نحن نعلم النساء ألّا يُغتصَبن: عن الأبوية والعنف الجنسي

مع كلّ واقعة تحرّش أو اعتداء جنسيّ تخرج إلى العلن، تصطدم الناجية لا مع المتحرّش والمعتدي فحسب، بل مع بنية اجتماعيّة كاملة تبرّر الفعل، وتُنظّر له، وتهوّن من الجريمة.

الكاتبة ، الكاتب: أميرة عكارة

كما في كل مرّة تحصل فيها واقعة تحرّش جنسي، فتحت وقائع اتهام لاعب كرة القدم المصري عمرو وردة بالتحرّش عبر وسائل الاتصال الاجتماعي بعارضة الأزياء المكسيكيّة جيوفانا ڤال (Giovanna Val) ومن قبلها بعارضة الأزياء المصرية البريطانية ميرهان كيلر مجالًا واسعًا للجدل العام حول هذه الوقائع وحول التعاطي المجتمعي معها، وحول التحرش والعنف الجنسيّ ضد النساء بصفة عامة.

«يتعلّق العنف الجنسي بالقوة وبحيازة الامتياز»، تقول تارانا بيرك مؤسّسة حركة «أنا أيضًا» (Me Too)، ملخصةً إشكالية العنف الجنسي الرئيسة، وهي أنّه عنفٌ بنيويّ، مرتبط بعلاقات القوّة، وليس عنفًا عابرًا، أو ظاهرة مستحدثة، أو فعلًا فرديًّا يبدأ وينتهي عند الجاني والناجية فقط. لذا فمع كل واقعة تحرّش أو اعتداء جنسي تخرج إلى العلن، عادةً ما تصطدم الناجية لا مع المتحرّش والمعتدي فحسب، بل مع بنية اجتماعيّة كاملة تبرّر الفعل، وتُنظّر له، وتهوّن من الجريمة، وتصم الناجيات، بل وتستحسن أحيانًا ما يعدّه القانون في صوره المتعددة جرمًا.

المجتمع شريكًا في العنف الجنسيّ 

لا تساهم ردّات الفعل التبريريّة تجاه جرائم التحرّش والاعتداء الجنسيّ في تطبيع العنف الجنسي عبر بعد حدوثه فحسب، بل يسبق التواطؤ المجتمعي الفعلَ نفسه عبر عمليّة التلقين والتنشئة الاجتماعية، بنفي صفة الجرم عن فعل العنف الجنسيّ مسبقًا، وإحالة مسؤوليّته إلى النساء، لا إلى المعتدين. تلخّص ذلك مقولةٌ لهيلاري بومو صارت شائعًة في اللغة الإنجليزيّة، وفي لافتات التظاهرات ضد العنف الجنسيّ في عدّة دول غربيّة، مفادها أنّ المجتمع يُعلّم النساء ألّا يُغتصَبن، بدلًا من أن ينهى الرجال عن الاغتصاب.

تشير المقولة بدقّة إلى الإشكال الرئيس فيما يتعلّق بالتعامل مع النساء، ومع الناجيات من العنف الجنسي بكافّة صوره: فمن ناحية يخاطب المجتمع النساء-الناجيات، بدلًا من الرجال-مرتكبي العنف الجنسيّ، ويحثهنّ على حماية أنفسهنّ من الجريمة، بدلًا من نهي الرجال وردعهم عن ارتكابها، ويفترض ضمنًا ومسبقًا أنهنّ، لا مرتكبو الفعل، مسؤولات عن حدوثه. وبالمثل، يكون الخطاب بعد ارتكاب العنف الجنسيّ موجّهًا للناجية، لومًا ووصمًا، وتشهيرًا وتحقيرًا، وتحريضًا ضدّها، لا إلى الجاني. «ثقافة الاغتصاب» هذه، والاسم هنا جامعٌ لكلّ أشكال العنف الجنسيّ ضد المرأة، تقع في قلب التطبيع المجتمعي مع التحرّش والاعتداء الجنسيّ، وهي ثقافة لها تاريخ طويل من الاعتقاد والممارسة غربًا وشرقًا،[1] وتنضوي تحتها ممارسات شائعة مثل لوم الضحية، وتشويه السمعة، والتقليل من وطأة العنف الجنسيّ، ومن حدّة انتشاره، من ضمن ممارسات أخرى.

مظاهرة أمام كاتدرائية كولونيا ترفض العنف ضد النساء على خلفية أحداث رأس السنة 2016.
تكمن الإشكالية الرئيسة أساسًا في بنية اجتماعيّة كاملة تنتج، وتحمي، وتعيد إنتاج كلّ ما يمثّله عمرو وردة من ثقافة راسخة من شرعنة التحرّش وتمكينه.

