انطباعات رحلة إلى المجهول

في روايتها الأولى "فرايبورغ. رقَّة العزلة" تشرح لنا الهنوف الدغيشم وهي طبيبة أسنان مبتعثة وقت كتابة هذا العمل في ألمانيا لسنوات عديدة وحصلت على درجة الدكتوراه في تخصصها كيف توصّلت لرؤية مختلفة ومنفتحة في حياتها عبر تعايشها مع الحضارة الألمانية بالإضافة إلى أنها تروي لنا عن التحدِّيات الكثيرة التي واجهتها في هذه الفترة وأن الوِحدة ليست سلبيةً على الإطلاق و لكن لها جوانب إجابية عدة.

الكاتبة ، الكاتب: Hussein Gaafar

الهنوف، تسألين في بداية روايتك الأخيرة كيف تؤثّر الأماكن في أرواحنا؟ هل وجدت الإجابة بسهولة وهل كان طريقك ميسورا للتعامل مع الغربة؟

الهنوف الدغيشم: حينما اقتربت التجربة من النهاية، أدركت أثر المكان في روحي، لذلك تساءلت أي امرأة أصبحت الآن؟ من سأكون بلا هذه التجربة؟ أغمض عيني محاولة استجداء تصوّر ما، وأشعر أن لا إجابة محسوسة لتساؤلي، ربما سأكون امرأة غامضة لا يمكن تخمينها.

هنا بدأت حياة جديدة تتكون داخلي، حياة ناضجة وواضحة، أدرك ما وراءها، لا أحد يزرعها سواي.

الهنوف الدغيشم: هذه الحياة المركبة والمتداخلة هّيأت لي قدرة عالية من الإدراك والتأمّل. لقد أصبحت أؤمن أنني قادرة، ليس فقط على تجاوز كل ما هو عاصف، بل وموقنة من كون هذه التجارب تزيدني قوة لمواجهة القادم والتغلب على هشاشتي وخيباتي. لا يوجد شئ، إذن، يمكن أن يستنزفني بعد الآن، ولم يعد المجهول مخيفاً. ربما للوهلة الأولى سأقول إنه أثر المكان، لكن من الذي يمنح المكان خصائصه وسماته إلا الإنسان؟

صحيح، لم يكن لدي صداقات داخل هذه المدينة، لكن أظن أن أثر الإنسان العابر، اللامبالي باختلافي، هو ما يمنح هذه المدينة كل هذا الصفاء. إنه الإنسان، الذي يبني الحضارات، متمثلة بزمن أو مكان ما.

عندما كنت تقيمين في ألمانيا إحساسك كأجنبية هناك هو شعور داخلي ذاتي أم أن المحيط الخارجي هو من فرضه عليك؟

الهنوف الدغيشم: ظل هذا السؤال يلاحقني طوال تجربتي، في بداية التجربة كنت أشعر أن كل شئ موجه من الآخر نحوي، وكنت أتحسس من كل اختلاف بسيط، وأراقب كل ما هو جديد علي، وأشعر أيضًا أنني مراقبة، لكنني مع الوقت، بدأت أتصالح مع الاختلافات المحيطة بي، وأشعر بتحدي لذيذ لذوبانها داخلي، كأن الثلوج المحيطة بي بدأت تذوب نوعًا ما، لتفتح لي أفقًا أوسع ورحابة في رؤيتي للآخر بكل اختلافاته.

فحينما كنت ألاحق السنجاب بعيني ، كنت أشعر أنه يقول لاندهاشي أنت غريبة. وحينما كان يفاجئني المطر، كان يقول لي.. أنت قادمة من الصحراء، حتى السنتات النحاسية التي أجد صعوبة في عدها، المرمية في أرجاء الشقة، على الطاولات، وفي جيوب الجاكيتات، ولا أستخدمها، تقول لي: أنت ابنة دولة نفطية.

