أوبرا ألمانية بين الحكم المطلق وأسطورة البطولة في الشرق والغرب

حاكم فارسي مستبد كرئيس كوريا الشمالية وفارس غائب حاضر كمهدي المسلمين المنتظر وشوفينية كالشعبوية الأوروبية. شبه بين ما هو قديم ومعاصر يراه عارف حجاج في اثنين من أشهر أعمال الأوبرا الألمانية.

الكاتبة ، الكاتب: عارف حجاج

عملان من أشهر أعمال الأوبرا الألمانية معروضان في مدينة بون في غرب ألمانيا، وهما: "زركسيس" الحاكم الفارسي الباطش من تأليف الموسيقي الشهير في عصر الباروك هيندل، وملحمة فاغنر الأسطورية "لونغرين" التي تتناول نمط المزج بين السحر الأسطوري والوقائع الحياتية اليومية. عملان فنيان ينقلان نماذج من حياة الدول والمجتمعات القديمة تتشابه إلى حد ما مع معطيات العصر الراهن.

*********************

أكثر ما يعشقه الجمهور الألماني من أنماط الأوبرا هو النمط الإيطالي الذي اشتهر به فيردي ومونتيفيردي وبوتشيني وروسيني، وغيرهم ممن أبدعوا في أعمال الدراما والكوميديا في القرن التاسع عشر على وجه خاص.

لكن هناك نمطا "ألمانيا" يعشقه الجمهور يتألف من الموسيقى "الخفيفة" القريبة من أغاني الطرب المنمق، وهو ما يعرف بالأوبيريت ومن الأوبرا التقليدية الأكثر ثقلا من حيث المحتوى والنهج الموسيقي. كان موتزارت أكبر من أبدع في هذا النمط فقد أنتج أعدادا كبيرة من الأعمال الموسيقية مثل "حلاق إشبيليه" و"دون جواني" (أي دون جوان بحسب التسمية العربية) و"الخطف من السراي" إلخ. 

قد يعترض البعض بأن موتزارت لم يكن ألمانيا بل نمساويا لكنه ترعرع في ظل مناخ مجتمعي وسياسي في مدينة سالسبورغ التي كانت بافارية أي ألمانية أحيانا ونمساوية أحيانا أخرى. وبغض النظر عن ذلك التعريف الجغرافي الضيق فقد عرفت أعمال هذا الموسيقي المشهور بكونها جزءا من التراث الموسيقي الألماني بصورة عامة. يدخل في هذا السياق بيتهوفين أيضا وإن اشتهرت ملحماته الموسيقية أكثر كثيرا من قطع الأوبرا التي أنتجها مثل أوبرا "فيديليو" التي جاءت تعبيرا عن خلود مفاهيم الحرية والإنسانية والمحبة.

بعض أعمال الأوبرا الألمانية غير التقليدية ظهرت في عصر الباروك الذي تصدره يوهان سبستيان باخ وإن انهمك أكثر في الأعمال الموسيقية البحتة كالكونشرتات والكانتات وملاحم اليوراتويوم  الكنسية. أما زميله غيورغ فريدريش هيندل (1685 - 1759) الذي أخصب في الإنتاج الموسيقي في البلاط الملكي الإنكليزي أكثر مما اشتهر بداية في ألمانيا فقد أعد مجموعة من الأوبراهات مثل "رينالدو" و"سيروس". 

ملحمة الأوبرا الألمانية "زركسيس" -الحاكم الفارسي الباطش من تأليف الموسيقي الشهير في عصر الباروك هيندل
مسرح ساخر من سطحية بل حتى تفاهة الحكم المبني على أسس هشة قوامها الحفاظ على السلطة: ملحمة الأوبرا الألمانية "زركسيس" -الحاكم الفارسي الباطش من تأليف الموسيقي الشهير في عصر الباروك هيندل- لم ترتكز على البنيان التسلطي للحكم بل سعت بأسلوب المسرح الساخر إلى تبيان سطحية بل حتى تفاهة، هذا الحكم المبني على أسس هشة قوامها الحفاظ على السلطة مهما كلف الثمن ذلك. من هنا تمتع الجمهور بهذه الأوبرا شبه الكوميدية التي أثارت لديه شعور المرح دون أن تهمل الجوهر المقدم مجازا وهو احتقار الحكم المبني على القمع والطغيان والسخر الحاد بأعمدته الأساسية، كما يكتب عارف حجاج.

عاش هيندل الفترة الباروكية الأخيرة وتميز بأعماله في فن اليوراتويوم . رأى خبراء الموسيقى بأن لغته الموسيقية شكلت خلاصة الأساليب الموسيقية في أوروبا (الإيطالية، الفرنسية، الألمانية والإنكليزية)، فلاقت أعماله نجاحا في كامل القارة بينما لم يلقَ في مسقط رأسه السكسوني والألماني ذات النجاح الذي أحرزه باخ.

