عفو المقتدر بساحة الإعدام في اليمن

العُرف القَبَلي في اليمن خصوصاً في شماله وشمال شرقه. رجال قبائل يمنية يجتمعون في ساحة عامة لقراءة "قرارات" القبيلة.
العُرف القَبَلي في اليمن خصوصاً في شماله وشمال شرقه. رجال قبائل يمنية يجتمعون في ساحة عامة لقراءة "قرارات" القبيلة.

اليمن -خاصةً في شماله- من البلدان القليلة التي ما زال العرف القبلي فيها مؤثرا مثلا بقضايا الثأر. الحرب وغياب الدولة عززا العُرف مثلا في مأرب بمعالجة قضية قتل رغم صدور حكم قضائي. استعلام صفية مهدي.

الكاتبة ، الكاتب: صفية مهدي

في ساحة الإعدام ووسط حشدٍ من رجال القبائل والسكان المحليين ورجال الأمن بمحافظة مأرب شمال شرق اليمن، تقدم عبدالله القحاطي ليعلن العفو عن المدان قضائيا بقتل ابنه صدام (16 عاماً)، استجابة لمناشدة والدة الجاني الذي تم إحضاره إلى ساحة "العفو" بثياب الإعدام، في مشهد خلق موجة ارتياح واسعة في أوساط اليمنيين، وعكس من زاوية أخرى، صورة متقدمة عن النظام القبلي العرفي المترسخ في البلاد، والذي اكتسب مساحة أوسع على ضوء الحرب وما رافقها من انهيار لمؤسسات الدولة في البلاد.

تُوفيَ صدام، الذي كان مجنداً في حوالي الـ16 من عمره، بنيران زميله الجندي في قوات الأمن الخاصة ربيع الدماسي وعمره 27 عاماً، بعد مشادات بين الاثنين، حيث كانا يعملان في نقطة أمنية. وعلى مدى سنوات أعقبت الحادثة، بقي موقف والد القتيل، وفقاً لشهادات أقارب له تحدثوا لـِ دي دبليو عربية، صارماً يسعى للقصاص عبر القضاء ويرفض أي تسويات، لتتكلل مساعيه للأخذ بدم ابنه باستصدار حكم بإدانة الجاني وإعدامه رمياً بالرصاص.

دخول القبيلة على الخط

وجاء الحكم بالإعدام الصادر عن المحكمة الابتدائية في المدينة وبمصادقة السلطات العليا في البلاد، فكان بالنسبة للنظام القبلي، بمثابة الانتصار الذي يعطي لولي أمر القتيل الحق في تنفيذ الحكم أو أن يتمثل "عفو المقتدر".

 

موقف عظيم من مأرب .. لحظة إعلان الشيخ عبدالله القحاطي المرادي عن قاتل ابنه ربيع الدماسي ومسامحته لوجه الله. pic.twitter.com/GnsF3vHfdn

— محمد الضبياني M.Aldhabyani (@maldhabyani) February 20, 2023

 

وتحركت الجهود القبلية لإقناع الأب بإعلان العفو، بالترافق مع اعتصام والدة الجاني، لدى قبر الضحية تضامناً مع أسرته وطلباً للعفو.

يقول محمد صالح القحاطي، أحد أقارب المجني عليه لـ دويتشه عربية "كانت القضية (أي حادثة القتل) مؤلمة لنا جميعاً وخاصة والده ووالدته، اللذين تألما كثيرا ولا يزالان"، ولكن "حصلت إحراجات من المرأة التي أتت إلى القبر"، وطُرح على ولي أمره قبول التحكيم أو العفو، ففاجأ الجميع باختيار العفو.

