تاريخ التديّن السعودي... هل عرفت السعودية الإسلام الوسطي المعتدل؟

تعهد رجل السعودية القوي، ولي العهد محمد بن سلمان، بقيادة مملكة معتدلة ومتحررة من الأفكار المتشددة. تصريحات جريئة تتماشى مع تطلعات مجتمع سعودي شاب.
تعهد رجل السعودية القوي، ولي العهد محمد بن سلمان، بقيادة مملكة معتدلة ومتحررة من الأفكار المتشددة. تصريحات جريئة تتماشى مع تطلعات مجتمع سعودي شاب.

محمد بن سعود تحالف مع الوهابية، وعبد العزيز آل سعود دعم السلفيين. لكن أمثلة عدة تشير إلى أن السعودية لا تتردد في مواجهة التيار الإسلامي حين يظن أن الكلمة العليا له.

الكاتبة ، الكاتب: إيهاب عمر

حين أراد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الترويج للخطوات التي يقف وراءها مؤخراً، ويعتبر أن هدفها مكافحة الأفكار المتشددة، اختار أن يقول: "نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه قبل عام 1979، إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب".

كلام بن سلمان تلقفته بعض وسائل الإعلام مصادقةً عليه، فرفعت من الأرشيف صوراً لما قدّمته على أنه حال السعودية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهي صور تظهر شابات سافرات في حافلة وزوجين على شاطئ البحر وشابات يسبحن بلباس البحر...

وأضاف ولي العهد، على هامش مشاركته في مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار"، أن "السعودية لم تكن كذلك قبل 1979، وكذلك المنطقة كلها... انتشر موضوع الصحوة بعد عام 1979، لأسباب كبيرة لا مجال لذكرها اليوم في حلقة النقاش".

وعام 1979 هو عام مرجعي في المنطقة وفي السعودية، فهو عام انتصار الثورة الإيرانية ووصول روح الله الخميني إلى الحكم، وهو أيضاً عام حادث الحرم المكي في 20 نوفمبر 1979.

وإذا كان صحيحاً أن مدّ التديّن المتزمّت المفروض بالقوة قد اتسع في السعودية منذ نهاية السبعينيات، لكن في الواقع كان متجذراً فيها منذ عقود طويلة، مع فرق أن قاعدته الجغرافية، هو الذي انطلق أساساً من نجد، قد اتسعت.

التحالف مع الوهابية

عام 1446، نجح مانع بن ربيعة المريدي في تأسيس مشيخة صغرى تقع في وادي حنيفة، بالقرب من الرياض، تحت اسم مشيخة-إمارة الدرعية، فكانت نواة الدول السعودية الثلاث.

وفي أربعينيات القرن الثامن عشر، استطاع حاكم الدرعية الشيخ محمد بن سعود آل مقرن أن يثبّت حكمه أمام توسع نفوذ بني خالد، حكام الإحساء. وفي تلك الأثناء، كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد بدأ في دعوته الدينية السلفية، فاستقبله بن سعود في الدرعية عام 1744.

الفيلم الوثائقي: حصار مكة

عقد الرجلان تحالفاً لا يزال ساري المفعول حتى اليوم، بين مؤسس الحركة الإصلاحية الدينية التي تسمى مجازاً الحركة الوهابية، والمؤسس الفعلى للدولة السعودية الأولى، على أن يقترن مشروع بن سعود التوسعي في الجزيرة العربية والشام والعراق بنشر الفكر الوهابي السلفي.

هذا يعني أن نشأة السعودية الأولى عام 1744 اقترنت منذ اللحظة الأولى بالفكر السلفي، بعيداً عن المدارس الدينية التي يصنّفها البعض اليوم مدارس للإسلام المعتدل. حصل ذلك قبل 235 عاماً من حوادث عام 1979، وقبل 273 عاماً من يومنا هذا.

في دراسة لمعهد بروكينغز عن استمرار النفوذ الوهابي داخل المملكة حتى اليوم، نقرأ: "في حين تولى السعوديون القيادة السياسية والعسكرية، تولى محمد بن عبد الوهاب وذريته القيادة الدينية والشرعية. وكان محمد بن عبد الوهاب وتلامذته ينشرون نسخة متزمتة وطائفية عن الإسلام تحثّ على العودة إلى أصولية حرفية وإلى عدم التسامح تجاه أي انحرافٍ عن آرائهم المتشددة لما يعتقدون أنه الدين الأصلي الذي دعا إليه النبي محمد".

