مناظرات رئاسية تونسية غير مسبوقة في العالم العربي- "تنظيم مقبول وخواء في المحتوى"

رغم جمود وبرودة ورتابة اتسمت بها المناظرات التلفزيونية التونسية بين مرشحي الرئاسة، ورغم صدمة تلقاها الناخب التونسي نتيجة هزال عدد منهم وخوائهم وجهلهم بصلاحيات الرئيس وحدود السلطة الرئاسية، يحق للتونسيين الافتخار بتنظيم مبادرة المناظرات غير المسبوقة. تحليل إسماعيل دبارة -من مركز تونس لحرية الصحافة- لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: إسماعيل دبارة

رغم الجمود والرتابة والبرودة التي ميّزت المناظرات التلفزيونية في تونس بين مرشحي الرئاسة، ورغم الصدمة التي تلقاها الناخب نتيجة هزال وخواء عدد منهم، وجهلهم بصلاحيات الرئيس وحدود سلطته، يحق للتونسيين الافتخار بتنظيم مبادرة غير مسبوقة في تاريخهم، قد يكون التدرّب عليها دوريًا فرصة نحو تكريس الديمقراطية والتعددية وتساوي الفرص بين السياسيين.

عاشت تونس أيام 7 و8 و9 سبتمبر / أيلول 2019 على وقع مناظرات تلفزية نظمت للمترشحين للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. ويتنافس 26 مرشحا للفوز بالرئاسة في الدورة الأولى التي تجري يوم الأحد 15 سبتمبر / أيلول 2019، في حين تجري الانتخابات البرلمانية التي تُفرِز رئيس الوزراء ورئيس البرلمان في السادس من أكتوبر / تشرين الأول 2019.

وفي حين لم يحضر كافة المترشحين المناظرات بعد سجن المرشح نبيل القروي، إثر اتهامه بتبييض الأموال، وفرار المرشح سليم الرياحي إلى الخارج خوفا من ذات المصير، فإنّ الانطباعات العامة في تونس تشير في مجملها إلى الإقرار بحسن تنظيم المناظرات وجعلها "حدثا دوليا وازنا" مقابل تهافت غالبية المرشحين وارتباكهم وافتضاح تواضع حضورهم الذهني خلال النقاش، وبدا أن مسؤولين كبارا في الدولة يتقاسمون مع مرشحين مغمورين استسهلوا الترشح للمنصب، الجهل بصلاحيات الرئيس التي لم تعد مطلقة كما في السابق.

تمّ توزيع المرشّحين للتناظر خلال ثلاث أمسيات، ثمانية السبت وتسعة الأحد وثمانية الإثنين، وذلك لمدة ساعتين ونصف ساعة لكلّ مناظرة تحت عنوان "الطريق إلى قرطاج.. تونس تختار"، وبُثّت المناظرات على 11 قناة تلفزيونية بما في ذلك قناتان عامتان وعشرون إذاعة. وتابع ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين مشاهد المناظرات التلفزيونية، بحسب أرقام غير رسمية.

 

 

حدث وازن

منذ الثورة على نظام بن علي في العام 2011، تحاول الطبقة السياسية تحويل "النموذج التونسي المتفرّد" إلى "رأسمال" قابل لإنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي وجلب الدعم الدولي والمساندة للوقوف مع تونس حتى تنهض من كبوتها، وذلك باللعب على فرادة الثورة التونسية وفصلها عن سياقها العربي المُتسم بالعنف والحروب الأهلية وسطوة العسكر.

واستثمرت تونس في علاقاتها الخارجية والاقتصادية والأمنية منذ الثورة، معطيات من قبيل، سلمية الثورة التونسية وطرافتها، وتعايش علمانييها مع إسلامييها، وعفوها عن رموز النظام السابق، بعد أن اختارت كل الأطراف مبدأ "التوافق" و"الحوار" والمشاركة في الحكم. ويبدو أن المناظرات الضخمة التي عاشت على وقعها البلاد مؤخرا، تندرج في ذات الإطار التسويقي الدعائي لفرادة التجربة التونسية، أملا في مزيد من رسائل المساندة والاستحسان.

