رئيس الجزائر يُجمّل حكمه الهش بخنق حرية التعبير

يبدو أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون اختار السلاح الأكثر شعبية في الجزائر -التي استعمرتها فرنسا لمدة قرن كامل- ألا وهو سلاح "العمالة والتخوين" من أجل حجب مواقع إلكترونية منخرطة في الحراك تغطي أخبار سجناء الرأي بصفة مستمرة، مستعينا بترسانة من الصحافة الموالية التي باتت عبئا على الانتقال الديمقراطي في هذا البلد. الصحافي إسماعيل دبارة -عضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة- يسلط الضوء لموقع قنطرة على حملة حجب مواقع وملاحقة إعلاميين تنذر بالكثير في الجزائر.

الكاتبة ، الكاتب: إسماعيل دبارة

تردّت أوضاع الصحافة وحرية التعبير في الجزائر بشكل لم يعد خافيا على الأعين، وفي الأمر مفارقة واضحة. ففي حين توقع المراقبون "طفرة إعلامية" وانفتاحا واسعا وازدهارا لحرية التعبير بعد الحراك الشعبي المنادي بالديمقراطية والحرية والشفافية، وانتهى بإطاحة الرئيس المُقعد عبد العزيز بوتفليقة وحاشيته، إلا أنّ الواقع يؤشّر على غير ذلك، خاصة مع الرقابة المفرطة التي يفرضها الرئيس الجديد عبد المجيد تبّون على وسائل الإعلام، وحجب عدد كبير من المواقع الالكترونية الإخبارية والساخرة، واعتقال ومحاكمة صحافيين ومدوّنين. فما هي أسباب هذه المفارقة؟

وعود... وانقلاب على الوعود

استبشر الصحافيون الجزائريون والنشطاء المدافعون عن حرية التعبير عبر العالم بأول خطاب للرئيس عبد المجيد تبون الذي انتخب خلفا لبوتفليقة في أواخر 2019.

وعد تبّون مواطنيه حينها بحرية الصحافة وقال: "أعد بحرية لا حدود لها لوسائل الإعلام شريطة التحلي بالمسؤولية والموضوعية"، وتعهّد أيضا بحلّ مشكلة الإشهار (الإعلان) العمومي وجعله آلية لحرية الصحافة والوسائل الإعلامية والصحافة الإلكترونية.

كما وعد بتحسين ظروف العمل الإعلامي والأوضاع الاجتماعية للإعلاميين وسدّ الفراغ القانوني في مجال الصحافة الإلكترونية.

 

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون.
الظروف التي أحاطت بانتخاب الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبّون كانت محل جدل في الجزائر: إذ استمرّت المظاهرات المطالبة بعدم إجراء الانتخابات قبل رحيل "العصابة الحاكمة" السابقة وتطهير مؤسسات الدولة منها إلى يوم الاقتراع الذي قسّم الجزائريين حينها وتسبب في عزوف الملايين عن الإدلاء بأصواتهم، ما جعل شرعية عبد المجيد تعتمد بالأساس على دعم الجيش.

 

وترقب العاملون في قطاع الإعلام انفراجا في أوضاعهم، لكن الرئيس وحكومته تنكّرا لكل تلك الوعود وتعرض عدد من الصحافيين للاعتقال والملاحقة القضائية، كما شنت الحكومة الجديدة حملة شرسة ضدّ المواقع الإخبارية، أو بالأحرى واصلت الحملة على المواقع، إذ أنّ الحكومة ارتكبت ما يصفه الجزائريون بـ"المجزرة الافتراضية" التي أتت على عدد ضخم من المواقع الشهيرة، خاصة تلك المواقع التي غطّت حراك 22 فبراير المنادي بالحرية والإصلاح.

وإضافة إلى الحجب والرقابة على خلفية الخطّ التحريري، تعاني صحف مستقلة وقنوات تلفزيونية من ضغوط لمنعها من فتح المجال أمام أصوات المعارضة خاصة تلك الرافضة لدور الجيش في الحياة العامة، كما تمارَسُ ضغوط أخرى على مراسلي القنوات الأجنبية، وتشن وسائل إعلام موالية حملة ضدّ الصحافة المعارضة والمستقلة وتتهمها بـ"العمالة للأجنبي" وتلقي "تمويلات مشبوهة".

