ما هو ثمن المصالحة "التاريخية" بين مدريد والرباط؟

بعد تخلي إسبانيا عن حيادها التقليدي إزاء نزاع الصحراء الغربية أعلن المغرب عن "مرحلة جديدة" في العلاقات بين البلدين. لكن ما هو ثمن دعم اسبانيا للحكم الذاتي في الصحراء؟ تعليق محمد طيفوري لموقع قنطرة

الكاتب، الكاتبة : Mohamed Taifouri

وضعت الحرب الصامتة بين مدريد والرباط أوزارها، بعد قرابة سنة من الصراع بين الطرفين، بعد زيارة لرئيس الحكومة الاسبانية بيدرو شانسيز إلى المغرب، تُوجت بالاتفاق على خارطة طريق لتسوية الملفات والقضايا المشتركة بين البلدين.

طي صفحة الخلاف، واستئناف العلاقات بين الجارين، جاء عقب تسجيل الدبلوماسية المغرب نقطة جديدة لصالح قضية الصحراء، بعد إعلان المملكة الإسبانية، العضو في مجموعة أصدقاء "الصحراء الغربية"، إلى جانب فرنسا وأمريكا وبريطانيا وروسيا، والمستعمر السابق لما يزيد عن تسعة عقود للصحراء (1884- 1975)، تغييرا جذريا في موقفها الرسمي من النزاع، منذ انسحابها من المنطقة قبل 47 عاما.

عبّرت الحكومة الإسبانية عن موقفها الجديد قبل عدة أسابيع  في رسالة موجهة من رئيس الحكومة الاسبانية إلى الملك محمد السادس، اعتبرت فيها مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب عام 2007، بمثابة الأساس "الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف" حول الصحراء.

هذا التغير يمثل انقلابا جذريا في العقيدة السياسية لإسبانيا تجاه مشكلة الصحراء، فهو صادر عن دولة كانت مستعمرة؛ ما يعني اعترافا ضمنيا بأن الأرض عادت إلى أصحابها. كما يأتي من إحدى الدول الأوروبية المتمسكة ظاهريا بالحياد بين طرفي النزاع، رغم أن الواقع غير ذلك تماما، فقد استقبلت مدريد، قبل بضعة أشهر، إبراهيم غالي زعيم جبهة البوليساريو على أراضيها، ببطاقة هوية وجواز سفر مزورين، قصد تلقي العلاج في مستشفياتها.

: خريطة توضيحية للنزاع حول الصحراء الغربية. الصورة: DWباتت المصالحة ممكنة بين الرباط ومدريد بعدما أعلنت الأخيرة تأييد خطة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب لحل النزاع حول الصحراء الغربية، باعتباره "الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف" حول المستعمرة الاسبانية سابقا، متخلية بذلك عن حيادها التقليدي إزاء هذا النزاع.
المحلل السياسي محمد طيفوري: "التغير في موقف الحكومة الإسبانية يمثل انقلابا جذريا في العقيدة السياسية لإسبانيا تجاه مشكلة الصحراء، فهو صادر عن دولة كانت مستعمرة؛ ما يعني اعترافا ضمنيا بأن الأرض عادت إلى أصحابها". ورغم أن رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز نفى حدوث أي "انقلاب" في موقف بلاده إزاء هذا الملف، إلا أنه أثار غضب حلفائه اليساريين في الائتلاف الحكومي والمعارضة اليمينية، فضلا عن جبهة بوليساريو والجزائر.

إسبانيا في فوهة الصدام الجزائري-المغربي

مصالحة مدريد مع الرباط تقابلها أزمة دبلوماسية مع الجزائر، فقد اعتبرت الأخيرة القرار الإسباني بمثابة "خيانة ثانية للشعب الصحراوي"، واستدعت السفير الجزائري في مدريد للتشاور. يذكر أن الجزائر تربطها علاقة شراكة متينة مع إسبانيا، وتلبي أكثر من ثلث احتياجات المملكة من الغاز؛ فهي ثالث عميل بعد إيطاليا وفرنسا. ما يجعلها مالكة لورقة ضغط قوية على مدريد التي كانت تطمح، حتى وقت قريب، بزيادة تدفق الغاز الجزائري نحوها، قصد الشروع في السياسة الأوروبية التي تعمد التخلي التدريجي عن الغاز الروسي.

لم يرشح الكثير عن تفاصيل "صفقة المصالحة"، فالإعلام والخبراء؛ في الرباط وفي مدريد، يلوكون مضمون رسالة رئيس الحكومة الاسبانية إلى ملك المغرب، ثم بعده تفاصيل البيان المشترك الذي أعقب المباحثات التي جمعت بيدرو شانسيز رئيس الوزراء الإسباني بالعاهل المغربي محمد السادس، ليكون بذلك أول مسؤول أوروبي يستقبل في الرباط رسميا، منذ بدء جائحة كورونا في 2020.

يعتبر تأويل رائج أن هذا الانقلاب في الموقف الإسباني من ثمار الحرب الروسية الأوكرانية، فانحياز مدريد نحو الرباط لدعم مقترح الحكم الذاتي جاء كرد فعل على رفض الجزائر طلبا أمريكيا، للزيادة في إنتاج الغاز لتلبية الاحتياجات الأوروبية، ناهيك عن إعادة تشغيل الأنبوب المغاربي – الأوروبي المار عبر المغرب للمساعدة في التخلي عن الغاز الروسي. واستند هذا الرأي إلى المعطى الزمني، فربطوا التحول في الموقف الاسباني بزيارة ويندي شارمان؛ ممثلة الخارجية الأمريكي للمنطقة (الرباط، مدريد، الجزائر...).