برزت تجليّات «ثقافة الاغتصاب» هذه بصورة مكثّفة في الأيّام الماضية في خضمّ ما أثير من وقائع تحرّش عمرو وردة بالعارضتين، وما صاحب ذلك من ردّات فعل دفاعيّة كبيرة من رجال ونساء وجدوا أسماء وتوصيفات كثيرة للفعل عدا كونه تحرّشًّا. كما وجدوا، أو أوجدوا، في ظلّ التواطؤ المجتمعيّ العام مع العنف الجنسيّ ضد النساء وسائل عدّة لإدانة الناجيات، والتشهير بهنّ، ووصمهنّ، والتنمّر عليهنّ، بدلًا من إدانة المتحرّش. فمن نفي صفة التحرّش تحت دعاوى أنّه كان فقط شكلًا من أشكال «التعارف»، إلى القول بأنّ النساء لا يستطعن التفريق بين «الملاطفة أوالتعارف» و«التحرّشّ»، إلى الادعاء أنّ ما ينطبق على التحرّش في المجال العام لا ينطبق بالضرورة على ما يحدث عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، إلى اتهام الناجيات بأنهنّ مُدّعيات وطالبات شهرة، وحتّى القول إنّ الناجية ليست «جميلة» بقدر يكفي للتحرّش بها. تعدّدت الوسائل والحاصل واحد.

الستر والفضح: معايير مزدوجة ومفارقات كاشفة

في خضم ردّات الأفعال هذه، وفي ظل أكثر من سابقة تحرّش لعمرو وردة، ثمّة الكثير ممّا يثير الانتباه والحفيظة والغضب المستحق أيضًا. فمن ضمن ما شاع من الجمهور ومن بعض الشخصيّات الشهيرة حيال القضيّة هو طلب «الستر» على اللاعب المتّهم بالتحرّش وطلب العفو عمّا ارتكب. وعلاوة على أنّه لا يصح استدعاء أيّة قيم من الخطاب الدينيّ في هكذا واقعة تتعلّق بسلوك مُجرَّم واقع على ضحيّة/ناجية من حقّها وحدها العفو عن المتحرّش من عدمه، فإنّ ما يثير الاستهجان والنقد أيضًا هو الاستدعاء الانتقائيّ لمفهوم «الستر» في واقعة تحرّش جنسي، وعدم استدعائه بهذه الصورة الجمعية الحماسية، مثلًا، في واقعة تسريب مقطع فيديو من الحياة الخاصة لفنّانتين دون علمهما وإرداتهما، بل وتحوليهما للتحقيق حول ذلك، وما صاحب الأمر من فضح ووصم وتشهير وتهديد لمستقبليهما الشخصيّ والمهنيّ.

ثمّة مفارقة مؤسفة وكاشفة، بل فاضحة، لجوهر النظام الاجتماعيّ القائم هنا: ففي حين انتُهكت الحياة الخاصّة لامرأتين لم ترتكبا جرمًا في حقّ أحد، وشُهّر بهما في إثر ذلك، ومُورست ضدهما أصناف من العنف والوصم والاستباحة، وحُولتا إلى التحقيق، ما يعني أنّهما عوقبتا ماديًّا ورمزيًّا دون وجه حقّ، لقي وردة الذي اتُّهم بالتحرّش مرارًا الكثير من المساندة والدعم وطلب الصفح عنه، وأفلت من عقاب مستحقّ على جريمة في حقّ أكثر من امرأة.

مع كلّ واقعة تحرّش أو اعتداء جنسيّ تخرج إلى العلن، تصطدم الناجية لا مع المتحرّش والمعتدي فحسب، بل مع بنية اجتماعيّة كاملة تبرّر الفعل، وتُنظّر له، وتهوّن من الجريمة.

من اللافت للنظر أيضًا أنّنا لم نسمع هذه المرة على الإطلاق عبارة «خدش الحياء العام» المطاطيّة، ولا مقولة «التعدّي على قيم وعادات وأخلاق المجتمع المصريّ» التي تحوّلت إلى كليشيه غامض وغير ذي معنى يُشهَر فقط كسيف مُسلّط على النساء حين يكسرن الأنماط الاجتماعيّة السائدة، ويمارسن خيارات شخصيّة ليست على المزاج الجمعيّ العام، كما حدث أكثر من مرّة فيما سبق، ربّما آخرها في الواقعة الشهيرة حول فستان ارتدته الفنّانة رانيا يوسف في مهرجان القاهرة السينمائيّ الأخير. من الواضح أنّ المدافعين عن وردة لم يجدوا ما يخدش المزاج العام المتواطئ سلفًا مع العنف ضد النساء، بالإضافة إلى أن سابقات كهذه تُظهر بوضوح ما تتعرّض له المرأة من قمع مركّب: مرّةً بتسلّط الرجال على جسدها وخياراتها، ومرّة أخرى بقمع حقّها في مقاومة الانتهاك والعنف الجنسيّ الواقع عليها وعلى جسدها، وفي عقاب منتهكيها.

