بعد تراجع خطر الإرهاب... نساء بغداد يحلّقن في فضاء الحرية

المرأة البغدادية كانت في مقدمة المستفيدين من الوضع الأمني والسياسي الجديدين في العاصمة العراقية، فبعد تراجع خطر الإرهاب نسبيا وانهيار الحواجز بكل أنواعها، تنفس البغداديات الصعداء وحلّقن في فضاء الحرية بكامل طاقتهن. التفاصيل من يوديت نويرينك من العاصمة العراقية بغداد.

الكاتبة ، الكاتب: Judit Neurink

منذ هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق، والعاصمة العراقية بغداد تمرّ بتغييرات كبيرة، فقد عاد الأمان إلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة. وتمت إزالة معظم الحواجز الاسمنتية التي وُضعت على مدار العقد الماضي للحفاظ على سلامة المباني العامة والخاصة، لتظهر الحدائق والمناطق الخضراء.



وفي تطور ملحوظ، تمّت مؤخراً إعادة فتح المنطقة الخضراء في المدينة أمام المواطنين، وهي التي تضم مباني البرلمان والوزارات والسفارات، وذلك بعد سنوات من الإغلاق والتحصين خلف الأسوار والجدران ونقاط التفتيش.



أول مقهى نسائي

وكجزء من التغييرات، التي طرأت على الجو العام، شهدت بغداد افتتاح أول مقهى نسائي فيها، حيث تلتقي النساء دون أن يرافقهنّ الرجال ودون ارتداء الحجاب والعباية الطويلة التي أصبحت شائعة جداً في الشارع. لكنها أول الأشياء التي يخلعنها عند دخول مقهى" La Femme" (المرأة).

تقول صاحبة المقهى، عذراء عادل عبد (47 عاماً): "لا يريد الآباء أن تذهب بناتهم إلى المقاهي التي يدخن فيها الرجال الأرجيلة أو كما يقول العراقيون النرجيلة (الشيشة)"، وهي تتحدث بذلك عن الوضع في الأماكن العامة في العراق.



وتقوم صاحبة المقهى بتقديم النرجيلة التي تحضرها امرأة أخرى للزبونات، بينما تقوم ابنتها ميس (20 عاماً) بتقديم كوكتيل الشمبانيا الخالية من الكحول وغيرها من المشروبات، بالإضافة إلى الوجبات الخفيفة.

عذراء عادل عبد، صاحبة "مقهى المرأة" في بغداد. الصورة: يوديت نويرينك& دويتشه فيله
تقول صاحبة المقهى، عذراء عادل عبد (47 عاماً): "لا يريد الآباء أن تذهب بناتهم إلى المقاهي التي يدخن فيها الرجال الأرجيلة أو كما يقول العراقيون النرجيلة (الشيشة)"، وهي تتحدث بذلك عن الوضع في الأماكن العامة في العراق.





حتى وإن احتاجت عذراء عادل إلى حارس للمقهى، مثلما هو شائع في العراق، فستبحث عن امرأة للقيام بذلك، كما تقول، وتضيف: "بعض الرجال غاضبون من أنهم غير مرحّب بهم، والبعض يقول إننا نبيع الكحوليات والمخدرات بالسر". ورغم أن المقهى يقع في مبنى عالٍ يضم صالة رياضية للرجال ومطاعم أخرى، وليس فيه سوى مصعد واحد، لم يغامر أي رجل بالدخول إلى هذا الملاذ النسائي حتى الآن.

سيدات أعمال



معظم زبونات المقهى هنّ من الطبقات الوسطى والعليا. وينظّم المقهى حفلات أعياد الميلاد وخطوبة والتخرج للزبونات الشابات. أما الزبونات من الجيل الأقدم فيفضلنَ شرب القهوة والاستماع إلى المطربين العراقيين القدامى الذين توجد أغانيهم في النظام الصوتي في المقهى.



تقول عذراء إنها لم تكن قادرة على فتح المقهى قبل خمس سنوات، وتضيف: "كان الناس خائفين. أما الآن فهناك انفتاح أكثر"، وهي تقصد بذلك أنه يمكن للنساء إدارة الأعمال الآن.



وبالإضافة إلى المقهى، أنشأت عذراء مشروعاً لجمع الطعام الزائد عن الحاجة من المطاعم وتوزيعه على الفقراء والنازحين في المدينة، والذين يبلغ عددهم حوالي 190 ألف شخص. ورغم أنها اضطرت إلى إيقاف نشاطها هذا بشكل مؤقت، بسبب نقص الأموال، كما تقول، إلا أنها تبحث عن بغداديين أثرياء من أجل تقديم الدعم المادي.

 

تغيّر في العادات



وعذراء ليست المرأة الوحيدة التي تدير مشروعاً في المدينة، فبعد هزيمة تنظيم "داعش"، ونتيجة للاستقرار السياسي في الوقت الحالي، تطالب النساء بحصتهنّ في الفضاء العام للمدينة. وفي حي المنصور، الذي يقع فيه مقهى "La Femme"، أصبحت معظم المقاهي والمطاعم مختلطة، حيث تدخن النساء النرجيلة (الشيشة) إلى جانب الرجال.



وقد وصلت رياح التغيير إلى الشوارع أيضاً، حيث ترتدي النساء الثياب الملونة، بدلاً من العباية السوداء. وحتى الحجاب، أصبحت بعض النساء تستغني عنه، مثل ميس التي تفضل ارتداء الجينز.

وينطبق الشيء نفسه على ميري الخفاجي، التي تزوجت مصطفى العاني مؤخراً. تنضم الخفاجي العشرينية إلى زوجها العشريني لتدخين النرجيلة سوية في حديقة شهيرة ببغداد. شعرها أسود منسدل وترتدي قميصاً أخضر مع الجينز.



زواجهما أيضاً هو إشارة أخرى على تغير الجو العام في بغداد، فحقيقة كونها شيعية وهو سني كانت ستؤدي إلى مشاكل كبيرة قبل عدة سنوات. لكن ومنذ أن اتحد العراقيون لطرد تنظيم "داعش"، عادت الزيجات المختلطة إلى البلاد، بل وأصبحت بين الشباب في بغداد الزيجات "العادية الجديدة".

تجاوز مصطفى العاني وميري الخفاجي انتماءهما إلى طائفتين مختلفتين وتزوجا. الصورة: يوديت نويرينك& دويتشه فيله
يقول العاني: "رغم أن الزيجات المختلطة هي الزيجات "العادية الجديدة" في بغداد، على حد تعبيره، إلا أنها أقل شيوعاً في المناطق المحافظة بشكل أكبر والمناطق المعزولة خارج العاصمة".

قبل سقوط نظام صدام حسين عام 2003، كان من الطبيعي أن يتزوج العراقيون من الطوائف والأديان المختلفة بحرّية. لكن النظام الجديد قسم البلاد حسب المعتقد، وعندما وصلت الأغلبية الشيعية إلى السلطة، أدى ذلك إلى نشوب حرب أهلية بين الطوائف، وصعود المتطرفين، وفي نهاية المطاف ظهور تنظيم "داعش". ونتيجة لذلك، أراد الآباء لأولادهم أن يتزوجوا ضمن مجموعتهم المذهبية. "لكن بعد داعش، قرر العديد من العراقيين أنهم يريدون ترك تلك الحقبة السوداء وراءهم والعودة إلى الوقت قبل الانقسامات"، كما يقول الزوجان الشابان.

ورغم أن الآباء يختارون أزواج أولادهم، بحسب العادات في العراق، إلا أن الزوجين تعارفا في شركة الاتصالات التي يعملان فيها. وهما ليسا الوحيدين في ذلك، حيث أن العديد من الشباب والشابات يتعارفون في أماكن العمل أو خلال الدراسة لتتطور العلاقة بينهم إلى الزواج.

وسائل التواصل الاجتماعي تجلب التغيير



ويشير الزوجان إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي كان لها تأثير كبير (في التغيير)، وذلك من خلال تزويد الشباب بطريقة جديدة لتكوين صداقات جديدة ضمن المجتمع العراقي المحافظ. وبما أن معظم الناس لا يستخدمون أسماء عائلاتهم – التي غالباً ما تكشف طائفتهم- على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الناس لا يعرفون فعليًا المذهب الذي ينتمي إليه أصدقاؤهم الجدد. وعندما يكتشفون ذلك، فقد يكون الحب قد ازدهر.