حاكم فارسي مستبد شبيهة بحاكم كوريا الشمالية

عرضت دار الأوبرا في بون كوميديا "زركسيس" للموسيقي هيندل تيمنا بالحاكم الفارسي المطلق الذي سمي هكذا وفقا للتراث الإغريقي. وكان قد اتسم بالبطش وعشوائية التصرف والانزلاق الأخلاقي. فوق ذلك لم يكن قائدا عسكريا ناجحا في الأغلب فكثيرا ما خسر المعارك الحربية ضد اليونان، لكنه بسط نفوذه على مصر وغيرها من الدول لفترات تاريخية طويلة. 

في أوبرا هيندل وضع المخرج هذا الحاكم المستبد وغير العادل في إطار آخر يكاد أن يكون كوميديا وأظهر هذا الملك الفارسي كما لو كان كل اهتمامه مرتكزا على غريزته الجنسية وحبه للهيمنة الشخصية والانتقام لكل من جرأ على التصدى له فعلا أو كلاما. وقد عشق خطيبة أخيه وحاول بكل الطرق انتزاعها منه لكنه فشل بذلك رغم طغيانه وتهديداته وعاد أخيرا إلى خطيبته التي أصبحت بعد ذلك ملكة الإمبراطورية.

باب الاستخفاف بالطغاة سواء القدامي أو المعاصرين كان زركسيس يحمل في زيه دوما دمية "صواريخ نووية" يعتز بها رغم أنه لم يكن أهلا لذلك التفوق العلمي. والملاحظ أن المخرج حاول نقل زركسيس من العصور القديمة إلى عصر اليوم فجاءت صورته البشعة والهزيلة في آن واحد شبيهة بحاكم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي يعشق هو أيضا المجد والعظمة بأشكالهما الحربية والسلطوية وفيما يتعلق بسعيه لجعل دولته تضاهي الدول العظمى في السلطة والنفوذ وفي حيازة الأسلحة النووية المتطورة. 

ذكرنا سلفا بأن ملحمة هيندل لم ترتكز على البنيان التسلطي للحكم بل سعت بأسلوب المسرح الساخر إلى تبيان سطحية بل حتى تفاهة، هذا الحكم المبني على أسس هشة قوامها الحفاظ على السلطة مهما كلف الثمن ذلك. من هنا تمتع الجمهور بهذه الأوبرا شبه الكوميدية التي أثارت لديه شعور المرح دون أن تهمل الجوهر المقدم مجازا وهو احتقار الحكم المبني على القمع والطغيان والسخر الحاد بأعمدته الأساسية.

فارس غائب حاضر شبيه بالمهدي المنتظر 

ننتقل من الحكم المطلق في الشرق إلى نمط شبيه منه في الميثولوجيا الجرمانية، وإن أكسبه الموسيقي الشهير ريشارد فاغنر طابعا جماليا أسطوريا أدى إلى تهميش أشكال القمع والاستبداد المهيمنة عليه. أوبرا "لونغرين" كانت آخر الملاحم الرومانسية التي أنتجها فاغنر، وكانت من أشهر أعماله وإن تضاربت فيها حقائق التاريخ مع خيالية الأساطير. 

تعود أحداث هذه الأوبرا إلى عام 933 بعد المسيح، حيث كانت الفروق ما زالت قائمة بين الفكر الوثني المبني على السحر والأساطير وعبادة الآلهة وبين تأثير الديانة المسيحية على حياة المجتمع وأعمال الحكام. لونغرين الفارس الغائب الحاضر شبيه  بالمهدي المنتظر بحسب التراث الإسلامي بشقيه السني والشيعي. 

من الوجهة الأسطورية تروي الملحمة قصة "فرسان الكأس أو الإناء السحري المقدس"، ذلك الكأس الذي أكسب الملك وفرسانه المجهولين المقيمين في عالم سحري، بعيد عن ذروة السعادة وخلود الشباب وقد احتلت هذه الصورة أهمية أسطورية في ظل محيط عانى من تخلف الحاكم وبؤس العامة ومن تداعيات القحط وانهيار المعطيات الحياتية. لهذا عقد الأمل في استبدال الحاكم الفاشل بحاكم يملك القدرة على تحويل الأمور إلى عالم سحري مثالي أفضل.  وقد سمى فاغنر هذا الملك المرتقب بارسيفال وسمى ابنه لونغرين.

تروي الملحمة الدرامية قصة الفتاة اليتيمة إلزا، التي صمدت أمام إغراءات وصيها الهرم الكونت فريدريش فون تيلراموند فأراد الانتقام منها واتهمها زورا بقتل أخيها الطفل. فجاء لونغرين من عالمه الغامض لكي ينقذ الفتاة، وبالفعل انتصر على الكونت وجعله موضع الإهانة والسخرية، كما وقع في حبها وشاء أن يتزوجها شرط الا تسأله عن أصله واسمه وإلا أودى ذلك بها وبالعلاقة بينهما. 

أوبرا "لونغرين" الألمانية (ملحمة فاغنر الأسطورية "لونغرين" التي تتناول نمط المزج بين السحر الأسطوري والوقائع الحياتية اليومية)
فارس غائب حاضر شبيه بالمهدي المنتظر في التراث الإسلامي بشقيه السني والشيعي: أوبرا "لونغرين" الألمانية (ملحمة فاغنر الأسطورية "لونغرين" التي تتناول نمط المزج بين السحر الأسطوري والوقائع الحياتية اليومية) كانت آخر الملاحم الرومانسية التي أنتجها فاغنر، وكانت من أشهر أعماله وإن تضاربت فيها حقائق التاريخ مع خيالية الأساطير. تعود أحداث هذه الأوبرا إلى عام 933 بعد المسيح، حيث كانت الفروق ما زالت قائمة بين الفكر الوثني المبني على السحر والأساطير وعبادة الآلهة وبين تأثير الديانة المسيحية على حياة المجتمع وأعمال الحكام. لونغرين الفارس الغائب الحاضر شبيه بالمهدي المنتظر بحسب التراث الإسلامي بشقيه السني والشيعي. تروي الملحمة الدرامية قصة الفتاة اليتيمة إلزا، التي صمدت أمام إغراءات وصيها الهرم الكونت فريدريش فون تيلراموند فأراد الانتقام منها واتهمها زورا بقتل أخيها الطفل. فجاء لونغرين من عالمه الغامض لكي ينقذ الفتاة، وبالفعل انتصر على الكونت وجعله موضع الإهانة والسخرية، كما وقع في حبها وشاء أن يتزوجها شرط الا تسأله عن أصله واسمه وإلا أودى ذلك بها وبالعلاقة بينهما.

من ناحية أخرى سعى الكونت وزوجته الشريرة الساحرة إلى الانتقام من الفارس المجهول وحبيبته إلزا، التي بدأت الشكوك تساور نفسها مما دفعها بإلحاح شديد إلى توجيه السؤال إلى الفارس عن اسمه ومسقط رأسه. فأجبر على الفشي بهذا السر وتحتم عليه أن يعود إلى أبيه الملك في ذلك العالم المجهول تاركا إلزا في حالة يأس وإحباط شديدين أوديا بحياتها. 

الجدير بالذكر أن فاغنر لم يقم فقط بتلحين الملاحم الأوبراهية، بل كتب نصوصها في أغلب الحالات مستندا على وقائع تاريخية وروايات ميثولوجية مبنية على التراث الجرماني القديم.

تيارات شوفينية "قديمة" ومعاصرة

مخرج هذه الأوبرا ا هو الإيطالي ماركو أرتورو مريللي المشهور عالميا، وقد نجح في الربط الدرامي بين العهد الذي برع فيه فاغنر -أي عهد ظهور الحركات القومية الداعية إلى تحقيق وحدة الممالك والولايات الألمانية المجزئة- وبين الوقت الراهن الذي قويت فيه دعائم الحركات الشعبوية المتشددة قوميا كالحال لدى "الحزب البديل من أجل ألمانيا" وغيره من الأحزاب الشعبوية في إيطاليا والمجر وبولندا وهولندا. 

لكن المُخرج بالغَ في الربط بين فاغنر كفنان مسرحي وبين هذه التيارات الشوفينية المعاصرة، فأظهر جنودا يستقبلون بطل ملحمة لونغرين بزي القوات الألمانية في العهد النازي (فير مخت) رافعين أذرعتهم على نحو ما يسمى "تحية هتلر". ولا شك أن هذا يشكل تجنيا فكريا وفنيا على أعمال فاغنر الذي -وإن عرف بمعاداته للسامية- إلا أنه كان ينشد في المقام الأول، كما سبقت الإشارة، تكريس وحدة ألمانيا وشارك لهذا الغرض في "ثورة مارس/أذار 1848"، التي قضى عليها دعاة الحكم القديم مما أجبر فاغنر على الهجرة خارج الأراضي الألمانية. 

وقد رأى خصوم فاغنر بأنه أبدى في هذه الملحمة وغيرها من أعماله المسرحية نزعة شوفينية، بل حتى عنصرية من خلال تشهيره بشعوب أوروبا الشرقيين كالمجريين والسلافيين. لكن الواقع أن هذا التيار كان مهيمنا على القارة الأوروبية بكاملها ولم يقتصر على الألمان وحدهم. 

كما أن النزاهة تتطلب النظر إلى هذه المعضلة لا بالمنظور العصري، بل وفقا للمعطيات التاريخية السائدة حينذاك. كما أن التيار القومي كان في القرن التاسع عشر على عكس اليوم دليلا على روح التحرر والتقدم بل رمزا للحركة الثورية المناوئة للتيار الرجعي الذي تصدره المستشار النمساوي ميترنيخ وفرضه على القارة الأوروبية في مؤتمر فيينا عام 1815.

 

 

 

 

عارف حجاج

حقوق النشر: عارف حجاج / موقع قنطرة 2018

ar.Qantara.de