اتسعت السعودية التي انطلقت من الدرعية عبر الغزوات، وكانت الوهابية تنتشر معها مغيّرةً عادات وتقاليد مناطق كثيرة. أما الدولة السعودية الثالثة التي تستمر اليوم، فاعتمدت بشكل أساسي على نشر الوهابية عبر إرسال رجال الدين وتأسيس ودعم حركات دينية تتبنّى الفكر الوهابي أو فكراً قريباً منه، وهو ما تتطرّق إليه دراسة للباحث السعودي عمر البشير الترابي بعنوان "الإسلام السياسي في الخليج... خطاب الأزمات والثورات".

"الإخوان المسلمون والسعودية... الهجرة والعلاقة"

فمنذ بداية القرن العشرين، حينما بدأ عبد العزيز آل سعود في تأسيس السعودية الثالثة، سارع إلى دعم وتمويل أقطاب الحركة الإسلامية في مصر حتى يحظى بتأييد أسماء لها ثقلها لدى الشعوب وقتذاك.

ويشير الباحث السعودي عبد الله بن بجاد العتيبي في دراسة بعنوان "الإخوان المسلمون والسعودية... الهجرة والعلاقة" إلى أن الشيخ محمد رشيد رضا، تلميذ الإمام محمد عبده، كان مهاجماً للوهابية في بادئ الأمر، ثم سعى عبد العزيز إلى استمالته وأنصاره، وبدأت الاتصالات بين الطرفين.

واستخدم الوهابيون الأسلوب الذي لطالما اعتمدوه، منذ فجر تاريخهم حتى اليوم، وهو أسلوب طباعة أعمال معارضيهم أو تمويل أبحاثهم العملية أو الأدبية من أجل استقطابهم، وهو ما لاقى نجاحاً ساحقاً على مدار عمر الدولة السعودية الثالثة بحسب الباحث السعودي.

هكذا، فجأة، انقلب الحال وانطلقت مقالات رضا في المنار والأهرام تدافع عن الوهابية والسعودية، ثم دارت مطابع المنار بكتابه "الوهابيون والحجاز".

وحصل الأمر نفسه مع الشيخ محمد ماضي أبو العزائم، أحد كبار مشايخ الطرق الصوفية، إذ كان عبد العزيز يتواصل مع جميع رجال الدين الإسلامي، حتى غير السلفيين، رغبة منه في كسب أصواتهم وهو يخوض حروبه مع معارضيه داخل نجد، شرق الجزيرة العربية.

وعشية تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، كانت الاتصالات جارية بين عبد العزيز والشيخ حسن البنا، عبر محمد رشيد رضا ومستشار الملك حافظ وهبة، وهي لقاءات ذكرها البنا في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية".

وأشار القيادي الإخواني عبده الدسوقي في كتابه "في رحاب الحج... الإمام البنا وبعثات الحج للإخوان المسلمين"، إلى أن الدولة السعودية كانت توفّر سيارات آمنة للبنا حين يزور السعودية، في تقليد لا يحدث إلا مع قادة وزعماء الدول.

وذكر مؤرخ الإخوان عباس السيسي في كتابه "حكايات عن الإخوان" أن تنظيم الإخوان استقبل عبد العزيز بعرض عسكري ضخم في القاهرة ثم الإسكندرية عام 1945.

تروي القيادية الإخوانية زينب الغزالي في كتابها "أيام من حياتي" أن الجماعة حين كانت تناقش مشروع الدولة الإسلامية، درست وضع العالم الإسلامي كله بحثاً عن أمثلة عمّا كان قائماً في حقبة الخلافة الراشدة والتي تسعى الجماعة إلى استعادتها، فخلصت، "بعد دراسة واسعة للواقع القائم المؤلم، إلى أن ليس هناك دولة واحدة ينطبق عليها ذلك، واستثنينا المملكة العربية السعودية مع تحفظات وملاحظات يجب أن تستدركها المملكة وتصححها".

ويكشف الباحث الأميركي روبرت دريفوس في كتابه "لعبة الشيطان: دور الولايات المتحدة الأمريكية في نشأة التطرف الإسلامي" كيف أن السعودية كانت مهندس صعود الإسلام السياسي في المنطقة لخدمة الأجندة الأمريكية المناوئة للاتحاد السوفياتي في أفغانستان والشيشان والصومال.

فتنظيم الأفغان العرب الذي ولّد جميع حركات الإرهاب الإسلامية، منذ أواخر السبعينيات حتى اليوم، وعلى رأسها القاعدة وداعش وطالبان، صنع بتمويل سعودي، ومشاركة سعودية في التسليح والتوجيه بل والإدارة في بعض الأحيان، بحسب الكتاب.

