أطوار المحاكمة، في واقعة لا تخرج في أسوء التكييفات القانونية عن الحمل أثناء فترة الخطوبة، وقد نظمت مدونة الأسرة هذه الحالة، ما يجعل ادعاءات النيابة العامة بلا أساس.

دشن المخزن، عقب تراجع المد الثوري إقليما، موسم التراجعات في مسار الانتقال نحو الديمقراطية، لأن أي نص دستوري مهما بلغت من التقدم، فهو يظل رهينة ثقافية سياسية عتيقة، تتحكم في تطبيق مقتضياتها وتأويل أحكامها. وهو ما يعني أن حمولة هذه النصوص لن تكون دوما مطابقة للواقع السياسي، خاصة وأن المخزن في المغرب لا يريد أن يفرط في ماضيه الاستبدادي والسلطوي.

 

محمد طيفوري

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019