هل ساهمت ثورات الربيع العربي في تهميش قضية فلسطين؟

أدت حالة الإستقطاب الحاد في دول الربيع العربي إلى إنقسام لم يسبق له مثيل، رافقه تكريس للانقسام الفلسطيني سياسياً وجفرافياً. كما أوجدت التغيرات الإقليمية والدولية مناخاً جيداً للتقارب بين دول عربية وإسرائيل مما خلق تحالفات غير رسمية أو خفية ساهمت في فقدان القضية الفلسطينية لمركزيتها، كما يوضح الباحث عبد الهادي العجلة في تحليله التالي.

الكاتبة ، الكاتب: عبد الهادي العجلة

تخيلوا معي أن تشن اسرائيل حرباً جديدة علي غزة أو تطرد الفلسطينيين من الداخل (لا سمح الله). ماذا سيكون رد فعل العرب؟ ماذا سيكون الرد الشعبي العربي؟ هل ستكون الاعتصامات المنددة بالاعتداءات أكبر من نظيرتها في العام 2008/2009 أم ستكون أكبر من المظاهرات في لندن وميلان ونيويورك؟ هل ستخرج القاهرة كما خرجت في حرب 2008؟ أم ستخرج طرابلس الغرب؟ أم بيروت؟ أسئلة من الصعب طرحها. ولكن الإجابة القصيرة والحزينة هي "لا".

قبل عدة أشهر عقدت القمة الإسلامية جلساتها في تركيا وناقشت ملفات عديدة كان أهمها الملف السوري وملفات أخري كملفات دولة اذربيجان والبوسنة وليبيا واليمن والصومال. ولكن كالعادة يبقي ملف فلسطين هو أحد أهم الملفات في كل القمم العربية والإسلامية. وبالرغم من أن البيان الختامي وجدول الأعمال يشير بقوة إلى قضية فلسطين وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، إلا أن الواقع يشير إلي عكس ذلك. فواقع القضية الفلسطينية شعبياً ورسمياً أصبح ملفاً ثانوياً بالنظر إلي الملفات الأخرى للدول العربية والإسلامية بشكل عام.

ومع التقارب الإسرائيلي الخليجي بشكل كبير وغير المسبوق أصبحت قضية فلسطين قضية ثانوية يمكن استعمالها من أجل مصالح الأنظمة العربية المناهضة للتمدد الإيراني في المنطقة. فبعد الاتفاق النووي الغربي الإيراني، وجد العرب في الخليج أنفسهم بدون أية حماية أمريكية لمواجهة إيران، التي تستمر في فرض هيمنتها على سوريا بوجود جيشها وعلى لبنان من خلال الحليف الاستراتيجي حزب الله وفى فلسطين من خلال حليفين لها وهم "الجناح العسكري لحماس وحركة الجهاد الإسلامي" واليمن عبر الحوثيين.

حلف غير معلن بين اسرائيل ودول الخليج العربي

الاتفاق النووي وضع اسرائيل ودول الخليج العربي وخصصوا السعودية في حلف قوى غير معلن وعنوانه وقف الاتفاق النووي أو وقف رفع العقوبات عن إيران ووقف التمدد الإيراني في المنطقة.

الوضع العربي، الذى مهد لمثل هذه التحالفات هو ثورات الربيع العربي. فوضع اليمن، الذى تزعزع أكثر مما سبق جاء بعد ثورات الربيع العربي التي تمددت لتشمل المواجهات بين الحوثيين والجيش اليمنى وبعدها التدخل الخليجي في اليمن.

في البحرين جاء التدخل الإيراني بعد خروج الأغلبية الشيعية مطالبة بالحقوق وفرضت معادلة جديدة في تلك المنطقة عنوانها عدم الاستقرار والتدخل العسكري الدائم.

وفي ليبيا تدخلت الإمارات العربية لمواجهة سيطرة الإخوان المسلمين في ليبيا وفى سوريا دعمت السعودية القوى السورية المعادية لنظام الأسد. كل ذلك جعل الدول الخليجية (ما عدا عُمان) تقف في نفس موقف اسرائيل. وكل ذلك جعل من الحلف الغير معلن بين دول الخليج وخصوصا السعودية واسرائيل امراً واقعاً لا يمكن انكاره. ومؤخرا وقعت مصر والسعودية اتفاق يجعل من السعودية دولة ذات حدود بحرية مع اسرائيل وبالتالي قبول اتفاقية كامب ديفيد ودخول وخروج السفن الإسرائيلية من خليج تيران وبالتالي مراسلات بين السعودية واسرائيل لأول مرة. 