تشيد دراسات أممية إلى أن العنف الجنسي ضد المرأة يشكل سلاحا خاصاً في مناطق الأزمات وتعتبره واقعا مريبا في كل مناطق الأزمات تقريبا في عصرنا الحالي.
تشيد دراسات أممية إلى أن العنف الجنسي ضد المرأة يشكل سلاحا خاصاً في مناطق الأزمات وتعتبره واقعا مريبا في كل مناطق الأزمات تقريبا في عصرنا الحالي.

من ناحية أخرى، جاء طلب اللاعب المصريّ محمد صلاح منح زميله في المنتخب فرصةً «ثانية» متناقضًا مع ما ورد قبله من حديثه عن ضرورة معاملة النساء باحترام، بالإضافة لكونه مفارقًا لحقيقة أنّ لوردة سابقات اتهام متكرّرة بالتحرّش، وأنّه تجاوز فعليًّا أكثر من فرصة للعدول عن سلوكه، فضًلا على تشديد صلاح على أنّه لا يجب أنّ نذهب بزميله إلى المقصلة، وهو ما يناقض ما حدث مع وردة من دفاع مستميتٍ ودعم ومساندة وطلب الصفح والعفو من زملائه في المنتخب ومن جمهوره أيضًا. لذا فلم يكن ثمّة معنىً للحديث عن التطرّف في عقاب وردة لأنّه، ببساطة، لم يعاقب من الأساس، حيث سرعان ما تراجع اتحاد كرة القدم المصري عن قراره استبعاد وردة نهائيًّا من المنتخب على خلفيّة ما حدث، واكتفى باستبعاده من اللعب في الدور الأول لبطولة الأمم الأفريقيّة المقامة حاليًا، وهو الأمر الذي ساهم فيه صلاح بصورة كبيرة أيضًا. وبالإضافة إلى كل ذلك، فإنّه من المنطقي ألّا نطالب بفرصة ثانية للجريمة، وألّا يكون طلب العفو أو تخفيف العقوبة سابقًا للعقاب والتقويم والتوجيه، خاصّةً على جرم متكرّر، إذ هنا لا يكون الإفلات مرارًا من العقاب عليه مجرّد إفلاتٍ من العقاب، بل يرقى لكونه مكافأة.

 

الأبويّة والعنف الجنسيّ ضد النساء

أن يكون العنف الجنسيّ ضد النساء عنفًا بنيويًا يعني أنّه يرتكز على بنى معرفيّة واجتماعيّة ومؤسسيّة أنتجته وتعيد إنتاجه باستمرار. لا عجب إذن أنّه ثمّة ارتباط أصيل بين العنف الجنسيّ ضد النساء والنظام الأبويّ، حيث الأخير، وهو الذي يستمد قوّته من المأسسة والاعتياد والرسوخ بفعل الزمن وتوارث الأجيال لقيمه، وإعادة إنتاجها لها، يُعدّ نظاما مؤسّسًا للأوّل. تكمن خطورة الأبويّة في كونها سرديّة قديمة جدًّا ومتأصّلة في بنى مجتمعاتنا الثّقاقيّة والاجتماعيّة، وفي سيولتها ولا مرئيّتها في أحيان كثيرة، وفي إعادة إنتاجها لنفسها، وفي اشتراك الجميع، رجالا ونساءً، في إعادة إنتاجها، أحيانًا حتّى تحت مسميّات مقاومتها ونقدها. وتاليًا أحد الأمثلة لجزء من حملة نعُتت بالـ«تنويريّة»، غير أنّها بالأساس تعيد إنتاج ما ادّعت، أو تمنّت، مجابهته.

 

كيف تحمى نفسك اذا اتعرضتى لتحرش؟ #واش_ماعندكش_ختك pic.twitter.com/vXiuZ71WPw

— (@a_hhhhhk) March 28, 2018

 