وللمفارقة، فإن عام 1979 شهد بداية الحرب الأفغانية السوفياتية التي تمثل ذروة دعم السعودية للإسلام المتشدد.

[embed:render:embedded:node:29335]

تحديات التوجه إلى الإسلام المعتدل

وتفجّر على ضوء تصريحات بن سلمان جدل من نوع آخر، حول ردّ فعل الحركة الإسلامية السعودية على تصريحات بن سلمان، وطُرحت تساؤلات حول احتمال أن تكون السعودية على موعد مع اضطرابات سياسية ودينية كما جرى أعوام 1927 و1968 و1979؟

وقصة انتفاضة عام 1927 تعود جذورها إلى مطلع القرن العشرين، حين ظهر رجل الدين الشيخ عبد الكريم المغربي واستوطن واحة الأرطاوية الواقعة بين نجد والإحساء، وجمع العشائر من حوله ودرّب الشباب بشكل متطور على الحياة العسكرية.

وفي عام 1916، زار السلطان عبد العزيز الواحة، وأعلن انضمامه وانضمام القبائل الواقعة تحت حكمه إلى هذه الحركة التي عُرفت باسم الإخوان، ولا علاقة لها بجماعة الإخوان المسلمين البتة. وتشكّلٓ جيش موحد باسم جيش الإخوان من أجل محاربة عملاء بريطانيا في الجزيرة العربية، أي خصوم آل سعود.

ولكن بعد فترة، اعترض تنظيم الإخوان على سياسات عبد العزيز عقب ضمه للحجاز، وفي 28 أكتوبر 1927، بدأ بالعمل العسكري ضد عبد العزيز والكويت والعراق حيث الانتداب البريطاني.

ويروي خير الدين الزركلي في كتابه "شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز" أن عبد العزيز طلب الدعم العسكري البريطاني، وبالفعل قصفت طائرات بريطانية معسكرات الإخوان في نجد والكويت والعراق ولعبت السلطات البريطانية في الكويت دوراً حاسماً في تسليم السعودية قادة التمرد الذي انتهى مطلع عام 1930.

أما تحدي عام 1965، فبدأ مع اندلاع تظاهرات بقيادة خالد بن مساعد آل سعود وحدوث اضطرابات على ضوء بعض الإصلاحات التي قام بها الملك فيصل، وانتهت بمقتل خالد في 8 سبتمبر 1965، وكان من عواقبها أن فيصل، شقيق خالد، أقدم على اغتيال الملك فيصل في يونيو 1975.

ووقعت الأزمة الثالثة في 20 نوفمبر 1979، حينما سيطرت مجموعة من المتطرفين على الحرم المكي بقيادة جهيمان العتيبي، واعتصمت في الكعبة قرابة الأسبوعين قبل التدخل الأمني في 4 ديسمبر.

ويتضح من هذه التفاصيل الدامية أن السعودية لا تتردد في مقارعة التيار الإسلامي حين يظن أنه يحكم، أو أن الكلمة العليا له داخل السعودية.

وسبق أن تصادم آل سعود مع رجال الدين الرافضين لوجود القوات الأمريكية على الأراضي السعودية، خلال حرب الخليج الثانية، وانتصرت رؤية آل سعود وقُمعت أصوات المشايخ الرافضين للقوات الأجنبية.

وخلال الأزمة الجارية مع قطر حالياً، أوقفت السلطات عدداً من أهم مشايخ المملكة الرافضين لنهج الرياض في التعامل مع الدوحة، لتثبت السعودية في جولة جديدة أن هنالك خطوطاً حمراء للتيار الديني داخل البلاد، وأن العلاقة ليست على قدم المساواة بين الطرفين كما يظن البعض.

إصلاحات حقيقية أم كسب للرأي العام؟

ولا يمكن أن نغفل السؤال الذي يدور في الإعلام اليوم: هل الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد عازمان بالفعل على الذهاب باتجاه إصلاحات جذرية في المجتمع السعودي أم أن هذا التحرك غير جاد ويهدف إلى تسويق الأمير الشاب محلياً ودولياً لمباركة أول انتقال للسلطة من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد، ولينجح سلمان في توريث الحكم لنجله بدلاً من إخوته؟

 

إيهاب عمر

حقوق النشر: رصيف 2017

كاتب وصحفي مصري متخصص في الشئون التاريخية والسياسية، أصدر عدداً من الكتب منها: الإمبراطورية الروسية، الثورة المصرية الكبرى، ربيع القومية العربية، سنوات أوباما.