ثقافة التعايش بدلا من ثقافة الريادة في ألمانيا

صاغ وزير الداخلية الألماني توماس دي ميزيير عشر نقاط اعتبرها "الثقافة الألمانية الرائدة" التي على المهاجرين في ألمانيا اتباعها. الصحفي الألماني هيربرت برانتل يرى في تعليقه التالي أن هذا عمل شديد الحماقة لأن هذه النقاط خليط غير متجانس من التفاهات والضروريات الملونة بألوان العلم الألماني: الأسود والأحمر والذهبي، ومصطلح "الثقافة الرائدة" لا يسهم في الاندماج بل يثير الانقسام ويدل على الاستعلاء ويبهج أقصى اليمين.

الكاتبة ، الكاتب: Heribert Prantl

يتعيَّن علينا ألَّا ننتقد وزير الداخلية على تقديره التعليم العام وتقديسه مبدأ الكفاءة. كذلك لا يمكن الاعتراض كثيرًا على إشادته بحلف الناتو؛ فهذا جزء من البرنامج الأساسي لحزبه.

وعندما يقول الوزير توماس دي ميزيير إنَّه يُفضِّل أن يتصافح الناس بأيديهم عند أدائهم التحية ومن ثم يذكرون أسماءهم، فهذا أمر لا يستحق لومة لائم. كلّ شخص لديه ميوله السياسية والشخصية، التي تصل -مثلما هي الحال مع  توماس دي ميزيير- إلى حدِّ منع اللثام أثناء المظاهرات.

ربَّما يستغرب المرء من كلِّ ما ينقص كتالوج أمنيات الوزير توماس دي ميزيير. ولكن الغريب حقًا أنَّه يلوِّن خليطًا من التفاهات والضروريات بألوان علم ألمانيا، الأسود والأحمر والذهبي ليعتبرها بالذات الثقافة الألمانية الرائدة. وهذا عمل أحمق للغاية، بحيث أنَّه يدفع المرء إلى اعتبار الوزير توماس دي ميزيير بمثابة ألبريش: ملك العفاريت والأقزام في الأساطير الجرمانية.

فرقعة مثيرة

 مصطلح الثقافة الرائدة تم إدخاله أوَّل مرة قبل سبعة عشرة عامًا إلى النقاش من قبل فريدريش ميرتس، رئيس الكتلة البرلمانية للحزب المسيحي الديمقراطي. وقد تعامل معه مثلما يتعامل الطفل الصغير مع كيس الخبز: عندما لا يعود في داخله أي شيء، ينفخ الطفل الكيس ثم  يضربه ويشعر بالسعادة عندما يُحدِث الكيس صوت فرقعة - ويُفزع الجميع بذلك قليلاً.

 في تلك الأيَّام شعرت الأوساط المحافظة بالسعادة، لأنَّها قد سمعت مرة أخرى فرقعةً مثيرةً من الحزب المسيحي الديمقراطي. وفي ذلك الوقت قامت أنغيلا ميركل بتشريف هذه الفرقعة المثيرة من خلال إقرارها وثم اعتبارها بمثابة موسيقى يسير على أنغامها الحزب المسيحي الديمقراطي، وذكرت أنه: يجب إدراج الثقافة الرائدة في البرامج الحزبية لأنَّ "الآخرين ينفعلون بشكل رائع للغاية من ذلك".

 وهكذا أدرج الحزب المسيحي الديمقراطي في برامجه هذه الثقافة الرائدة. ولكن كلما كان يريد أن يملأ هذا المصطلح بمضامين، كانت هذه محاولةً مُحرِجةً مثل المحاولة الحالية التي يقوم بها الوزير توماس دي ميزيير. وهذا لم يمنع الحزب المسيحي الديمقراطي من التعامل مع الثقافة الرائدة مثل تعامل الساحرة الشريرة مع مُخَلـَّل الملفوف: "لماذا تتحمَّس خاصةً عندما يَسخُن مرة أخرى".

البروفيسور هيربرت برانتل صحفي ورئيس تحرير قسم السياسة الداخلية في صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، وهو كذلك عضو في هيئة تحرير هذه الصحيفة. حصل على الدكتوراه في القانون وكان يعمل قبل عمله الصحفي قاضيًا ومدعيًا عامًا.
Prof. Heribert Prantl ist Journalist und Leiter des Innenressorts der "Süddeutschen Zeitung". Er gehört der Chefredaktion des Blattes an. Der promovierte Jurist war vor seiner journalistischen Karriere auch als Richter und Staatsanwalt tätig.

هذا يبدو الآن أقرب إلى المزاجية، غير أنَّه ليس كذلك. إذ إنَّ مصطلح الثقافة الرائدة لا يساهم في الاندماج، بل في الاستقطاب، وهو كلمة للصراع تثير الانقسام - كلمة تدلُّ على الغطرسة والاستعلاء؛ وهي كلمة تؤدِّي إلى ابتهاج وسرور أقصى اليمين.