غلاف رواية "فرايبورغ. رقَّة العزلة"
في روايتها الأولى "فرايبورغ. رقَّة العزلة" تشرح لنا الهنوف الدغيشم وهي طبيبة أسنان مبتعثة وقت كتابة هذا العمل في ألمانيا لسنوات عديدة وحصلت على درجة الدكتوراه في تخصصها كيف توصّلت لرؤية مختلفة ومنفتحة في حياتها عبر تعايشها مع الحضارة الألمانية.

هذه العلاقة مع الأشياء، قللت مع الوقت تحسسي من الآخر، لذلك شعرت أن عبئًا ما يتلاشى مني، وأن هذا الإحساس بكوني أجنبية وغريبة، ليس قادمًا من الآخر فقط، بل هو أيضًا نتاج الثقافة المختلفة التي أحملها معي، وتكويني ورؤيتي، إنها مزيج متداخل يصعب تحديده، بيني وما أحمله معي من نتاج ثقافي، وبين هذا المكان الجديد ومكوناته الثقافية.

تذكرين في الرواية قصة عن حادثة سيارة كادت تصدم قطارا عندما كنت صغيرة و أنت تسيرين مع أبيك في الطريق، فنصحك بالكتابة حتى تتخلصين من خوفك. هل تُعتبر هذه الرواية محاولة طرد الخوف والغربة بالكتابة؟

الهنوف الدغيشم: هذا الانتقال من ثقافة لثقافة أخرى، ومن مدينتي الرياض، إلى مدينة أخرى لا أعرفها، مدينة تراني غريبة ومختلفة، فوجدتني إجباريًا داخل عزلة، جعلني بداية في حالة ارتباك وقلق، ومع الوقت تحول هذا الارتباك والحساسية تجاه الغربة، ليس لمجرد تصالح، بل تباهٍ بهذه الغربة التي صنعت منها عزلة ووطناً صغيراً يشبهني.

إن الصراع، الذي حدث لي داخل مدينتي فرايبورغ، بين واجباتي كأم، وكطبيبة، وكأنثى، وكغريبة وبين المرأة الحرة التي تسعى لأن تكون قوية ومستقلة، ولها عالمها الخاص الذي يحتويها، أدى إلى حالة من التوتر الداخلي، وكل ما سعيت إليه هو صنع السلام بين النساء المتناقضات والمتشابكات داخلي.

ولذلك بحثت عن حياة شاسعة يمكن لها أن تحتمل كل أوجهي، وإشباع كل امرأة فيه. وفي عزلتي كتبت، كتبت عني في هذه المدينة، عن المرأة التي أراها لأول مرة بهذا الوضوح. فلم تكن الغربة طريقًا إليهم، كانت الطريق إلى نفسي، فقد قادتني هذه العزلة إلى اكتشاف دهاليز روحي المعتمة، وكشف الضوء عن ملامحي الذهنية، فنفضت غبار الضجر وشاغبت الرتابة الساكنة داخلي. لقد ركضت وحيدة داخل مساحات توجّساتي الداخلية الشاسعة الخائفة من كل ما هو مجهول وغير مدرك، وعبثت - دون أن ألتفت لأحد - بالأسئلة الساكنة داخلي كأنها براكين متوجّسة.

كنت أكتب في الترام، وغرف الانتظار، وفي الأوقات الطويلة التي كنت فيها وحيدة. كانت الكتابة عشوائية، في نوتات متفرقة، وفي رسائلي لصديقاتي، وفي ذاكرة الآيباد، وملاحـظات الجوال. لم تكن فكرة الكتاب متكونة في ذهني، حتى اقتربت من نهاية هذه التجربة، لأجد أنني كنت أكتب، لأخرج من مآزق الحياة. لذلك كتبت لأدون رحلة السير بقلق إلى نفسي، إلى ذاتي النقية.