إذ خصصت وسائل الإعلام المحلية حيزا هاما لهذا الحدث، وتمكنت من جعل كبرى محطات التلفزيون العربية والغربية وكبرى وكالات الأنباء تهتم بالمناظرات، وتنشر عنها تقارير متتابعة. ونظرا لضخامة عدد المترشحين المشاركين في المناظرات، ولعدم تعوّد التونسيين على سلوك ديمقراطي مماثل، حصل شبه اتفاق على أنّ المناظرات في تونس "سابقة عربية" تستحق الوقوف عندها طويلا ورصد نتائجها وتداعياتها، والتأصيل لها وضمان تكرارها حتى يتعوّد التونسيون على الديمقراطية، ومن الواضح أن تونس خطت بهذه التجربة الهامة -نظريا- شوطا هامّا في طريق الديمقراطية وباتت تتقدّم ببطء ولكن بثبات قياسا بمحيطها العربي.

تنظيم محكم ... ولكن

بحسب التقييمات الأولية الصادرة بعد سويعات قليلة من إجراء المناظرات الرئاسية، بدا واضحا أن بعض العيوب تم تسجيلها رغم الإمكانات الهائلة البشرية والمادية واللوجستية التي أتيحت للجهات المنظمة، وهي التلفزيون الرسمي، بالاشتراك مع القطاع الخاصّ السمعي البصري، ومبادرة "مناظرة" وتحت إشراف الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات والهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري.

ويرى مختصون أنه كان بالإمكان تنظيم المناظرات على 5 أو 6 حصص، خصوصا وأنّ الوقت المتبقي قبل يوم الاقتراع، يسمح بذلك، على أن يكون عدد المترشحين في الحصة الواحدة لا يتجاوز 4 أو 5 مترشحين، وذلك للتخفيف على المشاهد ولتمكينه من المقارنة بينهم بتأنٍ وروية.

 

 

 كما عاب كثيرون على الجهات المنظمة للمناظرات، منح حظوة خاصّة للمرشحين الممثّلين لأكبر عدد من النواب، إذ لا يكرّس هذا السلوك الشفافية والمساواة أمام المترشحين كونه يعتمد مقياسا "غير مهني وغير سياسي"، إذ كان من المفروض أن يتم التعامل مع المُترشحين لرئاسة الجمهورية بشكل أكثر عدلا.

وربما كانت طريقة طرح الأسئلة هي أيضا محل انتقاد من طرف كثيرين، فتقديم أسئلة مختلفة لكل مُرشّح لا يسمح بالمقارنة بينهم، فقد كان من الأجدى بحسب الخبراء، البحث عن طريقة تُمكّن المشاهد من مقارنة أجوبة المترشحين عن نفس السؤال أو نفس القضية، لتحديد من هو الأجدر والأكثر إلماما.

كما خلت المناظرات الثلاث تقريبا من ما يعرف بـ"أسئلة المتابعة"، ومن ملاحقة المرشح في جوابه واستفزازه، كما خلت كذلك من استمالة تعليقات المرشحين الآخرين ودفعهم للردّ، وغاب الارتجال الفكري تماما بينهم، إذ وجد أغلب المرشحين أنفسهم يميلون نحو استذكار فقرات معينة من برامجهم الانتخابية دون اجتهاد ذهني يقدم صورة عن نباهة هذا المترشح أو ذاك.

رتابة وبرود

يتفق المتابعون على أن المناظرات "لم تكن حيوية وساخنة"، إذ كان البرود وغياب التفاعل بين المرشحين سائدا، ووصف كثيرون ما جرى بكونه "اختبار شفاهي" أكثر من كونه مناظرة بين مترشحين، إذ غلبت النصّية المفرطة في طرح الأسئلة على حساب المقارعة الفكرية والخروج من المواقف المعدّة سلفا في ذهن المترشحين.

شملت الأسئلة مجالات تتعلّق بحقوق الإنسان والأمن والاقتصاد والعلاقات الخارجيّة، إضافة إلى تعهّدات المرشحين للأيّام المئة الأولى من الحكم، وكانت الإجابات في معظمها خاوية، وبعيدة عن جوهر السؤال، وبدا هذا واضحا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي سلطت ضغطا هائلا على المترشحين، إذ استهجن كثيرون بعض الإجابات التي بدت خارجة عن سياق الأسئلة، إضافة إلى غياب سرعة البديهة لدى بعض المترشحين وتردّدهم في الإجابة في أحيان كثيرة.