هذا الحلف الغير معلن يعنى أن الموقف الرسمي العربي يضع الآن مصلحته وخصوصاً وقف التمدد الإقليمي لمنافسيه أمام القضية الأولى للعرب والمسلمين، حسب بيانات القمم العربية والإسلامية. وما يلفت الإنتباه أن أي بيان عربي صدر مؤخرا أو أي جهد من المجموعة العربية للمبادرة العربية للسلام 2002 لم يتطرق إلى قضية تهويد القدس واستمرار الاستيطان. 

بدأت حركة فتح امؤتمرها السابع الذي يفترض أن يتيح لكبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وأقدمها، إعادة تنظيم صفوفها برئاسة محمود عباس، من دون توقع إحداث تغييرات جوهرية على برنامجها السياسي.
بدأت حركة فتح امؤتمرها السابع الذي يفترض أن يتيح لكبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وأقدمها، إعادة تنظيم صفوفها برئاسة محمود عباس، من دون توقع إحداث تغييرات جوهرية على برنامجها السياسي.

عجز فلسطيني

وأمام تلك التطورات الكبيرة تقف القيادة الفلسطينية عاجزة عن إتخاذ أي قرار عربي موحد من أجل إدانة اسرائيل أو إقامة دولة فلسطينية. فحين إجتمع أمراء وشيوخ دول الخليج العربي مع الرئيس الأمريكي تمحورت المحادثات حول إيران فقط ولم يتم التطرق لموضوع القضية الفلسطينية أو الاعتداءات الإسرائيلية في القدس.

هذا الانقسام العربي الكبير في شتى المحاور والانقسامات الداخلية العربية انعكس على حضور القضية الفلسطينية بشكل كبير. فالسياسيين العرب أصبحوا يركزون على قضاياهم الداخلية، التي تمس وجود الكيان السياسي التابع لهم من أحزاب وتحالفات إقليمية ووطنية. فبعد أن كانت القضية الفلسطينية هي أحد محددات الأنظمة العربية والسياسيين العرب، أصبحت مهمشة بل وأحياناً تستخدم بالعكس ضد الوجود الفلسطيني أو كوسيلة لكسب التعاطف من بعض الفئات في الشعوب العربية.

ففي الحالة المصرية أكبر مثال على ذلك، فبعد أن كان الفلسطيني وقضية فلسطين أكبر الهموم المصرية وكانت كلمة فلسطين والفلسطيني مفخرة في شوارع القاهرة والإسكندرية، أصبح الفلسطيني يخاف على نفسة من التحريض الممنهج من قبل الإعلام الرسمي المصري أو المدعوم رسميا ضد كل ما هو فلسطيني فخلق واقعا جديدا وهو أن الفلسطيني "مخربا ولصا وبائعا لأرضة ويريد السيطرة على سيناء وهو من يقاتل ويقتل الجيش المصري". 

ولم تقف تلك الدعوات عند ذلك الحد بل دعا بعض الإعلاميين المقربين من النظام المصري لضرب قطاع غزة بالطائرات، محرضين الشعب المصري على الشعب الفلسطيني حتى أصبح الفلسطيني يرى أن فلسطينيته هي تهمة بحد ذاتها. كما تجرأ بعض السياسيين العرب على الخروج عن النص والتغزل بإسرائيل وقيادتها والالتقاء بهم. فالإعلامي وعضو مجلس الشعب المصري، توفيق عكاشة، تجرأ بالمبدأ وسمح له بلقاء السفير الإسرائيلي في القاهرة.

ولم يكن الحال أحسن منه عندما وصل الإخوان المسلمون الى الحكم في مصر. فخلال حرب غزة عام 2012 عندما كان الإخوان السلمون يحكمون في مصر، لم يقم الرئيس السابق محمد مرسي بأكثر من فتح معبر رفح والمشافي لجرحى العدوان وإرسال المساعدات لقطاع غزة في حين لم يضغط على اسرائيل وأخذ موقف المحايد حيث توسط بين حكومة اسرائيل وحركة حماس المقربة بوقف إطلاق النار حسب اتفاق الهدوء مقابل الهدوء. جدير بالذكر أن مصادر إعلامية اسرائيلية اكدت أن المسؤولين الإسرائيليين التقوا على مدار الأعوام الماضية بالكثير من نظرائهم العرب بشكل عام.

وفى ليبيا بعد الربيع العربي جاء الرد الليبي بمنع الفلسطينيين من دخول ليبيا بسبب ضلوع بعض الدول العربية في تقويض سيادة القانون، حسب تعبيرهم في العام 2015. وعلى نفس الشاكلة كان الرد العربي بوقف منح تأشيرات دخول للفلسطينيين في بعض الدول العربية أو تشديدها بسبب سلوكيات بعض الفلسطينيين في تلك الدول مع أن منع دخول الفلسطيني في ليبيا لم يكن له معنى، لأن الفلسطيني في غزة بقى محاصراً، ليس فقط من اسرائيل، بل أيضاً من الجانب المصري، الذى أغلق معبر رفح ولا يفتحه إلا لظروف سياسية أو إنسانية. الخروج بقى لمن يملك المال ليدفع رشوة للقائمين على المعبر من الجهتين الفلسطينية والمصرية مضيفا عبئاً جديدا على الفلسطيني الطامح لمغادرة غزة للدراسة  أو العمل.

واليمن لم تكن أحسن حالا فالمئات من الفلسطينيين ممن يدرسون في اليمن تركو مقاعد الدراسة هناك وعادوا إلى البلاد أو  تركوا اليمن باحثين عن مكان آخر لاستكمال دراساتهم. ولم تكن السفارة الفلسطينية بعيدة عن الاعتداءات والتخريب بعدما تم قصفها نهاية العام الماضي محدثين خراباً ربما بدون قصد أو لإرسال رسالة معينة للسلطة الفلسطينية. أما الأهم فتمثل في غياب التضامن الرسمي والشعبي اليمني مع فلسطين وقضية فلسطين بشكل كبير. فاليمن، الذى كان يخرج لأجل فلسطين في يوم القدس لم يعد ذلك الشعب، الذى أثخنته جراح الحروب والاعتداءات والدمار والانقسام.

مأساة الفلسطينيين في مخيمات الشتات في سوريا

[embed:render:embedded:node:25574]

ولعل الوجع الأكبر لفلسطين بعد الربيع العربي هو حال الفلسطينيين في مخيمات الشتات في سوريا. حيث اضطر الفلسطيني، الذى هاجر في النكبة للعودة إلى الخيام مرة أخرى ولكن هذه المرة في تركيا وعلى الحدود وربما في داخل سوريا بعيداً عن مخيمه الأول وكأن اللجوء الأول انتهى وبدأ اللجوء الاُخر.

هذا اللجوء الجديد مصحوب بالقتل والدمار والتهجير وتغير المستقبل وغموض الواقع. الفلسطيني أصبح بين كماشة النظام السوري، الذى ضمن له حقوق متساوية مع بقية السوريين في التعليم والصحة والحياة العامة وحتى المساواة في الاضطهاد والسجن وبين كماشة المجموعات الأخرى التي تقاتل النظام. وهو لم يستطع الوقوف على الحياد سواء في مخيم اليرموك- عاصمة الشتات الفلسطيني - أو في غيرها من المناطق السورية.

ومع حصار مخيم اليرموك وتجويع أهله ومحاولات المتطرفين والجيش السوري السيطرة عليه حسمت الأمر بأن الفلسطيني سيكون الضحية سواء قبل ذلك أم رفض. فعدد الشهداء الفلسطينيين في سوريا وصل إلى أكثر من 3000 حسب مجموعة العمل من أجل الفلسطينيين في سورية.

ولم يكن فقط القتل هو النتيجة السلبية الوحيدة بل هناك أيضا مغازلات بين قوى المعارضة السورية والحكومة الإسرائيلية للحصول على دعمها واعدينها بإقامة علاقات عادية معها في حال التخلص من النظام السوري وإقامة  سورية الجديدة.