تحت شعار «الرجولة أدب»، رفع مغنّ شابّ ضمن حملة أطلقتها مجلة «What Women Want» العام الماضي لافتة تقول: «لو أذيت الست اللي بتربّي ولادك هتأذي ولادك». لافتة تنتمي، على عكس ما يظن رافعها والقائمون على الحملة ومن أثنوا عليها، لجوهر المنطق الذكوريّ وخطابه. إذ تتمثّل فيه المرأة كـ«وظيفة»، «الست اللي بتربّي ولادك»، وتنطلق الدعوة للنهي عن العنف تجاهها لا من كونه عنفًا، مرفوضًا كمبدأ، ولا من كونها إنسانًا لا تستحقّ العنف لأيّما سبب، بل لغاية أخرى، لهدف «أسمى»، كي لا يتأذّى أولادك، فلا نظرة للمرأة هنا، كما في الخطاب الأبويّ عامة، إلّا على أنها «أداة». ولكونها تؤدّي وظيفة فحسب، لا يريدونها أن تخفق في أدائها، لا لأجلها، بل من أجل الرجل ومن أجل الأولاد، أولاد الرجل. وضلًا عن أنّ الخطاب هنا ينطلق من الرجل إلى الرجل وعن الرجل، فـ«الرجولة أدب»، والتمسّك بها يحفظ أدبكَ، والنهي عن الأذى لا ينطلق إلّا من كونه حفاظًا على أدب الرجل، وعلى أولاده. وحتّى نسب الأولاد في اللافتة ليس جامعًا، النسب للرجل فحسب، هي تربّي الأولاد كي يصيروا أولاده هو، في افتراض صريح أن مسؤوليّة تربية الأولاد هي مسؤوليّة المرأة وحدها، وكل ما يجب على الرجل فعله، تفضًّلا، هو ألّا يفسد على المرأة «وظيفتها».

تكمن الإشكالية الرئيسة أساسًا في بنية اجتماعيّة كاملة تنتج، وتحمي، وتعيد إنتاج كلّ ما يمثّله عمرو وردة من ثقافة راسخة من شرعنة التحرّش وتمكينه

مركزيّة الرجل في الخطاب الأبويّ، متمثّلة في «جملة» قصيرة كهذه، قد تكون مثالًا موضحًا لكيف يؤسس النظام الأبويّ للعنف الممارس ضد المرأة، ماديًّا ورمزيًّا، من القولبة والتنميط، إلى علاقات القوّة غير المتكافئة، إلى اعتبار المرأة مُلحقة بالرجل، وموضوعًا لرغباته ورؤيته، إلى الرغبة في حيازة جسدها ومراقبة ومصادرة اختياراتها، واستحقاق حركتها وحريّتها واختياراتها الشخصيّة في المجالين العام والخاص. ينطلق العنف ضد المرأة، جنسيًّا وغيره، ماديًّا ورمزيًّا، كأمر «طبيعيَ»، «اعتياديّ»، وكجزء أصيل من البنى والمؤسسات الثقافيّة والاجتماعيّة، وكقيم يستدخلها الجميع، رجالًا ونساءً، ويعيدون إنتاجها كأمرٍ لا خلاف عليه.

ليس هذا المثال بعيدًا عن سياق الحديث عن العنف الجنسيّ ضد النساء، فارتباط هذا العنف بالثقافة الأبويّة يعني أنّ الإشكالية الكبرى لا تكمن في متحرّش بعينه كعمرو وردة، لكنّها تكمن بصورة رئيسة في بنية اجتماعيّة كاملة تنتج، وتحمي، وتعيد إنتاج كلّ ما يمثّله وردة من ثقافة راسخة لشرعنة التحرّش وتمكينه.

من هنا يمكن القول إنّ ما أثارته مؤخّرًا وقائع تحرّش عمرو وردة بعدد من النساء وما تثيره كلّ الوقائع الشبيهة من حجم القبول والتسامح الاجتماعيّ الواسع مع العنف الجنسيّ ضد النساء، وما ينطوي عليه من تبرير وتمرير له، يستدعي الانتباه إلى تأصّل «ثقافة الاغتصاب» في بنى مجتمعاتنا، وإلى أثرها الكبير في تأبيد التحرّش والعنف، وإلى أنّ مجابهة هذه الثقافة تبدأ بتسمية التحرّش والعنف الجنسيّ باسمه، وبالاعتراف بأنّه جريمة، كأيّ جريمة، لا مبرّر لها، وتقع مسؤوليّتها على مرتكبها وحده.

 

أميرة عكارة

حقوق النشر: حبر 2019

باحثة في مجال علم اللغة التطبيقيّ، مهتمّة بدراسات التحليل النقديّ للخطاب، والإنسانيّات الرقميّة، ودراسات الجندر والجنسانيّة.

1. ورد مثلا أنّه في ظل قوانين حامورابي كانت المرأة المُغتصَبة والمغتصِب يقيّدان ويرميان في النهر، إلّا أن تكون المرأة المُغتصَبة بكرًا، فتعدّ القضيّة حينها جريمة ملكيّة في حقّ والدها.

Gillespie, L. K., & King, L. (2014). Legislative origins, reforms, and future directions. In T. N. Richards & C. D. Marcum (Eds.), Sexual victimization: Then and now (pp. 15-32). California, CA: Sage Publications