 

 

وبدا واضحا أنّ غالبية الإجابات لم تلامس حقيقة مهام رئيس الجمهورية، وكشفت عن جهل فظيع بصلاحيات الرئيس التي يضبطها الدستور، فتحولت بعض الحصص إلى استعراضات وكلام إنشائيّ، ووعود لا تمت بصلة إلى مهام رئيس الجمهورية، وتسابق الحضور لتقديم أنفسهم كأبطال منقذين سيخرجون تونس من أزماتها وعلى رأسها الفقر والبطالة والدين العام، وسيطورون التعليم والصحة والاقتصاد والجيش، وسيكافحون آفة الإرهاب، وسيخلصون البلاد من التبعية الاقتصادية والسياسية!

افتضاح المترشحين

عندما فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، اقترب عدد المترشحين من المائة، في بلد لا يعطي لرئيس الجمهورية صلاحيات تذكر، وفيما بعدُ، أسقطت هيئة الانتخابات العشرات من الملفات وقدمت قائمة نهائية من 26 مترشحا، وهو رقم ضخم قياسا بعدد السكان وصلاحيات الرئيس، ما ولّد حالة من الاستهجان بسبب كثرة الطامحين المغمورين في هذا المنصب.

ويرى جزء كبير من المشاهدين أنّ المناظرات كانت فرصة لعقاب من استسهل الوصول الى الرئاسة دون امتلاكه لمؤهلات تذكر، فالطريقة التي بدا عليها بعض المرشحين خلال المناظرات كانت مخجلة وصادمة. إذ مثل هؤلاء أمام الشعب بشكل مباشر، وظهر كثير منهم متلعثما مرتبكا غير قادر على الإجابة على الأسئلة، فيتنكر لها ويتجاهلها ويطرق موضوعا آخر لا علاقة له بالمادة التي سُئل عنها، ولم يقتصر الأمر على "الوافدين الجدد" على عالم السياسة، بل شمل أيضا مترشحين سبق وأن تولوا مناصب عليا في الدولة على غرار المنصف المرزوقي الرئيس السابق، ووزير الدفاع الحالي عبد الكريم الزبيدي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزراء سابقين كُثر، تحولوا جميعا إلى مواضيع للتندّر عبر شبكات التواصل التي لم ترحم أيا من المترشحين، والتقطت سقطاتهم وهفواتهم.

لكن، ورغم موجات السخرية العارمة التي لم تستثنِ أي مرشّح، يبدو أنّ المناظرات التلفزيونية في تونس تمكنت من تقديم صورة مغايرة عن الحياة السياسية وعن النقاش الممكن داخلها. إذ تمكنت المناظرات رغم رتابتها وضعف أداء المرشحين، من جعل الصورة الكلاسيكية للحوارات السياسية تهتز قليلا، إذ ينتقل المشهد من الصراخ والخصام والسباب الذي يميز عادة الحصص التلفزية السياسية المباشرة، وكذلك النقاش داخل البرلمان الذي يتميز بالحدة وتدني مستوى الخطاب والسلوك، إلى حوار هادئ رصين بين سياسيين مختلفين حدّ التناقض، بما سمح للمشاهدين (الناخبين) بتكوين صورة مختلفة للغاية عن السياسية والسياسيين في البلاد، وهي صورة لم يتسنّ لهم معرفتها سابقا.

 

 

تأثيرها غير واضح

ربما من السابق لأوانه إبراز مدى تأثير المناظرات التلفزيونية في تونس على هوى ومُيولات الناخبين، كونها تجربة جديدة تحتاج وقتا "لهضمها" وتقييم تداعياتها، لكن آراء المهتمّين والمُختصين تختلف كثيرا حيال هذا المعطى.