في مصيدة حرب الخليج الثانية

لا شك أن الصراع السوري أوقع الفلسطينيين في "مصيدة حرب الخليج الثانية"، حيث وقفت حماس بجانب المعارضة السورية وتخلت عن النظام السوري مما أدى إلى وقف الدعم المالي أو تجميده مؤقتا للجهاز السياسي لحماس فانتقل إلى الدوحة في ظل أحاديث عن مقايضات على أمور سياسية من أجل استمرارية إقامته أو عدم الاستمرار في النشاط السياسي مما أضعف حركة حماس وأوقعها في وحل الصراعات الإقليمية والانقسامات الداخلية حيث رفض الجناح العسكري لحماس خروجها من سوريا أو إعلان وقوفها إلى جانب المعارضة السورية.

وفى ظل الربيع العربي والحال في سوريا والمواقف الانقسامية لحركة حماس وعدم قدرتها على الاستمرارية في حكم قطاع غزة، برز تحدي جديد لحركة حماس وهو مجموعات من المتشددين الذى يرغبون باستمرارية حالة الكر والفر والجهاد فتركوا غزة واتجهوا نحو سوريا للقتال إلى جانب داعش وجبهة النصرة متوعدين حماس لتخليها عن دين الله والاحتكام للأمور الدنيوية وعدم تطبيق الشريعة في أماكن سيطرتها، كما يدعون.

أما داخلياً فوقف الشعب الفلسطيني منقسماً حول الربيع العربي، فمنهم من أيد ما حدث في تلك الدول وخصوصا في مصر ومنهم من وقف رافضاً له معتقدا أن الربيع العربي جلب الفوضى والدمار للعالم العربي. الربيع العربي زاد الفلسطينيين انقساما فوق انقسامهم الداخلي بين فتح وحماس.

توظيف قضية فلسطين من أجل تحقيق مكاسب إقليمية سياسية

وفى ظل هذا الانقسام الفلسطيني وعدم قدرة الدول العربية وخصوصا مصر والسعودية على اجبار طرفي الانقسام على انهاءه وإعادة الوحدة السياسية بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، الذى تسيطر عليه حماس بالقوة منذ العام 2007، تبقى الجهود  العربية في المحافل الدولية ضعيفة جداً للضغط من أجل الحصول على الحقوق الفلسطينية. التشتت الحاصل رسمياً وشعبياُ في العالم العربي يضع الفلسطينيين في موقف العاجزين رسمياً وشعبياً عن استمرارية خوض المعارك السياسية الدولية بشكل عام وأكثر عجزاً على المستوى الشعبي وعلى الصمود في القدس ومناطق التماس بعد أن أصبحت الدول الداعمة تواجه أزمات مالية كبيرة نظرا لانخراطها في حروب ما بعد الربيع العربي.

وفى النهاية يبدو أن الربيع العربي لم يضع مركزية قضية فلسطين رسميا وشعبياً بإشغال كل شعوب الدول العربية، إما بقضاياهم الداخلية أو بقضايا اقليمية على حساب الاُخرين، بل وضع الفلسطيني في خانة المتهم الذى يجب معاقبته.

كذلك لم تجد القيادة الفلسطينية سواء في الضفة الفلسطينية أو في قطاع غزة الدعم اللازم على المستوى الرسمي العربي لخوض معارك سياسية وغير سياسية ضد منظمة الاحتلال الإسرائيلي وهو ما أضعف موقفهم وجعلهم راضين بالوضع الراهن متمنين ألا يزيد الوضع سوءا.

وفى تطور مواز أوجدت التغيرات الإقليمية والدولية، وخصصوا فيما يتعلق بإيران مناخاً جيدا للتقارب العربي وخصوصا الخليجي مع إسرائيل مما خلق تحالفات غير رسمية أو خفية في المنطقة تؤثر على الفلسطينيين وعلى قضيتهم بشكل عام، فأضحت القضية الفلسطينية ليست القضية المركزية، بل أصبحت القضية المركزية تتمثل في كيفية توظيف قضية فلسطين من أجل تحقيق مكاسب إقليمية سياسية وتنظيم تحالفات إقليمية من أجل مصالح مبنية على الطائفية والانقسامية.

 

 

عبد الهادي العجلة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2016

ar.Qantara.de

 عبد الهادي العجلة باحث علمي فلسطيني يعمل في جامعة ميلانو الإيطالية، ومدير معهد دراسات الشرق الأوسط كندا IMESC، بالإضافة إلى عمله كمدير إقليمي مختص بدول الخليج في معهد "أنواع الديمقراطية" في جامعة غوتنبرغ السويدية.