خنق الصحافة

تحاول حكومة الرئيس تبون منع أوكسجين حرية التعبير عن الإعلام الجزائري، وأطبقت بقبضتيها على عنق الصحافة فكانت النتيجة اختناقا للقطاع، إذ احتلّت الجزائر، في تقرير منظّمة مراسلون بلا حدود الأخير مرتبة متأخّرة (146 على 180 بلداً)، باعتبار مؤشّرات تقيس حريّة الإعلام والصّحافة.

وطالت يد الرقيب والحجب مواقع "لافان غارد ألجيري"، وموقع "المنشار"، الساخر، و"لوماتان" (الصباح) وموقع "كل شيء عن الجزائر" TSA و"مغرب إيميرجون" و"راديو إم"، و"إنترلين" و"ديزاد فيد".

 

 

ومؤخرا، غادر مراسل قناة "الميادين" الفضائية سفيان مراكشي، السجن بعد ثمانية أشهر من الاعتقال بسبب عمله الصحافي، لكن "تهمة جبائية" وجّهت له وتتعلق بتوريده لجهاز بث فضائي من دون التصريح به لدى الجمارك.

ومازال رئيس تحرير صحيفة "لوبروفنسيال" مصطفى بن جامع يقبع في السجن، إذ يلاحَق بسبب عرض منشورات على فيسبوك وبتهمة "الدعوة للتجمهر"، وهو الذي حوكم سابقاً في قضايا رأي مماثلة، لها صلة بمواقفه خلال الحراك الشعبي، ودعم وتغطية المظاهرات الشعبية. واستفاد حينها ولفترة قصيرة من حكم بالبراءة في إحدى القضايا.

كما يُسجن الصحافي خالد درارني مؤسس موقع "القصبة تريبيون" ومراسل منظمة مراسلون بلا حدود (RSF) بتهمة "التحريض على تجمع غير مسلح" و "والمساس بوحدة الوطن"، أما المدوّن وليد كشيدة، فيُسجن بتهمة "إهانة هيئة نظامية، إهانة رئيس الجمهورية والإساءة إلى المعلوم من الدين".

تمويل أجنبي؟

لم تتخلّص الجزائر بعدُ من "وزارة الإعلام"، والتي صارت في العالم العربي بمثابة الهراوة التي تضرب بها الحكومات كل نفَس تحرّري في الإعلام والصحافة، وتلقي تلك الوزارة التهم يمينا ويسارا، وتساعد الرئيس تبون في كيل الاتهامات للإعلاميين، إذ اتهم وزير الاتّصال الجزائري، عمار بلحيمر، منظمة "مراسلون بلا حدود" بكونها "تابعة لأدوات القوّة الناعمة الفرنسية" وهاجم المواقع المحجوبة واتهمها بتلقي تمويلات أجنبية.

 

الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها عبد المجيد تبّون أجريَت في سياق يرفضه غالبية الجزائريين، وعبروا عن ذلك في مسيرات حاشدة.
لم يكن الوضع ليستتبّ للرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون لولا تفشي فيروس كورونا: فقد أثر الوباء كثيرا على الحراك المناهض لانتخابه، بحسب قراءات كثيرة. فالرئيس مازال يخشى عودة الجزائريين إلى الشوارع بمجرّد احتواء الجائحة، ولهذا يتحسس من الآراء المعارضة ويعزز حملته ضدّها. فالانتخابات الرئاسية أجريت في سياق يرفضه غالبية الجزائريين، وعبروا عن ذلك في مسيرات حاشدة، إذ لم يتقبّلوا فكرة إجراء الانتخابات قبل محاكمة رموز النظام السابق، وعزل أنصاره من مؤسسات الدولة وتحييدهم عن العملية الانتخابية ضمانا لشفافيتها ومنعا للخروقات التي تؤثر على مصداقيتها، وهذا ما لم يحصل.

 

وتشنّ الصحافة المعاضدة للنظام حملة ضدّ المستقلين والمعارضين وتتهم منابرهم بالترويج للأخبار المضللة والكاذبة، في تبرير صريح للرقابة والحجب والقمع، على غرار ما كان يروج له نظام بوتفليقة.

وتثير هذه التهم سخرية الصحافيين الجزائريين، فـ"الأيادي الخارجية" باتت حُجّة ممجوجة ومكرّرة تُرفع كلّما ارتفعت أصوات تنتقد السّلطة وأداءها، وأضيفت لها مؤخرا تهم "الشتم وترويج الإشاعات".