كتبت لماذا كان الاندماج يبدو مستحيلا و ما الذي يجعل هذا الاختلاف صارخا؟ سؤالي هو اذا كان لصغيراتك دورا مؤثرا في تجاوز هذه الفترة و لأي مدى؟

الهنوف الدغيشم: ﺭغم أن مسؤوليتي تجاههن كانت تبدو جزءا من صراعي هنا، إلا أنهن كن طريقا لسلامي الداخلي. فتصالحهن الفطري مع الغربة وعدم إدراكهن الفوارق، كان يشذّب حساسايتي ويمنح روحي صمودًا. ومع الوقت بدأن هن بتعريفي بالثقافة الألمانية، كن قادرات أن يكنّ جزءا سلسًا من هذه الثقافة.

الكاتبة السعودية الهنوف الدغيشم حصلت على شهادة الدكتوراه في ألمانيا وفازت بأكثر من جائزة بحثية.
الكاتبة السعودية الهنوف الدغيشم حصلت على شهادة الدكتوراه في ألمانيا وفازت بأكثر من جائزة بحثية.

كيف تنظرين إلى ذكريات طفولتك في سكن أعضاء هيئة التدريس في جامعة الملك سعود ابن عبد العزيز و هل لعبت دورا إجابيا ساعدك في فترة الغربة؟

الهنوف الدغيشم: كان سكن جامعة الملك سعود مختلفًا عن بقية أحياء الرياض، يبدو بيئة صحية مناسبة أكثر للطفل، هذه البيئة التي عشت فيها طفولتي، كانت منفتحة أكثر مع الأطفال الآخرين ومع البيئة. كانت مشابهة إلى حد ما، حياة الطفل في ألمانيا، فكنت حين أتأمل الأطفال أشعر أنني أعود بذكرياتي لمكان آخر، مما منحني تصالحًا مع البيئة الألمانية الجديدة علي.

كتبت أنه على الرغم من أن كل ما أردته قد تحقّق فإنني لا أزال عطشى و طعم الملح يزداد في فمي. هل كان بحثك عن النجاح إثبات وجودك كإمرأة سعودية في مجتمع غريب أم البحث عن الأمان والسلام والتصالح مع العالم كإمرأة؟ هل وصلت لأي إجابة؟

الهنوف الدغيشم: أظن أن السؤال مازال يلاحقني، أنا لا أعرف الدوافع التي تجعلني أبحث عن النجاح، أظن أن حاجة المرأة للنجاح مختلفة عن الرجل، الرجل يشعر به كشيئ فردي ومتفرد، المرأة تود أن تجد حيزًا يمنحها الأمان والتصالح.

تدافعين عن المساواة بين الرجل والمرأة في المجتمع السعودي وتصفين في مقالاتك موقف المرأة كمأزق اجتماعي، فهل توجد من وجهة نظرك فرص جيدة لتحسين الوضع في الفترة القادمة؟

الهنوف الدغيشم: المرأة السعودية تعيش على الأمل، إن كان ثمة تغييرات مرت بها المرأة السعودية لصالحها، فمازال الكثير الذي تحتاجه لتستطيع حرق المسافات واللحاق بالنساء الأخريات.

كانت نصيحة مريضك الإيطالي في الرواية الذي قال لك: خذي العلم من هنا وغادري إلى بلادك فأنا هنا منذ ثلاثين عاما لكن قلبي في جنوب إيطاليا. ما رأيك بهذا؟ أين تشعرين بالراحة و بالانتماء؟

الهنوف الدغيشم: سأقول ما قاله محمود ﺩروﯾش.. القمحُ مُرُّ في حقول الآخرينْ. والماءُ مالحْ وسأتذكر الأغنية البلوشية التي أشعر بكلماتها دائما...«كم هي جميلة بلاد الآخرين، مليئة بالناس والثروات وأنهار من العسل، لكن الخشب الجاف في بلادنا خير من كل ما في العالم

الهنوف الدغيشم، شكرا على هذه المقابلة!

 

حسين جعفر

قام بطرح الأسئلة وهو موظف في معهد جوته الإسكندرية.

حقوق النشر: معهد جوته 2016