"أكثر من مؤشّر يفيد بأن الصفقة منحصرة بين الرباط ومدريد"

لكن فرضية دخول واشنطن على الخط جد مستبعدة لأكثر من سبب، فالولايات المتحدة الأمريكية، في ظل حكم الديمقراطيين، لا تزال حذرة في تعاطيها مع نزاع الصحراء عكس الجمهوريين الذين قرروا بقيادة دونالد ترامب الاعتراف بمغربية الصحراء، مقابل إعلان تطبيع العلاقات بين الرباط وتل أبيب. كما أنها سجلت على المغرب؛ حليفها الأول في منطقة شمال إفريقيا، تخلفه في دعم موقفها بجلسة تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث اتخذت موقفا غير مسبوق، حين قرر التغيب عن جلسة التصويت.

رئيس الحكومة الإسبانية يتوسط ملك المغرب ورئيس الجزائر - صورة مركبة.
معضلة إسبانية بين المغرب والجزائر: تقف إسبانيا في موقف صعب بين الجزائر والمغرب بعد تغيير مدريد موقفها من النزاع حول الصحراء الغربية لصالح الموقف المغربي، خاصة أنها لا تريد تأجيج خلافات عقيمة مع الجزائر، التي ترفض مشاركة مدريد للرباط بأيّ كميات من الغاز الجزائري، وتهدد بقطع إمدادات الغاز عن إسبانيا إن هي اتخذت هذه الخطوة. من جانبها أوضحت الحكومة الإسبانية أن الغاز الذي ستزود به المغرب لن يكون "تحت أي ظرف من الظروف من أصل جزائري".

ثمّة أكثر من مؤشّر يفيد بأن الصفقة منحصرة بين الرباط ومدريد، وأن بوادرها سبقت زمنيا الحرب الأوكرانية بعدة أشهر. فقد تحدّث الملك محمد السادس، في خطاب ثورة الملك والشعب، في 20 أغسطس/ آب 2021، عن مرحلة جديدة لا سابقة لها في العلاقات بين المغرب وإسبانيا. ما يعني أن التحضير لهذا التحول في الموقف الإسباني لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة شهور من التنسيق والتشاور، بعيدا عن الأضواء، بين الطرفين في القضايا الخلافية، سيما قضية الصحراء.

تقدم العبارات المنتقاة لتدبيج الرسالة والبيان المشترك، كالحديث عن "التزامات مشتركة بين البلدين"، والتعهد بـ "الامتناع عن كل عمل أحادي الجانب"، وكذا عن "العمل المشترك من أجل التصدي للتحديات المشتركة"... مبررات لتفسير دواعي مراجعة إسبانيا لموقفها من قضية الصحراء. بينما حقيقة انتقال مدريد من التحريض، داخل هياكل الاتحاد الأوروبي ضد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نحو التأييد الصريح للمقترح المغربي تفاهمات أخرى غير ذلك تماما.

لعل أولى التوافقات، ما جاء على لسان بيدرو سانشيز؛ رئيس الوزراء الإسباني، في الندوة الصحفية التي عقدها بالرباط، بعد الاستقبال الملكي، حين صرّح بأن "لا مجال للشك في السيادة الوطنية للتراب الوطني الإسباني، بما في ذلك سبتة ومليلية". ومثل الصمت المطبق لوسائل الإعلام المغربي عن زيارة رئيس الحكومة لثغري سبتة ومليلية المحتلين، مؤشرا على أن دخوله في معادلة المصالحة، لا سيما بعد استخدام الرباط ورقة الثغرين أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، لدرجة تحول معها إلى أزمة دبلوماسية عند حديث رئيس الحكومة المغربي سعد الدين العثماني السابق في مقابلة صحفية عن "إمكانية فتح الملف في يوم ما".

كانت الرباط عازمة على التصعيد ضد مدريد بكل الأوراق الممكنة (مسألة الهجرة، التعاون الأمني، إغلاق المعابر...)، فالصحف الاسبانية تحدث عن إمكانية استخدام الرباط لورقة الانفصاليين في إقليم كتالونيا، بعد إعلان فيكتوريا ألسينا؛ وزيرة العمل الخارجي في الحكومة الكتلانية، انتظار رد السلطات المغربية عن قبولها نقل مقر تمثيلية حكومتها في شمال افريقيا إلى المغرب بدلا من تونس.

بعيدا عن ثمن المصالحة بين الرباط ومدريد ثمة سؤال جوهري لا حديث عنه، في غمرة الانتشاء ب "النصر الدبلوماسي"، يتعلق بضمانات الالتزام بهذا الموقف. بمعنى آخر؛ هل هذا الاعتراف موقف الدولة الاسبانية أم موقف الحزب الحاكم فقط؟ فالبرلمان الإسباني وبالتزامن مع زيارة وجود سانشيز في الرباط ندد بتخلي الحكومة عن موقفها التاريخي المحايد حول نزاع الصحراء. كما ذهبت الأحزاب الإسبانية، بما فيها المشاركة في الائتلاف الحكومي (حزب بوديموس)، إلى معارضة موقف الحكومة حيال مشروع الحكم الذاتي، وهددت بإنهاء الإجماع حول السياسة الخارجية.

 

محمد طيفوري

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

 

 

المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة 

المغرب العربي: تجاوز الحدود المصطنعة في زمن ضعف التضامن العربي

الاتحاد الأوروبي والمغرب وأسطورة الاستقرار

دعابات وضجيج ومشاكسات...الشعبوية تزحف على المشهد السياسي المغربي

القصر الملكي...ضابط الإيقاع الحكومي المغربي