ويقول الباحث الجزائري نور الدين بسعدي لموقع قنطرة: "ربما هناك حالات قليلة تتضمن شتما لكن هذا لا يمكن أن يكون مبررا موضوعيا لحجب كل هذه المواقع. أما مكافحة الأخبار الزائفة، فهذا يتطلب استراتيجية شاملة لا يمكن اختصارها في استهداف مواقع ليست معروفة بالترويج لتلك الأخبار".

ولا تعمل السلطات إلى الآن على تفعيل صلاحيات الضبط السمعي البصري والصحافة المطبوعة، ومراجعة قانون الإعلام للعام 2012، ولا تعير اهتماما للصحافة الإلكترونية أو لإنشاء قانون خاص بها، إضافة إلى رفضها تحرير الإعلانات العمومية وتوزيعها العادل والشفاف بين جميع القنوات الإعلامية والمؤسسات الصحافية المطبوعة، وترفض كذلك حل مشكلة العراقيل للحصول على بطاقة الصحافي التي تسهّل العمل.

ويتفق كثيرون على أنّه من السهل جدا تعزيز أدوات الضبط المهني، وإخضاع المؤسسات الإعلامية للرقابة المالية للدولة، وإلزامها بتقديم حساباتها وفرض مطابقتها للقوانين الجاري بها العمل، لكن في الأمر نية مبيّتة.

عملية تجميل

تستغل الحكومة الجزائرية غياب القوانين الناظمة للصحافة الإلكترونية والمواقع الإخبارية، بل وتتلكأ في سدّ هذا الفراغ القانوني المفارق للعصر، لفرض خياراتها وأجنداتها على تلك المواقع وإدخالها بيت الطاعة، خاصة أن الحكومة هي التي تتحكم في سوق الإعلان العمومي وتحديدا بنسبة 70 في المائة، بل وتمارس ضغوطاً على الشركات الخاصة لمنعها من تمويل المؤسسات الإعلامية والمواقع المعارضة.

الباحث الجزائري نور الدين بسعدي.
الحكومة الجديدة تريد إعطاء صورة لـ"جزائر جديدة": يرى الباحث الجزائري نور الدين بسعدي أن "معظم الجهود المبذولة حاليا تتجه للأسف إلى حالة من التضييق على الصحافة الإلكترونية في خضم التصويت على قانون مكافحة الكراهية والقانون الجبائي المعدل، اللذين يرى الملاحظون أنه يراد من ورائهما التضييق أكثر على حرية الصحافة والرأي". ويضيف أن المواقع المحجوبة منخرطة في الحراك وتغطي أخبار سجناء الرأي بصفة مستمرة وهذا ما يقلق الحكومة الجديدة التي تريد إعطاء صورة لـ"جزائر جديدة" بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة ومحاولة تطبيع الأمور". والمقصود بـ"تطبيع الأمور"، تقبّل فكرة أنّ الانتخابات الرئاسية أجريت في سياق يرفضه غالبية الجزائريين.

ورغم أنّ قانون الإعلام المعدل في الجزائر أقر اعترافاً بواقع الصحافة الحديثة والمواقع الإلكترونية، إلا أنّ الجزائر ما زالت تفتقد لنص قانوني واضح ينظم هذه المجال، وهو ما يستغله الرئيس تبّون جيدا لمعاقبة المواقع التي لا تروق له.

وجدير بالذكر أنّ الظروف التي حفّت بانتخاب الرئيس الجديد كانت محل جدل في الجزائر، إذ استمرّت المظاهرات المطالبة بعدم اجراء الانتخابات قبل رحيل "العصابة الحاكمة" السابقة وتطهير مؤسسات الدولة منها إلى يوم الاقتراع الذي قسّم الجزائريين حينها وتسبب في عزوف الملايين عن الإدلاء بأصواتهم، ما جعل شرعية تبون تعتمد بالأساس على دعم الجيش.

ولم يكن الوضع ليستتبّ لتبّون لولا تفشي فيروس كورونا الذي أثر كثيرا على الحراك المناهض لانتخابه، بحسب قراءات كثيرة. فالرئيس مازال يخشى عودة الجزائريين إلى الشوارع بمجرّد احتواء الجائحة، ولهذا يتحسس من الآراء المعارضة ويعزز حملته ضدّها.

ويتفق الباحث الجزائري نور الدين بسعدي مع هذا الرأي. ويقول: "معظم الجهود المبذولة حاليا تتجه للأسف إلى حالة من التضييق على الصحافة الإلكترونية في خضم التصويت على قانون مكافحة الكراهية والقانون الجبائي المعدل، اللذين يرى الملاحظون أنه يراد من ورائهما التضييق أكثر على حرية الصحافة والرأي".

