المفكر عبد الكريم سروش: المتصوفة أنبياء التعددية

للاسترشاد في بحثه عن منهج شامل للدين، لا يستند الفيلسوف والمفكر الإسلامي عبد الكريم سُرُوش فقط على المنطق والعقلانية بل أيضا على أبعاد أخرى يستقيها من أحد أبرز أعلام الفكر الصوفي: جلال الدين الرومي. يتحدث الفيلسوف سروش -في حواره التالي مع دارا ألاني لموقع قنطرة- عن منظوره للتعددية لدى الأنبياء والمتصوفة، ويقول: "الحق فوق الدين والتدين، والأديان تبحث عن الحق، وأينما وجدنا الحق فعلينا اتباعه".

الكاتبة ، الكاتب: Dara Alani

المفكر الصوفي جلال الدين الرومي هو مصدر إلهام رئيسي لك. ما الذي يمكن أن يقدمه لنا اليوم فيلسوف القرن الثالث عشر؟

عبد الكريم سروش: رغبتي الأولى هي إعطاء إجابة عامة جداً، يتبعها موجز "فقط علينا قراءة عمله؛ الذهاب وقراءته فحسب"، لأن عمل الرومي مثل محيط واسع: ومن أجل اختبار محيط، ينبغي علينا أن نخوض في المياه، يجب علينا أن نعرف كيف نسبح في المحيط.

إن قرأنا الرومي فسنصادف عالماً شديد الاختلاف ونحن بحاجة عوالم مختلفة، لأننا منذ اللحظة التي نولد فيها، فإننا نولد في عائلة، في مدينة، في بلد معين، في ثقافة معينة. ونحن بحاجة شخص ليأتي ويساعدنا على تغيير نظرتنا إلى العالم - وهذا الشخص من الممكن أن يكون الرومي.

نحن نعيش، الجميع يعيش، بيد أننا نحتاج إلى أناس مثل الرومي ليعطوا معنى لحياتنا، ليخبرونا عن جوهر الحياة الحقيقي. هذا هو الجانب الأول. أما الثاني فهو هذا: الرومي، كما أفهمه، كان لديه خبرة مباشرة في الله، خبرة مباشرة في الألوهية. رجل ذو تقاليد نبوية مستمرة [ومستمدة] من الأنبياء. نحن بحاجة لأشخاص مثلهم. نحن نحتاج إلى أن نتمكن من النظر إليهم والقول: هنا النبوة، هنا الألوهية، هنا تجسيد لمعنى الحياة.

يمكن اعتبار فقه الألوهية (اللاهوت) بوصفه العلم الذي يعالج الأسئلة التي تتناول مفهومنا عن الله، الخلق والإنسانية والعلاقات فيما بينهم. ضمن هذا السياق، هل يمكن أن يُنظر للصوفية كجزء لا يتجزأ من فقه الألوهية (اللاهوت)؟

عبد الكريم سروش: الصوفية أو التصوف أو العرفان، كما أحب أن اسميها، هي أسلوب حياة تجمع بين هذا العالم والعالم الآخر. يأتي العرفان في الحقيقة من كلمة المعرفة. بيد أن لها معنى ثانياً: عارف أو عرفان تأتي من عرف. أي أن ترى، وأن تشم [أدركه بحاسة من حواسه]. وبالتالي فالعارف هو شخص يعرف ما هي رائحة الله. يمكنه أن يشم العطر، أثير الألوهية. يستخدم الرومي تشبيهاً جيداً للغاية على سبيل هذا التوضيح:

افترض أنك تطارد غزالاً، غزال من مِسْك. أولاً: تفحصْ الأرض ترَ آثار حوافر الغزال وتتبعه. ولاحقاً لا تزال غير قادر على رؤية الغزال، ولكن يمكنك أن تشم المسك، لذلك أنت واثق من أنك قريب من الغزال، حتى لو لم يكن بمقدورك رؤيته بعد. فتستمر بالتقدم وفجأة ترى الغزال.

صورة مرسومة - الفيلسوف والمفكر الصوفي جلال الدين الرومي. (photo: dpa/CPA Media)
يقول الفيلسوف عبد الكريم سروش: اِقرأوا ما كتبه جلال الدين الرومي: "لأن عمل الرومي مثل محيط واسع: ومن أجل اختبار محيط، ينبغي علينا أن نخوض في المياه، يجب علينا أن نعرف كيف نسبح في المحيط. إن قرأنا الرومي فسنصادف عالماً شديد الاختلاف ونحن بحاجة عوالم مختلفة. ونحن بحاجة شخص ليأتي ويساعدنا على تغيير نظرتنا إلى العالم".