ويقول محمد الولص رئيس مركز دراسات البحر الأحمر لـ"دي دبليو عربية"، وهو من أبناء قبيلة "مراد" وأحد المطلعين على سير القضية، إنه بعد صدور الحكم تحركت القبائل اليمنية والشعراء لـ"تنتخي حمية وشهامة وإنسانية ولي الدم الشيخ القحاطي وتُخاطب قبائل مراد قاطبة"، ومعها تحرك مشائخ القبيلة وكبارها وعقالها وشبابها"، وجاء اعتصام والدة القاتل على قبر ابنه لتشكل إحراجاً إضافياً لا يمكن تجاهله في عادات وأعراف القبائل، وعلى إثر ذلك اتخذ القحاطي "قراراً إنسانيا وأخلاقياً كبيراً ونادراً".

القبيلة والدولة

منذ بدء تشكل نظام الدولة حديثاً في اليمن، على مستوى شطري البلاد بعد ثورتي سبتمبر/أيلول 1962 شمالاً و14 أكتوبر/تشرين الأول1963 جنوباً، وصولاً إلى اليمن الموحد بعد العام 1990، بقي حضور القبيلة ودورها، أحد أبرز القضايا الجدلية، ففي مقابل تجذر حضور القبيلة في المجتمع،  بقيت الدولة في حالة من الحضور المتفاوت جغرافياً وعدم الاستقرار بصورة عامة، الأمر الذي أسهم بتقوية شوكة القبيلة واجترارها دورها على حساب الحكومات المتعاقبة.

 

رجال قبائل يمنية يجتمعون في ساحة عامة لقراءة "قرارات" القبيلة. - العُرف القَبَلي في اليمن خصوصاً في شماله وشمال شرقه.  Jemen Das Stammesregime in Jemen Foto Fouad Al-Harazi
كلمات خطابية تحث على التسامح وطي الخلافات: يأخذ دور القبيلة في حل المنازعات أعرافاً سائدة في مناطق باليمن، من أبرزها "الهَجَر" أو "التحكيم"، وهي عملية تشمل اجتماع وجهاء القبائل والمحكمون إلى منزل المجني عليه في قضية ما، وتجري عملية ذبح "ثيران" ليتم إطعام الحاضرين في الفعالية وتُردد الأحكام التي يقرها "المحكمون" من كبار الوجهاء والكلمات الخطابية التي تحث على التسامح وطي الخلافات، في عملية تمثل شكلاً من التضامن ورد الاعتبار النفسي والإلزام المباشر وغير المباشر لمن يتم تحكيمه، بحيث لا يمضي بالثأر.

 

وعلى الرغم من أن النفوذ السياسي لشيوخ القبائل يثير حفيظة السلطات وقطاع غير قليل من السكان ويتحول أحياناً إلى عقبة في طريق القانون، إلا أن الجزء المتعلق بالمنازعات وقضايا الثأر والقتل ونحوها، بقي الوسيلة الأكثر مرونة في مجتمع مسلح لا تفلح فيه هذه الجهود بصورة دائمة، لكنها تبقى حاضرة بصورة أو بأخرى.

هذا الحضور لا يقتصر على جانب المنازعات الفردية أو القبلية، فحتى في الجانب السياسي كان للوساطات القبلية حضورا كواجهة للمساعي بين أطراف النزاع، أو كوفود مكلفة من الحكومة للتفاوض مع مجموعات مسلحة، وهو ما حصل بمحطات عدة أثناء المواجهات بين القوات الحكومية وبين جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بدءاً من عام 2004، قبل أن تتمدد الأخيرة لتسيطر على العاصمة صنعاء وغيرها من المدن أواخر العام 2014.

عادات وأعراف وقوانين

يأخذ دور القبيلة في حل المنازعات أعرافاً سائدة، من أبرزها "الهَجَر" أو "التحكيم"، وهي عملية تشمل اجتماع وجهاء القبائل والمحكمون إلى منزل المجني عليه في قضية ما، وتجري عملية ذبح "ثيران" ليتم إطعام الحاضرين في الفعالية وتُردد الأحكام التي يقرها "المحكمون" من كبار الوجهاء والكلمات الخطابية التي تحث على التسامح وطي الخلافات، في عملية تمثل شكلاً من التضامن ورد الاعتبار النفسي والإلزام المباشر وغير المباشر لمن يتم تحكيمه، بحيث لا يمضي بالثأر.

 المستشار القانوني اليمني عبد السلام المخلافي. Jemen Das Stammesregime in Jemen Abdul Salam Al -Mikhlafi Foto Safia Mahdi
تشابه كبير في هيكلة النظام القضائي الرسمي والعرفي: في العديد من الحالات في اليمن يبدو النظام في مناطق في اليمن خليطاً من الأعراف والسياسة والمبادئ الدينية، بالجمع بين "الديّة" و"التحكيم"، إلى جانب وجود حالة من "التشابه الكبير في هيكلة النظام القضائي الرسمي والعرفي من حيث درجات التقاضي"، كما يقول المستشار القانوني عبد السلام المخلافي. والذي يوضح أن عملية "التحكيم" باتت عملية نظمها القانون اليمني، إلا أن القانون نفسه يحظر التحكيم في المسائل الجنائية، التي يصادف -وفق المتحدث- أنها "تشكل معظم القضايا المعالجة وفقا للقواعد العرفية المحلية" التي تتباين بنسب محدودة جدا من منطقة يمنية إلى أخرى.

وفي العديد من الحالات، يبدو النظام خليطاً من الأعراف والسياسة والمبادئ الدينية، بالجمع بين "الديّة" و"التحكيم"، إلى جانب وجود حالة من "التشابه الكبير في هيكلة النظام القضائي الرسمي والعرفي من حيث درجات التقاضي"، كما يقول لـ دويتشه فيله عربية المستشار القانوني عبد السلام المخلافي. والذي يوضح أن عملية "التحكيم" باتت عملية نظمها القانون اليمني، إلا أن القانون نفسه يحظر التحكيم في المسائل الجنائية، التي يصادف -وفق المتحدث- أنها "تشكل معظم القضايا المعالجة وفقا للقواعد العرفية المحلية" التي تتباين بنسب محدودة جدا من منطقة يمنية إلى أخرى.

"نظام فاعل" تعزز في فترة الحرب

يعتبر اليمن كما يرى القانوني المخلافي "من البلدان القليلة في العالم التي ما زالت منظومتها القانونية العرفية فاعلة ومؤثرة في كافة مناحي الحياة"، حيث "النظام القانوني العرفي فاعل جداً في الحد من قضايا الثأر ومعالجة قضايا القتل"، ويتضمن قواعد عرفية تتطرق لـ"تفاصيل كثيرة جدا" ونُظمت كذلك بـ"طرق فريدة لها احترامها المتوارث عند السكان"، وتنظم العلاقات بين القبائل والجماعات والأفراد في زمن السلم والحرب.

وفي هذا السياق، جاءت الحرب التي تعيشها البلاد منذ سنوات، لتعزز النظام القبلي على إثر انهيار مؤسسات الدولة، وبرأي المخلافي فإنه عند المقارنة بين القضاء الرسمي والعرفي في فترة الحرب "تبدو مزايا القضاء العرفي أوفر خدمة للمجتمع والذي يعزى إلى عدم ثقة السكان بالنظام القضائي الرسمي"، إذ أن الأخير تغلب فيه إجراءات التطويل وتنفذ إليه هيمنة السلطة، كما يعاني من مشاكل هيكلية ليس أبرزها انعدام الكفاية المالية والمعيشية لأعضاء السلطة القضائية وغياب الكادر الشاب في الهيكل القيادي.

العُرف القَبَلي في اليمن خصوصاً في شماله وشمال شرقه - رجال قبائل يمنية يجتمعون في ساحة عامة لقراءة "قرارات" القبيلة. Jemen Das Stammesregime in Jemen Foto Fouad Al-Harazi
"النظام القبلي" يسود بشكل أكبر في مناطق شمال وشمال شرق اليمن: حيث بقيت هذه المناطق منغلقة على نفسها لفترة زمنية طويلة وبعيدة عن التنمية والتعليم وغياب مؤسسات الدولة الخدمية والسياسية، فيما ينحسر دور القبيلة في مناطق جنوب وجنوب غرب البلاد مثل تعز وعدن والحُدَيْدة. القانوني محمد المخلافي يرى أن "النظام القانوني العرفي في اليمن فاعل جداً في الحد من قضايا الثأر ومعالجة قضايا القتل".

 

من جانبه، يقول الباحث محمد الولص لـ دي دبليو عربية، إن الكثير من الأعراف، تشكل "حماية للمظلوم ومساندة للضعيف" وكذلك إغاثة "المستجير"، وتعمل على تأمين طرق القبائل فيما بينها، كما أن هناك أحكاماً قاسية في الأعراف القبلية "على من يرتكب الجرم الكبير مثل العيب والنهب وقتل النساء والأطفال". وهي أحكام ردعية تسعى للحد من ظواهر التقطع والقتل والسلب.

محدودية رغم المرونة

المحلل السياسي اليمني مصطفى ناجي. Jemen Das Stammesregime in Jemen  Mustafa Nagi Politikwissenschaftler Foto Privat
"رغم فاعلية النظام القبلي وسرعته في البت في القضايا إلا أن هذا النظام يظل محدوداً": النظام القبلي يمثل إطارا اجتماعيا لحل المنازعات فإنه يعوِّض غياب الإطار المؤسسي، ويحُول أحيانا دون حضور الأخير في الفضاء القبلي، كما يتسم باعتماده على "مدونة" مرنة غايتها تعزيز التلاحم في المجتمع وترسيخ الاستقرار، إلا أن نفوذه يتمدد عكسياً مع الشريعة الدينية والقانون الوضعي، برأي المحلل السياسي مصطفى ناجي. والذي يتابع أنه رغم الفاعلية والسرعة في البت في القضايا لهذا النظام يظل "محدوداً في قدرته في طبيعة القضايا التي تعامل معها وفي القدرة على تحقيق الإنصاف". المحلل السياسي اليمني مصطفى ناجي يرى أن قدرة النظام القبلي محدودة في بعض القضايا.

وكما أن النظام القبلي يمثل إطارا اجتماعيا لحل المنازعات فإنه يعوِّض غياب الإطار المؤسسي، ويحُول أحيانا دون حضور الأخير في الفضاء القبلي، كما يتسم باعتماده على "مدونة" مرنة غايتها تعزيز التلاحم في المجتمع وترسيخ الاستقرار، إلا أن نفوذه يتمدد عكسياً مع الشريعة الدينية والقانون الوضعي، برأي المحلل السياسي مصطفى ناجي في حديثه لـ دويتشه فيله عربية. والذي يتابع أنه رغم الفاعلية والسرعة في البت في القضايا لهذا النظام يظل "محدوداً في قدرته في طبيعة القضايا التي تعامل معها وفي القدرة على تحقيق الإنصاف".

قدمت واقعة العفو محل الحديث في مأرب، صورة استثنائية اختلط فيها البعد الإنساني بالعرف القبلي بالقانون الرسمي، في موقف استقبله المجتمع بالإشادات والمدائح، ومع ذلك، وبينما كان الشيخ عبدالله القحاطي، يعلن العفو من منصة الساحة التي قُدم إليها المعفو عنه بثياب الإعدام، لم تستطع عيناه إخفاء ملامح الحزن، لكن القصاص في حالته، لم يكن ليحقق أكثر مما حققه بموقف العفو.

تجدر الإشارة إلى أن "النظام القبلي" يسود بشكل أكبر في مناطق شمال وشمال شرق اليمن، حيث بقيت هذه المناطق منغلقة على نفسها لفترة زمنية طويلة وبعيدة عن التنمية والتعليم وغياب مؤسسات الدولة الخدمية والسياسية، فيما ينحسر دور القبيلة في مناطق جنوب وجنوب غرب البلاد مثل تعز وعدن والحُديدة.

 

 

صفية مهدي - صنعاء

حقوق النشر: دويتشه فيله 2023

 

 

ar.Qantara.de