ويضيف أن المواقع المحجوبة منخرطة في الحراك وتغطي أخبار سجناء الرأي بصفة مستمرة وهذا ما يقلق الحكومة الجديدة التي تريد إعطاء صورة لـ"جزائر جديدة" بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة ومحاولة تطبيع الأمور".

والمقصود بـ"تطبيع الأمور"، تقبّل فكرة أنّ الانتخابات الرئاسية أجريت في سياق يرفضه غالبية الجزائريين، وعبروا عن ذلك في مسيرات حاشدة، إذ لم يتقبّلوا فكرة إجراء الانتخابات قبل محاكمة رموز النظام السابق، وعزل أنصاره من مؤسسات الدولة وتحييدهم عن العملية الانتخابية ضمانا لشفافيتها ومنعا للخروقات التي تؤثر على مصداقيتها، وهذا ما لم يحصل.

وفور وصوله الى سدة الحكم، يحاول الرئيس جاهدا تجميل حكمه الهشّ، ولا يبدو أنّ ما تتعرض له الصحافة والمواقع الإلكترونية من عقاب جماعي هو كل الحكاية، إنما مجرّد قمة جبل الجليد في استراتيجيا مكتملة القوام تهدف إلى فرض الأمر الواقع.

فالتضييق على نشطاء حرية التعبير ورموز الحراك الشعبي، والسياسيين المعارضين، يتزامن مع جدل دستوري فرضته رئاسة الجمهورية، ولعل مسودة الدستور الجديد الذي تم الكشف عنه خير دليل على نوايا عبد المجيد تبّون، فالرجل متمسّك باستنساخ تجربة النظام السياسي (الرئاسويّ) والذي يكون فيه للرئيس صلاحيات واسعة، رغم مطالبات كثيرة بالتوجه نحو نظام برلماني ديمقراطي يراقب الرئيس ويسائله.

ولا يبدو الجيش النافذ والمتحكم بمفاتيح السياسة الجزائرية بعيدا عن هذه النوايا خاصة وأنه دفع بتبّون للحكم، فقد فرضت المؤسسة العسكرية انتخابات رئاسية سريعة تعيد الأمور الى نصابها بعد استقالة بوتفليقة، عوضا عن تحوّل ديمقراطي كامل وجذري، يأتي بجيل جديد من السياسيين أو بوجوه من الحراك الشعبي الذي تجرأ على "قداسة وهيبة الجنرالات" في شعارات رفعت في الشوارع والساحات جهارا.

 

معاقبة المواقع الإخبارية التي لا تروق للحكومة في الجزائر.
معاقبة المواقع الإخبارية التي لا تروق للحكومة: تستغل الحكومة الجزائرية غياب القوانين الناظمة للصحافة الإلكترونية والمواقع الإخبارية، بل وتتلكأ في سدّ هذا الفراغ القانوني المفارق للعصر، لفرض خياراتها وأجنداتها على تلك المواقع وإدخالها بيت الطاعة، خاصة أن الحكومة هي التي تتحكم في سوق الإعلان العمومي وتحديدا بنسبة 70 في المائة، بل وتمارس ضغوطاً على الشركات الخاصة لمنعها من تمويل المؤسسات الإعلامية والمواقع المعارضة. ورغم أنّ قانون الإعلام المعدل في الجزائر أقر اعترافاً بواقع الصحافة الحديثة والمواقع الإلكترونية، إلا أنّ الجزائر ما زالت تفتقد لنص قانوني واضح ينظم هذه المجال، وهو ما يستغله الرئيس تبّون جيدا لمعاقبة المواقع التي لا تروق له.

 

ويبدو أنّ الرئيس تبّون اختار السلاح الأكثر شعبية في الجزائر التي استعمرت من طرف فرنسا لمدة قرن كامل، ألا وهو سلاح "العمالة والتخوين"، مستعينا بترسانة من الصحافة الموالية التي باتت عبئا على الانتقال الديمقراطي في هذا البلد.

ويبدو أنّ عنوان هذه المرحلة من تاريخ الجزائر يقوم على تمايز وفرز بين من هو "الوطنيّ" ومن هو "العميل"، في مفارقة تذكّرنا بالعشرية السوداء التي كان عنوانها فرز بين من هو "مسلم" ومن هو "كافر"، وفي كلتا التجربتين، تكون الديمقراطية هي الضحية الأبرز لذلك الفرز والاستقطاب المفتعل.

 

إسماعيل دبارة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 



[embed:render:embedded:node:39019]