لديك هنا ثلاثة أشياء. الأول لديك آثار الحوافر، هذه علامات الغزال التي يقرؤوها الخبراء (العلماء). وبمجرد أن تشم العطر، فإنك تصبح أكثر من عالِم، لأنك الآن تحس به. ويمكنك فقط من خلال الاستقراء القول إن هذه الآثار هي خطوات غزال، بناءً على ذلك ينبغي أن يكون الغزال موجوداً. بيد أنك بعد ذلك تشم العطر وفي نهاية المطاف تلمح الغزال. فالعارف هو شخص يشم العطر أولاً ويحاول الوصول إلى الغرض الذي يبحث عنه من خلال الرائحة.

فهل العرفان جزء من اللاهوت؟ ذلك كله يعتمد على معنى اللاهوت، إنْ ترجمنا اللاهوت إلى "علم الكلام"، فهو ليس جزءاً من اللاهوت، لأن اللاهوت -في هذه الحالة- يعني علماً إيضاحياً، أي البحث عن الخطى، والعمل مع البرهان والدليل.

غير أن العارف لا ينظر إلى الدليل، فهو يسعى إلى الشيء نفسه وليس عن علامات عنه. إذاً فالصوفية لا يمكنها أن تكون جزءاً من علم الكلام بالمعنى التقليدي للاهوت الإسلامي. في الفكر الإسلامي التقليدي، اللاهوت والصوفية منهجان مختلفان تماماً.

بوصفك مؤمناً قوياً بالتعددية، هل تعتقد أنه من الممكن الدفاع عن موقف التعددية من داخل الإطار الديني؟ في النهاية، يرى كل دين نفسه بوصفه الدرب الصحيح الوحيد إلى الله، مما لا يترك مجالاً كبيراً للتعددية الحقيقية.

عبد الكريم سروش: هذا صحيح. فالأنبياء ليسوا تعدديين جيدين. دعوني أعطيكم مثالاً: تخيلوا سوقاً، يعجُّ بمتاجر مختلفة. يروِّج كل صاحب متجر لمتجره. هذا هو الأمر الأكثر طبيعية في العالم. أنا لن أروّج لمتجرك، وأنت لن تروّج لمتجري، بيد أن كل واحد منا يحاول أن يكون ناجحاً قدر الإمكان عبر جذب أكبر عدد ممكن من الزبائن.

لكن ماذا عن الزبائن؟ إنهم في السوق ويشاهدون عدداً من المتاجر التي تسعى لجذب الزبون. ينبغي عليهم أن يكونوا تعدديين، فأصحاب المتاجر ليسوا تعدديين، بيد أن السوق هو مكان تعددية. لم يكن نبي الإسلام تعددياً، ولم يكن نبي المسيحية تعددياً كذلك، والقائمة تطول. 

غير أنني كزبون يمكنني أن أرى عدداً من المتاجر أمامي. فأفكر، حسناً، من الممكن أن أشتري القليل مما أحتاجه من هذا المتجر والبعض من الآخر. كما تعني التعددية أنه ينبغي عليك أيضاً أن تسمح لكل هذه المتاجر أن تفتح وتعمل. لا يمكنك أن تسمح لمتجر واحد أن يفتح وتُغلِق كل البقية. ما وصفته للتو هو نوعي من التعددية.

من وجهة النظر اللاهوتية، قد يأخذ السؤال منعطفاً آخر. هل كلنا سواسية، متساوون عند الله، بصرف النظر عن ديننا؟ هناك العديد من الأديان في العالم، حتى أنه توجد أيديولوجيات لا تسمي نفسها ديناً. فماذا ينبغي أن يفعل الله معهم؟ أخشى أنني لا أملك جواباً لهذا لأنني لست الله. بيد أنه يمكنني القول طالما أننا نسعى إلى الحق فسنُخلَّص - لا يهم إن كنا مسيحيين أو مسلمين أو من أي ديانة أخرى.

طبعاً سيقول نبي أي دين تعالوا إلي، لا تذهبوا إلى الآخرين، بيد أنني كزبون في السوق يمكن أن اختار لمن يجب أن أذهب. كل ما يهم هو أنني أسعى وراء الحق، وأنني مستقيم وأتصرف بنزاهة. الهدف، غاية جميع الأديان هي فقط جعلنا بشراً مستقيمين.

كان الصوفيون أنبياء التعددية. فالرومي على سبيل المثال لديه العديد من الأشياء ليقولها حول التعددية. هو يقول النور واحد، لكن المصابيح تختلف. فالمصابيحُ المختلفة تعني أدياناً مختلفة، غير أن النور داخل المصباح هو ذاته، سواء حصلنا عليه من هذا المصباح المحدد أو غيره. الحق هو فوق الدين والتديّن. والأديان تبحث عن الحق. فإن وجدنا الحق حينها ينبغي علينا اتباعه.

 

 

 

حوار: دارا ألاني 

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2018

ar.Qantara.de