ولذلك فليس صدفةً أنَّ توماس دي ميزيير قد وضع على رأس وصاياه الألمانية العشر عبارة "نحن لسنا بُرْقُعاً". وعلى الرغم من أنَّ أحدًا لا يكاد يُجادل في هذه العبارة، بيد أنَّها تفرض الرسالة الضمنية التي تفيد بما يلي: سلسلة من المقارنات ومن دلالات الإقصاء، التي ترتبط بكلمة التنبيه "الثقافة الرائدة".

ثقافة التعايش بدلاً من ثقافة  الريادة

 لا يجوز أن يتعلـَّق الأمر هنا في ألمانيا بالترويج إلى ثقافة رائدة، بل يجب أن يتعلـَّق بترسيخ ثقافة التعايش: التي تعني الديمقراطية وسيادة القانون والحقوق الأساسية. ولكن عندما يتم بدلاً عن ذلك تعليق الثقافة الرائدة مثل قبعة هِرمان غيسلَر (طاغية من أسرة هابسبورغ) على سارية عيد الأوَّل من أيَّار/مايو، التي يجب أن يسير المهاجرون من أمامها وقاماتهم منحنية، فإنَّ هذا يضر بالمجتمع. وعلى الرغم من أنَّ الغاية من هذه المحاولة إيجاد سياسة وقائية من حزب البديل من أجل ألمانيا "آ إف ديه" اليميني الشعبوي، غير أنَّها لا تُبرِّر الوسيلة.

 لقد حاول توماس دي ميزيير صرف الأنظار عن موضوعات ذلك اليوم -أي عيد العمال في الأوَّل من أيَّار/مايو- عن تحقيق استقرار العمل المأجور ورفع الأجور ودعم التقاعد القانوني.

 ولكن لا يوجد لدى وزير الأمن الداخلي، توماس دي ميزيير أي إحساس بمدى أهمية السياسة الاجتماعية بالنسبة للأمن الداخلي؛ ففي كتالوجه الخاص بالثقافة الرائدة لا ترد الجوانب الاجتماعية إلاَّ قليلاً جدًا، تحت عنوان "الأداء". والوزير دي ميزيير لديه صورة غريبة عن الجمهورية، طالما أنَّ اقتصاد السوق الاجتماعي ليس له بالنسبة إليه إلاَّ قيمة هامشية.

 فشل توماس دي ميزيير

وفي الواقع يجب أن يكون هذا الوزير قد تعرَّض لانزعاج من الثقافة الرائدة داخل دوائره الخاصة. فقد وضع لجنة تحقيق في المكتب الاتِّحادي للهجرة من أجل الكشف "بشكل شامل" عن كيفية تمكُّن ملازم يميني في الجيش الألماني، لا يتكلم اللغة العربية، من تقديم نفسه كلاجئ سوري والحصول على حقّ اللجوء. وهذا لا يتعلـَّق ببساطة بفشل بعض الموظَّفين، الذين تملـَّص منهم شابٌ ألمانيٌ باعتباره لاجئًا سوريًا، بل إنَّ هذا يتعلـَّق بفشل وزيرٍ أمر بتلك الإجراءات غير المناسبة، واعتقد أنَّ بإمكانه أن يستجوب ضمن الإجراءات البيروقراطية وبواسطة موظَّفين تم تعيينهم حديثًا ولم تكن لديهم قبل ذلك أية علاقة بشؤون اللجوء مئات الآلاف من المتقدِّمين بطلبات اللجوء.

 والنتيجة قراراتٌ مروِّعة. فقد كان من الممكن أن تسير الأمور بشكل مختلف: إذ كان بإمكان الوزير أن يستثني من إجراءات اللجوء اللاجئين، الذين يقدِّمون جوازات سفرهم، ويساعدهم مباشرة في الحصول على تصريح الإقامة. وكان من الممكن أن تتولى هذا العمل مكاتب سلطة إدارة شؤون الأجانب الفرعية، البالغ عددها أربعمائة وواحدًا، بدلاً من السلطة الاتِّحادية المُثقَلة بالأعباء.

 كان من الممكن أن يخدم ذلك الأمن. وكان من الممكن أيضًا أَلاَّ يرتكب المكتب الاتِّحادي لشؤون الهجرة أخطاءً فظيعة إلى هذا الحدِّ. توماس دي ميزيير استفزَّهم، لأنَّه لم يكن يمتلك الخيال من أجل الثقافة الرائدة الإنسانية والواقعية في وزارته.

 

هيربرت برانتل

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ/  موقع قنطرة 2017

ar.Qantara.de

 

البروفيسور هيربرت برانتل صحفي ورئيس تحرير قسم السياسة الداخلية في صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، وهو كذلك عضو في هيئة تحرير هذه الصحيفة. حصل على الدكتوراه في القانون وكان يعمل قبل عمله الصحفي قاضيًا ومدعيًا عامًا.