يقول العاني إن وسائل التواصل الاجتماعي شجعت الشباب على أن يكونوا ذوي فكر نقدي بشكل أكبر، ويضيف: "ترعرع الشباب السنة والشيعة سوية على انتقاد الدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية الدينية وتأثير الدين على المجتمع". ورغم أن الزيجات المختلطة هي الزيجات "العادية الجديدة" في بغداد، على حد تعبيره، إلا أنها أقل شيوعاً في المناطق المحافظة بشكل أكبر والمناطق المعزولة خارج العاصمة.

ويشكل نظام الزواج نفسه عائقاً آخر، حيث يتوجب على الزوجين اختيار المذهب الذي يريدان تسجيل زواجهما به، حيث أن لكل طائفة عاداتها الخاصة فيما يتعلق بقوانين الزواج والطلاق. وعلى الرغم من أن قوانين الطلاق الشيعية أفضل قليلاً للنساء، كما يقولان، إلا أن الزوجان اختارا القوانين السنية. تقول الخفاجي: "نصحتني السيدة في المحكمة باختيار الضد (القوانين الشيعية)، إلا أنني لا أكترث بذلك"، مشيرة إلى أنها سئمت من الفصل المذهبي.

الناشطة العراقية هناء إدوار. الصورة: دويتشه فيله
تعتبر الناشطة هناء إدوار أن تحسن الوضع الأمني بعد "داعش" هو المحرك الرئيسي للتغيير، وتضيف: "إنه التأثير النفسي لإزالة جميع هذه الحواجز. الشابات يقلن لأنفسهنّ إن الوضع مهيأ الآن، من أجل العيش بشكل طبيعي مجدداً. إنهنّ يتركنَ الحجاب ويلعبنَ دوراً فعالاً في المجتمع. وعوائلهنّ موافقة على ذلك".

إزالة الحواجز هي المحرك الرئيسي

وترى هناء إدوار، وهي ناشطة معروفة ترأس جمعية الأمل في العراق، أن تحسن الوضع الأمني بعد "داعش" هو المحرك الرئيسي للتغيير، وتضيف: "إنه التأثير النفسي لإزالة جميع هذه الحواجز. الشابات يقلن لأنفسهنّ إن الوضع مهيأ الآن، من أجل العيش بشكل طبيعي مجدداً. إنهنّ يتركنَ الحجاب ويلعبنَ دوراً فعالاً في المجتمع. وعوائلهنّ موافقة على ذلك".

وتقول إدوار إن الآباء يدركون أن أطفالهم بحاجة إلى مزيد من الحرية، ما أدى إلى تجمعات مختلطة من الشباب والشابات في المقاهي. كما أن الورشات التي تقيمها جمعيتها أيضاً أصبحت أكثر اختلاطًا.

وتضيف الناشطة العراقية: "يسمح الآباء لبناتهم بالسفر بمفردهنّ إلى البصرة أو أربيل الآن". وقبل ذلك كان يجب أن يرافقهنّ الأب أو أحد الإخوة. وتتابع إدوار: "خلال الحرب ضد داعش، رأينا شباباً وشابات يتكاتفون من أجل تقديم الدعم للمدنيين". وتطرأ هذه التطورات رداً على الطريقة التي كان يقوم بها تنظيم "داعش" بتقييد حريات الشباب. ونتيجة لذلك تستعيد النساء مكانتهنّ في الفضاء العام.



وتختم هناء إدوار: "النساء يمثلن على المسارح مجدداً، وكان هذا قد أصبح شيئاً غير مسموع تقريباً، كما إنهنّ يتحدثن علناً – ضد الزواج القسري على سبيل المثال. إنهنّ يحطمن الجدران، ويبدأن حتى بهزّ العادات القبلية".





يوديت نويرينك/م.ح

حقوق النشر: دويتشه فيله 2119