إذ يرى كثيرون أنّ عودة الاستقطاب الهوياتي مع كل انتخابات تجرى في تونس (الرئاسية، التشريعية، البلديات) تجعل من العسير مثلا على ناخب مصطفّ وفق ثنائية "إسلامي / حداثي" أن يغيّر مرشحه بمجرّد مشاهدة مناظرات لم تمسّ جوهر اهتماماته. إذ أنّ صلاحيات الرئيس محدودة للغاية وتقتصر على الدبلوماسية والدفاع، في حين ينتظر التونسي حلولا تتعلق بالاقتصاد والمعيشة وفرص العمل، وغيرها من القضايا الحارقة التي لا تدخل في صلب صلاحيات الرئيس الذي حرمه دستور تونس الجديد من سلطته الضاربة.

في الديمقراطيات العريقة، للمناظرات التلفزية تأثير كبير، خاصة في أوساط المترددين الذين لم يحددوا اختياراتهم بعدُ، ورغم أنهم يمثلون نسبة ضئيلة، إلا أن أصواتهم قد تحدث خرقا واضحا في النتيجة النهائية.

 

يتنافس 26 مرشحا للفوز برئاسة تونس في الدورة الأولى للانتخابات التي تُجرى يوم الأحد 15 سبتمبر / أيلول 2019.
فعاليات ديمقراطية تونسية: عاشت تونس أيام 7 و8 و9 سبتمبر / أيلول 2019 على وقع مناظرات تلفزية نظمت للمترشحين للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. ويتنافس 26 مرشحا للفوز بالرئاسة في الدورة الأولى التي تجري يوم الأحد 15 سبتمبر / أيلول 2019، في حين تجري الانتخابات البرلمانية التي تُفرِز رئيس الوزراء ورئيس البرلمان في السادس من أكتوبر / تشرين الأول 2019.

 

أما في بلد مثل تونس، يعيش انتقالا ديمقراطيا، فثقافة المناظرات مازالت حديثة، ولم يستقر لها شأن بعدُ، لكنها قد تكون شكلا من أشكال التدرب على الديمقراطية والمحاججة وعلنية البرامج، وأيضًا شكلا من أشكال الشفافية والضغط على المترشحين كي يكونوا منسجمين مع برامجهم في علاقتهم بالناخبين، ما يفسح المجال واسعا أمام محاسبتهم لاحقا.

وعلى النقيض مما سبق، قد تدخل المناظرات التلفزيونية ارتباكا لدى شريحة من الناخبين كانت إلى وقت قريب تثق في مرشحها، لكن المناظرة ساهمت في اهتزاز صورته، كما حصل مع المرشح البارز عبد الكريم الزبيدي وهو وزير للدفاع حاليا. إذ أن ارتباكه وتلعثمه وغياب الصفاء الذهني خلال ردوده وتجاهله للأسئلة، دفعت بكثير من منصاريه إلى إبداء الامتعاض والاستياء، كذا الأمر مع المترشح اليساري حمة الهمامي الذي بدا على غير عادته غائب التركيز وغير مقنع باعتراف أنصاره. 

ضِف إلى ذلك بعض التجاوزات التي حدثت خلال المناظرات، كاستعانة مترشح بوثائق، واستعانة آخر بهاتف جوال، وهي سلوكات يمنعها قانون المناظرة وسبق للمترشحين أن التزموا بها. ما دفع بكثيرين إلى التساؤل: "كيف سينضبط رئيس مفترض لقوانين البلاد في حين أنه لم ينضبط لقوانين والتزامات المناظرة التي وقع عليها بنفسه؟".

لقد كشفت هذه المناظرات تمسّك التونسيين بالنظرة الكلاسيكية لرئيس الجمهورية صاحب الصلاحيات الواسعة والقويّ والآمر الناهي في شؤون البلاد، وهي نظرة تتعارض مع حجم الرئيس وصلاحياته في الدستور الجديد، لكن المناظرات أزالت أيضا لدى التونسيين أوهاما نسجوها حيال طبقة سياسية عادةً ما تخاطبهم من وراء حجاب أو بمقاطع فيديو منمّقة وكلام يحفظ عن ظهر قلب، ثبت خواءه وهزاله مع أول احتكاك مباشر وعفوي مع الناس.

 

 

إسماعيل دبارة

حقوق النشر: إسماعيل دبارة / موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de

إسماعيل دبارة صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة